خواطر الإمام الشعراوى| الله يمهلنا لتدارك أنفسنا

الشيخ الشعراوى
الشيخ الشعراوى

يواصل الشيخ الشعراوى خواطره حول الآية 209 من سورة البقرة بقوله: عندما نرى أحداث الحياة تضطر البلاد الغربية عندما يجدون خطأ تقنينهم فيحاولون أن يعدلوا فى التقنيات فلا يجدون تعديلا إلا أن يذهبوا إلى أحكام الإسلام، لكنهم لم يذهبوا إليه كدين إنما ذهبوا إليه كنظام، إن رجوعهم إلى الإسلام لدليل وتأكيد على صحة وسلامة أحكام الإسلام، لأنهم لو أخذوا تلك الأحكام كأحكام دين لقال غيرهم: قوم تعصبوا لدين آمنوا به فنفذوا أحكامه.

ولكنهم برغم كرههم للدين، اضطروا لأن يأخذوا بتعاليمه، فكأنه لا حل عندهم إلا الأخذ بما ذهب إليه الإسلام. إذن قول الله: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون» قوة لنظام الإسلام، لا لتؤمن به وإنما تضطر أن تلجأ إليه، وكانوا فى إيطاليا على سبيل المثال يعيبون على الإسلام الطلاق ويعتبرونه انتقاما لحقوق المرأة، ولكن ظروف الحياة والمشكلات الأسرية اضطرتهم لإباحة الطلاق، فهل قننوه لأن الإسلام قال به؟ لا، ولكن لأنهم وجدوا أن حل مشكلاتهم لا يأتى إلا منه.

وفى أمريكا عندما شنوا حملة شعواء على تناول الخمور، هل حاربوها لأن الإسلام حرمها؟ لا، ولكن لأن واقع الحياة الصحية طلب منهم ذلك. إذن «وَلَوْ كَرِهَ الكافرون»، «وَلَوْ كَرِهَ المشركون»: معناهما أنهم سيلجأون إلى نظام الإسلام ليحل قضاياهم، فإن لم يأخذوه كدين فسوف يأخذونه نظاما. «فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جاءتكم البينات فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ» أى إياكم أن تظنوا أنكم بزللكم أخذتم حظوظ أنفسكم من الله، فإن مرجعكم إلى الله وهو عزيز وعزته سبحانه هى أنه يَغلب ولا يُغلب، فهو يدبر أمورنا برحمة وحكمة. ويقول الحق بعد ذلك فى الأية 210: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِى ظُلَلٍ مِّنَ الغمام وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ « أى ماذا ينتظرون؟ هل ينتظرون أن تداهمهم الأمور ويجدوا أنفسهم فى كون وإن أخذ زخرفة فهو يتحول إلى هشيم تذروه الرياح، ويصير الإنسان أمام لحظة الحساب. وقوله: «هَلْ يَنظُرُونَ» مأخوذة من النظر، والنظر هو طلب الإدراك لشيء مطلق. وطلب الإدراك لأى شيء بأى شيء يُسمى نظرا، ومثال على ذلك أننا نقول لأى إنسان يتكلم فى أى مسألة معنوية: أليس عندك نظر؟ أى هل تملك قوة الإدراك أم لا؟ إذن فالنظر هو طلب الإدراك للشيء، فإن طلبت أن ترى فهو النظر بالعين، وإن طلبت أن تعرف وتعلم؛ فهو النظر بالفكر وبالقلب. وأحيانا يُطلق النظر على الانتظار، وهو طلب إدراك ما يتوقع. و «هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله»، يعنى هل ينتظرون إلا أن تأتيهم الساعة وتفاجئهم فى الزمن الخاص؟ لأنها لن تفاجئ أحدا فى الزمن العام، فسوف يكون لها آيات صغرى وآيات كبرى، ومعنى أن لها آيات صغرى وكبرى، أن ذلك دليل على أن الله يمهلنا لنتدارك أنفسنا، فلا يزال فاتحا لباب التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها، وساعة نسمع قوله تعالى: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله» نقول: ما الذى يؤجل دخولهم فى الإسلام كافة؟ ما الذى ينتظرونه؟ تماما كأن تقول لشخص أمامك: ماذا تنتظر؟ كذلك الحق يحثنا على الدخول فى السلم كافة وإلا فماذا تنظرون؟ و«إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِى ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة» ساعة تقول: «يَأْتِيَهُمُ الله» أو (جاء ربك) أو يأتى سبحانه بمثل فى القرآن مما نعرفه فى المخلوقين من الإتيان والمجيء وكالوجه واليد، فلتأخذه فى إطار »لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ« فالله موجود وأنت موجود، فهل وجودك كوجوده؟ لا. إن الله حى وأنت حي، أحياتك كحياته؟ لا. والله سميع وأنت سميع، أسمعك كسمعه؟ لا. والله بصير وأنت بصير، أبصرك كبصره؟ لا. وما دمت تعتقد أن له صفات مثلها فيك، فتأخذها بالنسبة لله فى إطار «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ». ولذلك يقول المحققون: إنك تؤمن بالله كما أعطاك صورة الإيمان به لكن فى إطار لا يختلف عنه عمَّا فى أنه «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ»، وإن أمكن أن تتصور أى شيء فربك على خلاف ما تتصور، لأن ما خطر ببالك فإن الله سبحانه على خلاف ذلك، فبال الإنسان لا يخطر عليه إلا الصور المعلومة له، وما دامت صورا معلومة فهى فى خلق الله وهو سبحانه لا يشبه خلقه. إن ساعة يتجلى الحق، سيفاجئ الذين تصوروا الله على أية صورة، أنه سبحانه على غير ما تصوروا وسيأتيهم الله بحقيقة لم تكن فى رءوسهم أبداً؛ لأنه لو كانت صورة الحق فى بال البشر لكان معنى ذلك أنهم أصبحوا قادرين على تصوره، وهو القادر لا ينقلب مقدوراً عليه أبداً، ومن عظمته أن العقل لا يستطيع أن يتصوره مادياً. ولذلك ضرب الله لنا مثلاً يقرِّب لنا المسألة، فقال: «وفى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ» «الذاريات: 21». إن الروح الموجودة فى مملكة جسمنا والتى إذا خرجت من إنسان صار جيفة، وعاد بعد ذلك إلى عناصر تتحلل وأبخرة تتصاعد، هذه الروح التى فى داخل كل منا لم يستطع أحد تصورها، أو تحديد مكانها أو شكلها، هذه الروح المخلوقة لله لم نستطع أن نتصورها، فكيف نستطيع أن نتصور الخالق الأعظم؟.