هدى عمران تكتب : كرهت زكريا محمد.. أحببت زكريا محمد

زكريا محمد
زكريا محمد

علاقتى بالشاعر زكريا محمد بدأت منذ عامٍ تقريبًا، من جانبى فقط، كقارئة لمجموعته الشعرية «زراوند» وأول شعور انتابنى بعد القراءة الانزعاج الشديد. أغلقت الكتاب فى اليوم الأول، أرسلته لصديقتى أمل التى تعيش فى قارة أخرى، على وعد بمناقشة ثنائية حوله. أفتح الكتاب، أقرأ، أقول «من هذا الرجل الغريب» ثم أغلقه مرة بعد مرة، حتى تسرب إلى شعور بهيمنة ذلك النص على، حينها أدركت منابع القنوط عليه، أدركت أننى لا بد أن أرضى حتى أستطيع رؤية هذا الجمال، تقول لى أمل «وجدت شاعرى»، أقولُ وجدتُ رسول الشِعر، وتحول هذا الشِعر لشيخٍ صوفى بالنسبة لى، فتح بابًا لمرتبة أعلى فى البصيرة، أدركتُ معه معنى جديدًا عن الحياة، وفهمت معنى «النبيل» فى الشِعر، يكفنا عن الصراخ «الجرح كلمة غير مقبولة عندى. فيها رائحة عبادة للماضى.

فامسح كلمة الجرح من قلبك. امسحها من قاموسك». يدفعنا لليأس بشجاعة «خذ مني: لا تخف من اليأس. فقد عرفت أناسًا قطعوا باليأس وحده آلاف الأميال. وكانت وجوههم منيرة، وعقولهم حادة كالسكاكين. كما رأيت فهودًا تقطع، بأعينها الزجاجية، سهوب السافانا الشاسعة، ولا تبكى على أى شىء، ولا تتذكر أى شىء سوى المستقبل، سوى الفريسة القادمة. اخبط بقدمك الكبيرة فى الطين جريًا». 

اقرأ ايضاً|فخرى صالح يكتب : وداعًا المثقف الصلب الشجاع


وتساميتُ عن مأساتى، وألقيت نفسى بهذا اليأس فى الطرق، على أمل أن أصير جزءًا مثله من ناموس هذا الكون. هذا الشعر يعلمنا البكاء والمغفرة والشجاعة، وهذا هو، فنٌ كبير،يموت زكريا محمد فجأة، وكنتُ فى الليل أقرأ له قبل أن أنام، قصيدته مفروشة على سريرى، وعالمه ممتد مثل سماء رحيبة، مثل أم طائر تدفع فراخها للسقوط من أعلى لتتعلم الطيران، كنتُ أقرأ له بينما روحه تسرى لعالمها، تحترق كالشهاب بغتة. 


«أما أنا فسيتوقف نبضى قبل أن أتوقف.. سأقطع ألف ميل بعد أن يتوقف نبضى».
يموت زكريا محمد فجأة، جاءته عربة الموت حاملة فوقها أحباءه وأصدقاء طفولته، حاملة الأمل، تركنا خلفه نبكى عليه، نبكى شاعرًا كبيرًا، ترك لنا ميراثًا فخورًا من الكلمة.
«فجأة ردّ لى الموت ما أخذه منى. وقفتْ عربته أمام بيتى، وأنزلت كل شىء: أحبتى الذين اختطفهم منى، أصدقاء طفولتى، والأمل بتنورته القصيرة. لم يعد لدى ما أبكيه. أستطيع الآن أن أضع نعلى تحت رأسى كى آخذ غفوة طويلة».
يهتم زكريا محمد بالآثار، فى محاولة منه لفهم امتدادنا الثقافى والجغرافى، يكتب أبحاثًا عن الميثولوجيا مثل «عبادة إيزيس وأوزيريس فى الجاهلية» ومقالات وأوراق ينشرها بشكل دورى عن هذه الموضوعات التى تشغله، ينتقل من شكل القصيدة إلى كتلته المميزة فى كشتبان «تمرة الغراب» و «زراوند» ويقول لا أريد أن أسميهًا شعرًا بل مقطوعة. 


يضع زكريا صورته الأشبه بالأيقونة على جدار «الفيسبوك»، شعر أبيض، قميصٌ أزرق، خلفه الجبال أمامه العالم، ملامح قوية، كرسول، كتابه الشِعر، ممتلئ بالإيمان. كل يوم تقريبًا يضع زكريا قصائده على حائط «الفيسبوك» كأنها نقوش تدل على تلك الحضارة، مدفوعًا بقوة ودأب وصبر. راقبته بحذرٍ، شاعرة بالاستغراب العميق داخلى، كنتُ أتفرج عليه مثل جبل راسخ مندمج ومستقر فى هذا الكون. أحببته من كل قلبى، وراقبته بحذر خوفًا وتقديرًا وحبًا وأملًا فى قراءته يومًا، واعتقدتُ أن كتابًا لزكريا محمد لا بد أن يكون موجودًا فى كل بيت كنصٍ مقدس، يُقَرأ كسِوَر على مهل، لأن هذا النص المستغلق على عالمه ولأنه يشبه كتابًا تراثيًا، وكما تنبأ الناس بموت من يقرأ «ألف ليلة وليلة» كاملة اعتقدتُ أن الدخول لنص مثل ذلك وقراءته يعنى موتًا معنويًا على الأقل. لذلك منيتُ نفسى بقراءته فى الزمن. لذلك كل قراءة لهذا الشعر منقوصة.


القارئ لقصيدة زكريا محمد، سيلاحظ استقرار الشكل، كتلة بحجم راحة يد تقريبًا، تحوى داخلها لغة متجذرة فى وجوده تحوى الأرض، أحيانًا الأرض هى العالم وأحيانًا الأرض هى البلدة وهى فلسطين، ينطلق من الطبيعة، من حيوان أو نبتة أو نجمة لينطلق إلى الذات.
« قدمت الظهيرة مثل قطيع كلاب، وأخذت قيلولة تحت النخلة. أتى الغراب ابن دأية ونقّر تمرته فوقها.
وكان العبيد يقطفون الباذنجان. يقطفون سوادهم ذاته. وهذا أغرب ما رأيت: أن يصير لون الإنسان ثمرته العظيمة.
وقد ألقيت كلامًا كثيرًا على عواهنه. ألقيت الحبال على الغوارب. وألقيت المحبة فى حضن من لا يريدها.
وكلما قلت شيئًا شككت فى أن أحدًا قاله قبلى.
هباء. كله هباء. ليس للمرء إلا تمرة فى منقاره، وإلا اسمه مكتوب بحروف الهجاء العجيبة. وأنا أتهجّى اسمى، وامضغ تمرتى، وأحس بأننى مكشوف حتى سرّتى.
قلبتِ الزهرة لى كأسها. ضربت الريح صدرى كى ترينى بأسها..» 
هذا من أكثر الشعر غرابة وندرة قرأته، حيث ينطلق الشاعر من العالم الواسع، ليس من شخصه، ويلم هذا العالم فى كفه مثل حكمة خالدة عن الوجود، يكثفه فى صورة جمالية، فى ثمرة، فى أغنية.
حين نقرأ له، هذه القصيدة فى قالبها الحداثى، كتلة قصيدة النثر، أو المقطوعة كما يسميها، قطعة من حشاشة الكون مليئة بالنجوم والليل والظهيرة، بالطيور والنباتات والموت والحب، بشيرين وسيرين ومريم، لا نستطيع شم أى رائحة من قصيدة غربية، فكأنه يكتب مقامة عصرية نضعها فى مرتبة مقامات العرب الشهيرة للحريرى والهمذانى وابن دريد، لكنه يخلِّص قالبه من النكتة لينقله للحكمة، ينقيه من الزوائد والمغالاة ناحية التقطير، يشذب اللغة ويرعاها حتى يصقل لنا جوهرته.

لو كان لى أن أقول إن هناك شاعرًا عربيًا حقًا فى هذا الزمان فهو زكريا محمد. هذا شاعر عربى جليل، روحه كبيرة، وبدوى، نسج شعره من كل شىء فى الكون فخلق ملكوتًا كاملًا، فكأنه كان ينطلق من العالم ويضعه فى سُرّة يحملها على كتفه أينما سار، حتى يفرشها أمامنا على رمل الصحراء تحت شمسها الداكنة، تحت نجوم الليل، كضارب الودع الرائى للعوالم الأخرى، الساحر يمتلك بلورته ليرينا فيها عوالم عجيبة، الهادى فى الصحراء، يعطينا إشارات للمشى فى طرق وعرة ويدلنا على منابع الماء.