حمام السلام يقترب من سماء «أوكرانيا»

مفاوضات إسطنبول للتسوية كادت تنهى الأزمة
مفاوضات إسطنبول للتسوية كادت تنهى الأزمة

■ كتب: أيمن موسى

رسالتان متناقضتان خرجتا من روسيا، الأولى هى تغريدة على صفحة ديمترى ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسى ورئيس الوزراء السابق، وكذلك الرئيس السابق للدولة الروسية، حيث علق على المؤتمر الذى عُقد فى المملكة السعودية للتسوية فى أوكرانيا بقول إن التسوية ينبغى أن تقوم على ثلاثة عوامل أساسية، وأولها هو مشاركة طرفى النزاع فى المباحثات، والثانى هو مراعاة الواقع الملموس، والثالث هو مراعاة الحقائق التاريخية وعلى رأسها أن أوكرانيا قبل 1991 لم يكن لها وجود، وأنها مجرد دولة قامت على «شظايا الدولة الروسية»، وأكمل رسالته بأنه «لن يكون هناك سلام ما لم يركع العدو ويطلب الرحمة».

وهى رسالة كما تبدو شديدة اللهجة وتنطوى على تشدد وإصرار على مواصلة الحرب وصولا إلى تحقيق الأهداف المرسومة بشكل كامل.

والثانية أنه بعد ذلك بأيام قليلة صدر تقرير عن ما يعرف بنادى فالداى الروسى للنقاش السياسى، وهو نادٍ مقرب من الكرملين، ويحرص الرئيس الروسى على التعبير عن آرائه من خلاله، وكذلك مراعاة ما يخرج عنه من تقديرات وتحليلات نظرا لأنه يضم عددا كبيرا من الخبراء والمتخصصين فى مختلف المجالات، وأعتقد أن هذا التقرير قدم صورة كاملة وشفافة بشكل كافٍ عن حقيقة تطور الأحداث فى أوكرانيا، ويؤكد بشكل لا يبعث على الشك أن روسيا من البداية لم تكن ترغب فى الحرب ولم تكن ترغب فى مواصلتها، وأن غايتها من البداية كانت هى التفاهم والاحترام المتبادل.

◄ السيناريو الروسي
ويذكر التقرير فى البداية أن روسيا ظلت تلح على الغرب لمراعاة اعتبارات أمنها ومصالحها القومية، إلا أن الغرب ظل يتجاهل هذه المطالب بينما ظلت أوكرانيا تتعرض بالأذى والعنف للمنحدرين من أصل روسى فى إقليم دونباص، إلا أن أهم شيء تعرض له التقرير هو أنه عندما تدخلت روسيا فى أوكرانيا كانت تعتقد أن الأمور ستؤول إلى المفاوضات فى فبراير أو مارس أو على الأكثر فى أبريل من عام 2022.

ونوه التقرير إلى أن ما كانت تخطط له روسيا حدث بالفعل، حيث اجتمع الجانبان الروسى والأوكرانى فى إسطنبول وتمكنا فعلا من التوصل لتفاهمات بشكل المسائل الأساسية، وهو ما كان سيقود لتوقف العلميات العسكرية بحيث تلتزم أوكرانيا بقوام متفق عليه لقواتها المسلحة وتحافظ على وضعها الحيادى، ولكن بعد أن عاد الوفد الأوكرانى إلى بلاده تبدلت الصورة بشكل جذرى حيث نجح الغرب فى إقناع القيادة الأوكرانية بمواصلة القتال وتعهد بتقديم الدعم الكامل لأوكرانيا لتحقيق النصر على روسيا.

ومن هنا بدأت الحسابات الخاطئة التى وقعت فيها القيادة الأوكرانية بإيحاء من الغرب، الذى تشير كافة الشواهد إلى أنه لم يكن يرغب فى التسوية من البداية وأنه التقط هذه الأحداث واعتبر أنها فرصة ذهبية لتوريط روسيا فى حرب طويلة الأمد تنهكها وتستنفد مقدراتها، ونسى الغرب وأوكرانيا فى غضون ذلك أن روسيا تمتلك اقتصادا ضخما متشعب القطاعات يمكِّنها من العيش بشكل جيد لفترة طويلة دون الحاجة لأحد كما تمتلك روسيا جيشا له القدرة على خوض عدة حروب فى وقت واحد وفى مختلف أنحاء العالم، وأخيرا نسى الغرب التجارب التاريخية التى من بينها تجربة الحرب العالمية الثانية التى لم تكسر الروس، بل خرجوا منها أقوى من ذى قبل ولم يستسلموا تحت أى ظرف من الظروف حتى لو اقتصر طعامهم على ورق الشجر، وحتى فى ظل الاتحاد السوفيتى والحصار الاقتصادى الغربى عليه لم يهن وحقق طفرات ضخمة على مستوى البشرية بشكل عام، ولذلك كان يتعين على الغرب إدراك أن العقوبات بالنسبة لروسيا لا تأتى بالنتائج المنشودة وإنما على العكس من ذلك، حيث زادت روسيا من إنتاجها وتنويعه والأكثر من ذلك هو أن الغرب فشل فشلا ذريعا فى فرض طوق عزلة على الدولة الروسية، التى على العكس نجحت فى توسيع دوائر علاقاتها وتعاونها مع دول العالم، بل عجلت من هذه الخطط بشكل كبير وشرعت رغم ظروف الحرب فى تعزيز تواجدها ونفوذها فى مناطق كانت قد أهملتها تحت ظروف تحسين التقارب مع الغرب والرغبة فى تعزيز العلاقات والتعاون معه.

◄ الحقيقة المنسية
وبالعودة إلى التقرير المشار إليه سوف يتضح خروج العديد من الإشارات من روسيا التى تدل بجلاء على الرغبة الصادقة للتفاوض للبحث عن حل، ولو عدنا إلى الوراء سواء فى المراحل الأولى للأزمة أو ما قبلها سوف نجد أن الرئيس الروسى ذاته تحدث مرارا عن أن روسيا ليس لديها أطماع فى الأرض، خاصة أنها تمتلك أكبر مساحة دولة على وجه الكرة الأرضية، وليس لديها أطماع فى ثروات الآخرين حيث إنها تمتلك أكبر احتياطيات من الثروات الطبيعية فى مختلف المجالات، وكل ما ترغب فيه هو العيش فى سلام وأمان مع الآخرين وبصفة خاصة الدول المجاورة لها، وبطبيعة الحال عدم التدخل فى شئونها ومراعاة مصالحها القومية على مختلف المستويات.

ويؤكد التقرير أن أكثر ما يدل على أن الغرب ماضٍ قدما على طريق توفير الحطب اللازم لنيران الحرب هو أنه يُسكِت كل صوت معارض للحرب، وأنه يبدى الصمم لأى صوت عاقل يشكك فى الحرب وأنه يرصد الاعتمادات المالية اللازمة لتوفير الأسلحة والذخيرة للحرب، وللأسف الشديد أن المساعدات الإنسانية ومساعدة الشعوب المتضررة من هذه الأحداث تأتى فى مرتبة متأخرة من اهتماماته إن لم تكن تغيب عنه.

كما يذكر التقرير ما سربه موقع ويكيلكس فى عام 2008 من مراسلة للسفير الأمريكى لدى روسيا ويليام بيرنيس الذى حذر فيه بشدة من أن التفكير فى ضم أوكرانيا فى حلف الناتو سوف تكون له عواقب وخيمة على المنطقة والعالم، لأن روسيا من ناحية سوف تشعر بالخطر والتهديد ولن تقف مكتوفة الأيدى، علاوة على أن الداخل الأوكرانى منقسم على نفسه فى هذه المسألة، وقد يصل الأمر إلى حد الحرب الأهلية التى ستمزق أوكرانيا ولن تقف روسيا أيضا مكتوفة الأيدى أمام هذه الأحداث.

◄ الرابح الأول
وهنا يتساءل التقرير عن المستفيد من هذا التطور فى الأحداث طالما أن الجميع يدرك جيدا أنه لا يمكن هزيمة روسيا فى هذه الحرب، وأن أوكرانيا سوف تخرج منها بكم ضخم من الخسائر وربما يتعرض كيان الدولة ذاتها للخطر، وطالما أن النخب السياسية والعسكرية الغربية تدرك بما لا يدع أى مجال للشك صحة هذه التقديرات، حيث يؤكد التقرير أن الإجابة الوحيدة على هذا السؤال تكمن فى قطاعات التصنيع العسكرى فى الدول الغربية التى تعتبر الرابح الأول من هذا الصراع، إلى جانب أباطرة التجارة والأزمات الذين يحققون أرباحا طائلة من الأزمات التى ترتبط بالنزاع فى أوكرانيا وعلى رأسها أزمة الغذاء التى أثبتت روسيا والعديد من أهم مراكز الدراسات السياسية فى العالم أن روسيا ليست هى السبب فيها، وأن جذورها بدأت قبل بداية الأحداث فى أوكرانيا (فبراير 2022) بفترة غير بسيطة.

وقد يتساءل البعض عن الهدف من هذا التقرير خاصة أن روسيا سواء بنخبها الإعلامية أو السياسية ظلت طوال الفترة منذ الشرارة الأولى للحرب تؤكد أنها لم تكن السبب فى الحرب وإنما دُفعت إليها تحت ضغط الكثير من العوامل والتهديدات، وقد نجد الإجابة على هذا التساؤل أيضا فى التقرير الذى يتوقع استمرار أمد الحرب لفترة طويلة قادمة، ويستدل على ذلك بنتائج استطلاعات الآراء التى تظهر أن غالبية الشعوب الغربية تؤيد مساندة أوكرانيا بشتى الطرق ومواصلة تقديم الدعم المالى والعسكرى لها، وروسيا تدرك ذلك جيدا واستعدت له بشكل مسبق، حيث تمتلك من القوات ما يمكِّنها من الدخول فى عدة حروب فى وقت واحد.

والحقيقة أنه لا هذا ولا ذاك هو ما يثير قلق واضعى التقرير بل القلق ينبع من إمكانية اتساع نطاق الحرب ليخرج عن نطاق الحدود الأوكرانية، وهنا قد نواجه فعلا حربا عالمية أو شبه عالمية، حيث يؤكد التقرير أنه على الرغم من كل شيء فروسيا لن تخاطر بأية مغامرات إضافية ما لم تتجرأ أىٌ من دول حلف الناتو على التدخل بقواتها فى النزاع فى أوكرانيا.

ومن هنا يمكن استنتاج أن الهدف من التقرير فى الأساس هو التحذير من مغبة محاولة التدخل المباشر فى النزاع فى أوكرانيا، حيث تحذر روسيا من أن ذلك ربما يوسع من النطاق المكانى للحرب، وهذا بطبيعة الحالة ربما يكون من وجهة النظر الروسية أو حتى الغربية، ولكن ربما تختلف نظرة بقية دول وشعوب العالم على طبيعة ما يجرى من أحداث، حيث قد يعتقدون أن نطاق الحرب قد اتسع بالفعل إذا ما وضعنا فى الاعتبار الأزمات التى تعانى منها كافة شعوب العالم جراء هذه الحرب، وإذا ما وضعنا فى الاعتبار حجم العقوبات التى تتعرض لها روسيا وتعتبر الأكبر فى تاريخ البشرية، وإذا ما وضعنا فى الاعتبار تهديد كل من يتعاون مع روسيا فى مجالات العقوبات، وهو ما يعتبر انتهاكا صارخا لسيادة الدولة وحقها المستقل فى تحديد مع من تتعاون وفى أى شيء، وفى النهاية فإن النزاع فى أوكرانيا سوف يؤدى لا محالة إلى تغييرات جذرية فى شكل إدارة العلاقات الدولية وفى شكل النظام العالمى وفى إعادة توزيع مناطق النفوذ بين الدول الكبرى ما لم تنجح الدول النامية والصغرى فى الالتفاف حول بعضها والخروج بتصورات خاصة بها حول شكل النظام العالمى القادم بما يحفظ لها حقوقها وسيادتها خاصة على ثرواتها، وقبل كل شيء وضع حقوق ومصالح شعوبها فوق أى اعتبار آخر.

◄ المفاوضات قادمة
وقد يعتقد البعض أن ما نتحدث عنه هو مؤشرات للتشاؤم والسلبية، ولكنى أؤكد لهم العكس حيث بدأت تلوح فى الآفاق بوادر ومؤشرات توشر إلى إمكانية التحرك نحو المفاوضات خاصة أن العديد من وسائل الإعلام والصحافة وصفحات المدونين قد بدأت تغير من لهجتها وخطابها بالتلويح بأن الرجوع إلى حدود 1991 أو حتى 24 فبراير 2022 ربما يبدو مستحيلا فى الوقت الراهن، وأن حياة الناس أهم بكثير من أية اعتبارات أخرى، وعلى الصعيد السياسي خرج ألكسى دانيلوف سكرتير مجلس الأمن والدفاع الأوكرانى ليلمح هو الآخر إلى أن خطة زيلينسكى للتسوية، التى كان بندها الأساسى هو انسحاب القوات الروسية من كامل الأراضى الأوكرانية، ربما يطرأ عليها تغيير لإتاحة الفرصة للحوار، وربما تأتى هذه التغييرات وغيرها على خلفية نتائج استطلاعات الآراء التى أجريت فى الأشهر الأخيرة وأظهرت أن أكثر من 30% من الشعب الأوكرانى قد أصبحوا على قناعة بضرورة وقف الأعمال الحربية بعد سلاسل الإخفاقات التى مُنيت بها القوات الأوكرانية مؤخرا، كل ذلك إلى جانب بعض المحاولات الجادة من جانب لاعبين دوليين، لتحريك الأزمة فى اتجاه الحوار، يعطينا الدافع القوى للأمل فى إمكانية إنهائها قريبا على عكس ما يعتقده الخبراء وليبقى تساؤل واحد وهو: هل سيسمح الغرب بفتح نافذة ولو صغيرة لرياح الأمل والسلام، أم سيتدخل بالمزيد من الألاعيب لاستمرار الاشتعال؟!