ريم نجمى تكتب عن: هشاشة الحياة

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

تحتاج الكتابة عن الزلزال الذى ضرب المغرب لمسافة زمنية لاستيعاب ما حدث. فالصدمة هى عنوان هذه التجربة الجماعية التى مرَّ بها المغاربة، لأن المناطق التى هزها الزلزال لم تكن من قبل مصنفة كمنطقة زلازل. بالنسبة إلىَّ أستطيع أن أقول إننى كنت هناك وفى تلك اللحظة بمحض المصادفة، إذ قررت بشكل عفوى أن أزور المغرب لأيام قليلة على عكس العادة التى تتطلب دائماً زيارات طويلة ومخطط لها.

فى لحظة الزلزال كنت مع صديقتى فى مدينة سلا الجديدة المحادية للرباط. كنا نتناول العشاء، غارقتين فى الطمأنينة والحكايات والمزاج الرائق ونحن نشاهد مسرحية «شاهد ماشفش حاجة» التى أذيعت على قناة مصرية. ثم بدأت أشعر باهتزازات خفيفة، ذكرتنى بالاهتزازات التى أشعر بها فى بيتنا فى الرباط عندما يمر القطار من تحت البيت، لذلك ربما لم أعر الأمر اهتماماً، خاصة وأن صديقتى لم تتفاعل كذلك مع تلك الاهتزازات. ثم بدأت الأرض تتحرك أكثر وتهتز، ولم يعد هناك مجال للشك بأنه الزلزال.

اقرأ ايضاً| حسن نجمى:ارْتجَاجُ الأَرض

وقفت بسرعة ونظرت إلى صديقتى التى كانت لا تزال جالسة فى مكانها وقلت لها «إنه الزلزال!»، كان جلبابى المغربى فى متناول يدى وهاتفى النقال أيضاً، واتجهت مسرعة باتجاه الباب المقفل بالمفتاح. قلت لصديقتى: «اعطنى المفتاح وهيا نخرج بسرعة!» لكن لم يكن ممكناً أن تخرج من غير حجابها ولباسها الشرعى وكانت تبحث عن الإسدال.. لاحقاً قلت لها إنها ذكرتنى بحكاية «اللى اختشوا ماتوا» هؤلاء الناس الذين ماتوا فى الحمام بعد أن اشتعلت فيه النيران واستحوا الخروج عاريين. 

خرجنا إلى السلم وكان الجيران والأطفال يتسارعون وأنا أكمل ارتداء جلبابى، ولأن المغاربة غير معتادين على الزلزال، بدأت الآراء تتضارب: من يقول نطلع إلى السطح ومن يقول ننزل ونبتعد عن البناية، بينما رأى آخرون أن البحر أسلم…

كان أول ما فكرت فيه عائلتى فى الرباط، فاتصلت ولم تكن هناك شبكة، يبدو أن الضغط كان عالياً على الاتصالات فى تلك الدقيقة والتى بدت لى واحدة من أطول دقائق العمر. فكرت فى ابنى الصغير فى الضفة الأخرى من النهر وفكرت فى والدى وجدتى.. كنت محظوظة أن هاتفى سارع إلى التقاط الإشارة وطمأننى والدى على الجميع.

ثم تعال الصراخ والبكاء، كانت هناك مشاهد مؤلمة تزيد من ارتباك اللحظة والقلق السائد فى هواء المدينة: نساء يتعانقن ويبكين وأطفال يلتصقون بأمهاتهن، فى حاجة إلى من يقول لهم إن كل شىء على ما يرام، بل هناك من تحول خوفه إلى ضحك هيسترى...

وعلى عكس ما ينبغى فعله بعد الزلزال عدت وصديقتى إلى البيت، أخذنا بعض الأغراض ثم استقلينا السيارة. فى تلك اللحظة بدأت أستعيد حسى الصحفى فى توثيق اللحظة فى الشارع وسؤال الناس الذين كان أغلبهم يفترش الأرصفة أو الأرض. وكلما مر الوقت كلما بدأ الناس يستعيدون توازنهم. 

قضينا بقية الأمسية فى السيارة وتحول الهلع إلى حالة من التأمل فى ما وقع واستخلاص أهم درس وهو «هشاشة الحياة». ولأننا لم نكن ندرك حجم الكارثة بعد والتى حدثت فى جنوب البلاد، كنا نبتسم ابتسامة النجاة ونعتقد أن الأمور وقفت عند هذا الحد. كانت القناتان المحليتان تواصلان البرمجة العادية وحتى الصور الأولى التى بثتها قناة الجزيرة من مراكش لمبانٍ قديمة متساقطة لم تكن توحى بحجم الكارثة.

ربما لذلك عدنا إلى البيت فى ساعة متأخرة لننام على عكس ما ينبغى فعله فى حالة الزلزال، تحسباً لهزات ارتدادية. صليت ركعتين وقلت التعبير المغربى الدارج: سأنام فى «يد الله». عبارة مغربية شائعة تستخدم عند القيام بأى فعل، تاركين لله تدبير الأمور.

فى الصباح كانت الصدمة أكبر من صدمة الزلزال، عندما شاهدت صور الخراب والموت، خاصة فى مراكش ونواحيها، والتى كنت وللمصادفة قد حجزت فيها فى ذلك اليوم تحديداً غرفة فى أحد الفنادق أنا وعائلتى، حيث كنا ننوى قضاء نهاية الأسبوع هناك. وفى عز تلك الصدمة اتصل بى مديرى من برلين يسأل عن إمكانية تغطية إخبارية أقوم بها من مراكش، الأمر الذى لم أتردد فى القيام به والاقتراب من المشهد أكثر.

الطريق إلى مراكش كانت غير اعتيادية بسبب شاحنات الإنقاذ والإعانة التابعة للجيش المغربى. مشهد غريب على جيلى الذى لم يشهد أحداثاً سياسية كبرى أو كوارث طبيعية بحجم هذا الزلزال. فى سنة ٢٠٠١ مر زلزال خفيف على الرباط، حتى أن الكثيرين لم يتذكروه. بقى فى ذاكرتى لأنه ارتبط لدى بجنازة الممثلة الراحلة سعاد حسنى، حيث كنت أتابع جنازتها المهيبة فى لحظة الزلزال. كنت صغيرة ومهتمة بالجنازة إلى درجة أنى أعدت التليفزيون إلى مكانه بعد أن تحرك وتابعت المشاهدة، دون أن أفهم أن الأمر يتعلق بزلزال.

فى مراكش كان يمكن القول إن الحياة كانت عادية فى ساحة جامع الفناء الشهيرة لولا أكوام الحجارة والتراب هنا وهناك. غير أن المدينة احتفظت بطابعها الساحر الجميل، هى التى تُعرف فى السياق المغربى بمدينة البهجة. هناك اعتقد الناس فى بداية الزلزال أن الأمر يتعلق بعملية إرهابية، فى مدينة شهدت أحداثاً مماثلة على مدار الأعوام الماضية.

عودة الحياة شكلت نقطة ضوء فى سياق مظلم، ثم توالت نقط الضوء من مختلف الدول العربية والعالمية. تضامن مع المغرب فيه الكثير من الحب والدعم، أسعدنا كمغاربة وكان كيد كريمة تربت على أكتافنا ولا تزال.