لؤى حمزة عبّاس يكتب :ببغاء رمادى أحمر الذيل

اللوحات للفنان : عصام معروف
اللوحات للفنان : عصام معروف

رنَّ الجرس، فى السابعة أو السابعة والنصف، من مساء يوم الجمعة، رفعت رأسى وأنصتُّ، ثم عدت لمواصلة القراءة كأننى لم أسمع شيئاً، ولعلى تصوّرت الرنين ينبثق من بين السطور ويملأ فضاء المنزل، ولم أولِ الأمر اهتماماً. لم أستغرق فى القراءة حتى سمعت الرنين مرّةً أخرى، فحدّثتنى نفسى بأن جرس المنزل يرنُّ من جديد ولا سبيل لتجاهله، سيكون لزاماً علىَّ أن أقطع القراءة، وأضع الفاصلة الورقية المستطيلة بصورة كافكا ذات النظرة المحيّرة، وأطبق الكتاب، ثم أتوجّه إلى الباب وأفتحه، من دون أن أسأل من الطارق. 


قبل أن يرنَّ الجرس ثالثة، وضعت الفاصلة وأطبقت الكتاب، لم تشغلنى صورة كافكا، ولم أشغل نفسى بما كان يملأ رأسه لحظة وقوفه أمام الكاميرا، أو أفكّر بنظرته التى لا تخلو من براءة واستغراق طفوليين.

اقرأ ايضاً|سلمان رشدى: لطالما اعتقدت أن كتبى أكثر أهمية من حياتى


 توجّهت إلى الباب، فتحته، من دون أن أسأل، ورأيت جارنا فى الإضاءة الشحيحة للشارع، واستغربت أن يهمَّ بعبور الشارع، ثم يقف أمام الباب ويضغط الجرس وهو البعيد عن الحى المنفصل عما يحدث فيه. سلّم بصوت خفيض، وأظنه تمتم معتذراً عن الإزعاج، وصلتنى منه أنصاف كلمات وأصوات متقطعة، اكتفيت، من جانبى، بابتسامة مشجّعة، فقال بصوت فكّرت بأنى أسمع نبرته لأول مرّة:


إذا ممكن تخلّون الببغاء يمكم.
وأشار نحو قفص معدنى غير بعيد، يقف إلى جانبه صبى لا يشبه كافكا، ببدلة رياضية سوداء أو غامقة الزرقة، فزّزته إشارة الرجل فسحب يده من أعلى القفص.


أضاف بطبقة الصوت نفسها:
ـ مسافرين تلت أربع تيام وراجعين، وهذا أكله..
ناولنى علبة بلاستيكية مربعة، محكمة الغطاء، فأخذتها من دون أن أقرّر قبول الطائر أو رفضه، لكننى ابتسمت من جديد وتصورته فهم ابتسامتى على أنها ترحيب به وسعادة ببّغائه، تراجع خطوتين وأمسك القفص من يده المعدنية وترك الأخرى للصبى، رفعاه وتقدما باتجاهى، ففسحت المجال وتركتهما يمرّان نحو باب المنزل المفتوح، دخلا ووضعاه فى الباحة، إلى جوار الجدار المقابل، كما لو كانا قد حددا المكان من قبل. 


عاد الرجل ووقف أمامى، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة هيّنة، بدت واضحةً فى ضوء الباحة، وهو يقول:
تحملونا شوية، الببغاء قليل الأدب..
وفى هذه المناسبة، مناسبة الببغاء لا قلة الأدب، أجد من الضرورى أن أمرَّ سريعاً على علاقتنا العائلية بالحيوانات التى لم تكن تخلو من غرابة، فهى مبنية بالأصل على ما يُمليه مزاج مؤمّل، أصغر الأبناء، وهو يُتحفنا، على غير توقع، بما يعنُّ له منها، كلب صغير بفرو مثل كومة صوف سريعاً ما يتآلف معنا، أو قطة تأخذ وقتها فى التعرّف إلى المنزل، تتشمّم الشراشف وتحكّ جسمها بالأبواب وأرجل المناضد وحافّات خزائن الملابس، لتستقر بعدها على أقرب أريكة، تمغّط أطرافها وتغطُّ فى النوم، لكن مشكلتنا مع الحيوانات تبدأ بعد وقت قصير من دخولها المنزل، فما أن يأتى بها مؤمّل ويمرّرها علينا فى حفلة تعارف، وما أن تنقضى وصلة الاعجاب والترحيب التى لا تخلو من حفاوة من طرفنا، ومن حذر وتوجّس من طرف الحيوان، حتى يخرج لمشاغله ناسياً أن ثمة ضيفاً فى المنزل يحتاج للرعاية والاهتمام، وهكذا نجد نفسينا، أنا وأمه، متورطين، بلا مقدمات، بالحيوانات وحاجاتها اليومية. لكنها المرّة الأولى التى يدخل بيتنا فيها حيوان عن طريق آخر غير مؤمّل، وهى المرّة الأولى أيضاً التى يدخل بيتنا فيها ببغاء، ناهيك عن كونه قليل الأدب، وقد سبقته طيور عديدة مؤدّبة: حمام، وبلابل، وفناجس، وكنارى وحيد.


أغلقت الباب واقتربت من القفص لأتعرف على الطائر الرمادى، أذهلنى ذيله بريشاته الحمر الناصعة، وتخيلتها فى حال طيرانه، نقطةً ملوّنةً تترك وراءه خطاً شبحياً مثل دخان الطائرات، سريعاً ما يتبدّد ويختفى مع حركة الجناحين. 
فتحت أم تميم الباب الداخلى وهى تسأل:
هاى شنو أنوب؟
ببغاء، ضيافة تلث أربع تيام.
فردّت مستسلمة:
إذا هيج ميخالف.
ساعدتنى برفع القفص، وأدخلناه إلى المنزل.
فتحتُ العلبة، ولم يكن فيها غير حوالى نصف الكيلو من بذور عباد الشمس، غرفت ملء كفى، ومن أعلى القفص أسقطت قليلاً من البذور، عبر الفتحات السلكية، فى العلبة الدائرية البيضاء المثبتة فى زاوية القفص، واصطدمت بذور أخرى بالأسلاك المعدنية وتساقطت على الأرض، كان الببغاء ينظر من مكانه على العصا الخشبية إلى البذور المتساقطة، ويصدر صفيراً متقطّعاً، محرّكاً رأسه حركة نصف دائرية، بعدها استعنت بالهاتف فى البحث عن أية معلومات عنه، تحت عنوان الببغاء الرمادى أحمر الذيل، وقلت لنفسى، فور قراءة صفحته على الويكيبيديا، هو الكاسكو إذن، ببغاء متوسط الحجم وجد لأول مرّة فى غابات وسط أفريقيا المطيرة، أسعدنى أن الخبراء يعدوّنه واحداً من أذكى الطيور فى العالم، وبفضل قدرته على تقليد الكلام أصبحت له شعبية واسعة بين مربى الطيور. 
 طرقت بالهاتف على الأسلاك، وقلت:
هلو ببغاء..
متوقعاً أن يردّ على الفور، كما يحلو له، لكنه توقّف عن الصفير ثم أمال رأسه ونظر نحوى، فسحبت كرسياً وجلست أحدّثه حديث تعارف، عن الحيوانات التى عاشت معنا، وعن كونها المرّة الأولى التى يحلُّ فيها ببغاء فى بيتنا، لكن ذلك لا يدعوه إلى القلق، كما أرجو، فهى ضيافة خاطفة أتمنى أن تحلو له. 
قرّبتُّ وجهى متفحّصاً وجهه بمنقاره الحادّ وخرزتى عينيه كاملتى السواد، اقترب قليلاً وبادلنى النظر، كانت الأسلاك تفصل بيننا، أصدر صوتاً أقرب إلى الحشرجة أو الاحتكاك المعدنى المنفّر، وعاد إلى صمته. 
قلت له:
يسمونك أينشتاين عالم الطيور.
حرّك رأسه ولم يرد. 
من مكانها فى غرفة الجلوس، جاءنى صوت أم تميم:
عوفه، يحچى على كيفه
فتذكّرت أن له شخصيةً حساسةً من بين سائر الببغاوات، هكذا تُثبت صفحته، وأخذت أصفّر بصوت خفيض مرحّباً ومظهراً حُسن النيّة. 
صباح السبت، مع توجّه أم تميم للدوام، وتأخّر الأولاد فى نومهم، يغرق البيت فى هدوء كامل، أفتتح اليوم فى العادة بالتوجّه إلى الحمّام متلذّذاً بالماء البارد قبل تناول الفطور الذى تتركه أم تميم على الطاولة، حملت الملابس النظيفة ومضيت عارياً بين الغرفة والحمّام، ما إن سرت خطوتين حتى أفزعنى صوت أقرب إلى الاحتكاك الآلى المنفّر، تفجّر مكرّراً:
عريان، عريان، عريان..
فتراجعت راكضاً إلى الغرفة وأغلقت الباب محاولاً استيعاب ما حدث، كنت قد نسيت الببغاء بعد أن عدت للقراءة مساءً، وأخذتنى القراءة إلى النوم، ارتديت الشورت النظيف وفتحت الباب فعاود الببغاء صياحه، أكملت خطواتى وأنا أردّد مع نفسى بصوت حرصت على ألا يسمعه:
ببغاء قليل الأدب. 
لكنه واصل صياحه:
عريان.. عريان 
وما إن أغلقت باب الحمّام حتى انقطع الصياح.
وقفت تحت ماء الدش البارد، وسمعت الصوت يتصاعد من جديد ويملأ المنزل، أغمضت عينىَّ وفكّرت بأن الأربعة أيام وقت طويل لاستضافة ببغاء قليل الأدب.