ممدوح رزق يكتب :محاضرة فى المطار

ممدوح رزق يكتب :محاضرة فى المطار
ممدوح رزق يكتب :محاضرة فى المطار

فى روايته «محاضرة فى المطر» الصادرة عن منشورات تكوين بترجمة مارك جمال يقدم الكاتب المكسيكى خوان بيورو خلخلة لـ «مفهوم المحاضرة»، سواء على مستوى فضائها المكانى أو ذات «المُحاضِر» أو بنية المحاضرة نفسها. تعمل هذه الخلخلة على إزاحة الأصل المفترض للمحاضرة ـ أيًا يكن التصوّر الذى يحدده ـ وكذلك الغاية التى يجدر أن تنتهى إليها، أو ما يمكن أن يكون مقصدًا مصيريًا وحاسمًا لها.


«يقرأ للحظات، ويبتعد عن الصفحات للحظات، فلا يبدو عليه أنه يجهل فحواها وحسب، بل يبدو وكأنه يعيبها أيضًا، وعلى المكتب، تتجلى فى بعض التفاصيل مظاهر الاستخدام الشخصى غير المعهودة فى مُحاضِر يلقى محاضرته على الملأ، ربما كانت هناك كرة تنس يتلهَّى بها المُحاضِر، أضف إلى ذلك فأرًا يعمل بالزنبرك، وبضع قطع من الكعك. أما حضور تلك العناصر المنزلية، الذى يبعث على الحيرة فى البدء، فيعزز المغزى النهائى الذى تنطوى عليه الحجرة، ما يسرى بالمثل على ثياب المُحاضِر، الثياب التى لا تليق بلقاء عام على نحوٍ ما».

اقرأ ايضاً| د. محمد سمير عبد السلام يكتب : حكاية السيدة التى سقطت فى الحفرة


تنزع هذه الخلخلة بالضرورة اليقين عن «المخاطب إليه»، أى من تتوجه إليه المحاضرة؛ فيصبح احتمالًا متعددًا ومتغيرًا داخل الذات «المتصدعة» للمُحاضِر من قبل أن يكون «آخر» مجسدًا فى مواجهته. بذلك تتحوّل «المحاضرة فى المطر» إلى «المطر الذى يحاول أن يتكلم / يكتب» نفسه بعد «استرداد» المحاضرة لطبيعة المطر نتيجة هذه الخلخلة. تصبح المحاضرة فى حالة محو مستمرة لصالح «المطر».


«(المُحاضِر): لقد أضعتُ الأوراق! (يقلِّب الصفحات). أجل، لقد أضعت المحاضرة. أطلب المعذرة. إن فقد المرء أوراقه، فقد وقاره. لا أدرى ما الذى يجرى لي. إن حياتى كلها تدور حول النظام، فأنا أشتغل فى ترتيب مكتبة، وعلى الرغم من ذلك، تنسل الأشياء من بين يديّ».


إن عدم ملاءمة التفاصيل المكانية لطقس «المحاضرة»، كما يتطلب المشهد التقليدى لإلقائها، لا يعنى فقط الإمكانية غير المحدودة لاستبدال المكان، وإنما الإيحاء أيضًا بأن «المحاضرة» فى صورتها «التخريبية» تحديدًا هى التى تخلق مكانها، تكتشف باستمرار الأنقاض الجمالية للمكان مثلما تكتشف الأشلاء المعرفية للمُحاضِر ذاته وراء المظهر النمطى للمحاضرة. «ضياع المحاضرة» إذن أو «تضييعها» هو إغواء دائم لتخطى «الشكل المستقر» نحو الحضور المرتجل أو «الوهم الطائش للحضور» الكامن فى أغوار ما هو «طبيعي» و«لائق» و«متزن»، والذى تتوحد وتتجادل من خلاله أنقاض المكان بأشلاء المُحاضِر بفعل «كتابة» المحاضرة لنفسها. الكتابة التى تفكك نفسها بما ينسجم مع كونها «مطرًا».


«لم أفكر فى قراءة محتوى الأوراق، وإنما الارتجال مستعينًا على ذلك بالمسودة، فأنا فى حاجة إلى تدوين الترتيب الذى أسرد به الموضوعات، والاقتباسات، والأسماء المراوِغة».
أى علاقة تربط بين «إزاحة الأصل والغاية» للمحاضرة وبين «ألم الغاضبين» الذى كان يتأمله دانتي: «أصحاب الطباع الحادة العالقين فى سريرة النفس»، والذين يرى «المُحاضِر» فيهم ذاته إلى حد بعيد؟ إنه ذلك الغضب الذى لا يكتفى برفض حكمة الأصل وإنما يتجاوزه نحو الانتقام من هيمنتها، الذى لا يقنع بعدم الاعتراف بالغاية القدرية وإنما يتعداه إلى الثأر من إكراهاتها، «المطر! الكائن الحر قادر على تغيير السماء»، هكذا تبدو المحاضرة فى «تمزقها» نوعًا من المجابهة الساخرة لما يكوّن «الأصل» و«الغاية». للمبررات والإلزامات المحصنة بالقداسة التى تُشكل «البداية» و«النهاية». لما يختبئ وراء كل البدايات والنهايات.


«(يتوجّه المُحاضِر بالحديث إلى أحد الحضور)، من أكون فى نظر ذلك الشارد الذى يسعى إلى الاحتماء من المطر بجريدة، فيصل إلى القاعة وقد التصق شطر من الملحق الرياضى بوجنته؟ إنه لا يعرفني، ولا يهتم بالموضوعات التى أطرحها، ولكن حتى ذلك الشخص قد ينشأ بينى وبينه رابط ما».


المخاطب إليه أو «الاحتمال» داخل ذات «المُحاضِر» ليس شخصًا مٌتعيّنًا قابلًا للتبدل إلى شخص آخر يتسم بـ «واقعية» ما، ولكنه بالأحرى الأشباح المتعددة والمراوغة داخل هذا المتعيّن. الأشباح التى لا تتمثل حسيًا وتُشكّل العتمة الباطنية لـ «المُحاضِر» التى يحاول تقويضها.


(يشرب ماء). إن حيلة المُحاضِر الكبرى: أن يشرب الماء. الأمر الذى يُظهِر أنه ممسك بزمام الموقف، كما يُشعره بالارتياح. وربما لجأ المُحاضِر إلى الوقفة أيضًا.


يُلاحظ أن خوان بيورو يدفع «المُحاضِر» للحديث والحركة كما لو أنه ـ ظاهريًا ـ يسعى لإلقاء محاضرة حقيقية، يطارد السيطرة، ويؤدى الحيل المألوفة لبلوغها، كما يراوده الأسى والارتباك أمام العثرات الرابضة فى طريق كلماته؛ لكن ذلك يبدو تقمصًا هازئًا لصفة «راعى المتن» التى لا يتوقف من ورائها عن هدم رصانته وبعثرة دمائه. 


«لعلك تتساءل عمّا إذا كانت فكرة تأليف كتاب قد أغوتني، وعمّا إذا كنت أرغب فى الانتماء بدورى إلى ذلك المتحور الراقى من الثدييات: أى المؤلف. كلا البتة! لست فى حاجة إلى وسم كتاب باسمي، كما توسم الأغنام المنساقة إلى المجزر».


«المحاضرة» ـ بهذه الكيفية ـ هى ما يضمن للصفحات أن تبقى مطرًا فعليًا، وليس «مطرًا مجازيًا» بين دفتى كتاب. «إن العالم قائم على قيد الوجود حتى يصير كتابًا». يستند «المُحاضِر» إلى مقولة مالارميه فى شرح سبب رفضه لأن يقترن اسمه بكتاب. «إن كل ما يحيط بنا كتاب، والمكتبة نبذة توجزه للقارئ». ربما يرى فى ذلك الطريقة الأنسب للانغماس فى تصدعه، للعب بهذا التصدع، لاستعماله كطريقة مُثلى لمخاطبة الأشباح اللاهية فى أعماقه. لتحريض الأشباح على مخاطبته. مازلنا بالطبع نتحدث عن «الغضب».


«بالمطر يتحرر الشعراء من العالم، ويثيرون فى النفوس شجنًا هيّنًا على النفس، يليق بيوم غائم، حين لا تُعتبر حتى أسوأ الأشياء مروّعة تمامًا. هكذا يتخيّل الشاعر ثيسار بايّيخو أنفاسه الأخيرة: «سأموت فى باريس تحت وابل من المطر، فى يوم تحضرنى ذكراه قبل أن يجيء»، جميل هو الحزن الذى يمكن تذكّره. والشاعر يستبق نهايته وكأنها شيء قد لقيه فيما مضى، بل ويذكره أيضًا، ذات خميس، تحت المطر. إنه الخيال السامي». 


هل يمكن عزل ما يُعد جوهرًا «رومانسيًا» ربما للمطر عن كونه «تفكيكًا وتناثرًا» للكلمات  الجسد العالم أو لـ «الحضور المتوهم»؟ ربما يكمن سر هذا الاستفهام فى محاولة الإجابة على تساؤل آخر: إلى أى مدى يمكن للشعور بـ «الشجن الهيّن على النفس» أن يصمد؟ الشعور الناجم عن المطر «حين لا تُعتبر حتى أسوأ الأشياء مروعة تمامًا».

هكذا تُعيد «المحاضرة» تعريف «الرومانسية» بشكل مناقض، يعتمد على عدم الاستسلام لها، ليس هناك ما يضمن لـ «الشجن» أن يبقى مروّضًا لحظة أن نكون «مطرًا»، حتى لو كان «مطرًا مائلًا لا يُفسد شيئًا» كما كان يحب فرناندو بيسوا. ليس هناك ما يضمن أن تبقى أسوأ الأشياء «غير مروّعة تمامًا» حين نتحوّل إلى ما يُسمّى بـ «الخيال السامي»، إن «اليوم الغائم» قد يتيح لنا ـ ببساطة ـ أن نشعر ونفكر ونفعل أى شيء ممكن، فقط ثمة ذاكرة حينئذ إما أنها هنا أو عالقة فى الغياب. ذاكرة «الخلخلة» التى ربما ليس بوسعها أن تسمح أو تمنع، ولكنها تمثل حال وميضها انتباهًا شاحبًا إلى أننا مجرد «محو لما لم يوجد أصلًا». أن المطر دليل دامغ لذلك. بهذا تأمن رومانسية «اليوم الغائم» من التهديد والنبذ. حين تكون مضادة لوعدها بأن تكون أمانًا أو شيئًا منه. حين تُقيّد «غيبيتها».


«قلّما تفوّق شيء على استسلام المرأة التى أمضت يومها كاملًا بمزاج عكر. إنها مرتبة عليا من مراتب النصر، كأن يكتشف المرء واحة بعد أن قطع الصحراء. وهكذا كانت سوليداد تترك فى نفسى ذلك الأثر المتباين: اللذة المؤجلة طويلًا، شبه المستحيلة، النابعة من مزاجها شديد السوء».


عندما نفكر فى الغضب تجاه الأصل والغاية فنحن نفكر بالتالى فى الشبق الوحشى للاستحواذ الشامل على النقائض الذى يكوّن الغاضب، خاصة لما يُعد مستحيلًا وعسيرًا وبالغ العناد والغرابة كاستعادة المُحاضِر لأبيه بصورة «حقيقية» خارج الظلام، متخلصًا من الكراهية والفناء. للامتلاك المطلق كقرين للانتقام من الحكمة. كأنها الغريزة الكلية لدى الغاضب فى خلق قدر تدميرى لـ «القدر». القبض على النشوة الإعجازية التى تستبعد ما يتأسس عليه ويعنيه ويُحتّمه «القدر».


«لم أتمكن من رؤية وجهه، حتى وإن ألفت عيناى الظلام. ربما كان السبب فى ذلك خوفى من رؤية أمارات الكراهية والإحباط بادية على وجهه. أحيانًا أفكر فى أن ذلك الوجه الذى عجزت عن رؤيته، وأردت الهرب منه، كامن فى جميع الكتب التى قرأتها... وجه أبى الذى كره الآخرين، وكره نفسه أكثر من كل من عداه، من دون أن يدرى ما العمل ولا إلى أين الذهاب، وهو الغارق فى المطبخ، بينما أسرته مستغرقة فى النوم. لا تحدثت إلى أبى يومًا، ولا عرفت كيف أتحدث إليه».


لكن الاستحواذ ليس مُدرَكًا لدى الغاضب، ولا ينبغى أن يكون كذلك، إنه كفاح «سيزيفي» يدمج بين الإيمان والإنكار ويتجاوزهما. ذلك ما يجعل «الشبق الوحشى للاستحواذ على النقائض» مطرًا. تأرجحًا تهكميًا ومأساويًا بين الأفكار والتدابير والمحاولات والمشاعر والمسودات. ذلك ما يجعل تشريح العجز عن الامتلاك المطلق هو «الانتقام الفعلي» من الحكمة. كأن «القدر التدميري» غير القادر على التجسد يستهدف ذات الغاضب، باعتبار أن هذه الذات هى «القدر الذى لا ينتمى إليه الغاضب»، ما ينتجه الفشل فى القبض على «النشوة الإعجازية التى تستبعد ما يتأسس عليه ويحتّمه القدر» هو الشرود الجمالى الذى لا يستعبده «الجمال». فوضى الفكر التى تراوغ نظامه المنشود. ما ينتجه هذا الفشل هو الأحلام. الشذرات الخاطفة، بكامل حميميتها الاستثنائية وعذابها المتفرد، كـ «مطر» يخط احتضارًا غامضًا لحياته التى لم تحدث.


«لم يكن صمت سوليداد شديد الوطأة، وما كان يجب كسر ذلك الصمت. «تروقيننى متى سكتِّ، إذ تصبحين كالغائبة»... مرة أخرى، نيرودا. كانت الحياة عند نيرودا غرَق المرء فى ذاته. أحتفط بذكريات طيبة تركتها سوليداد، ولكن الفأر قد قرّب كلًا منا إلى الآخر بطريقة خاطئة».