شاكر لعيبى يكتب : زمن زكريا محمد

مع شاكر لعيبى
مع شاكر لعيبى

ربما علينا الرجوع بالذاكرة إلى الوراء قليلًا عندما عرفت زكريا محمد فى بغداد سنوات السبعينيات، وكان يدرس فيها. التقيته فى مقهى مشهور اسمه «البرلمان» وكانت محط لقاء الشعراء والأدباء والفنانين والصحفيين وغيرهم. كان قد جاء من فلسطين وشاطرنا أماكن العاصمة بغداد، شارع الرشيد، مقهى البرلمان، مقهى البرازيلية، شارع أبو نوّاس وحاناته، اتحاد الأدباء فى ساحة الأندلس، وأماكن كثيرة أخرى. زكريا من جيلى أيضًا الذى يطلق عليه جُزافا السبعينيات.


إن سنوات السبعينيات وما تلاها شهدت، كما نعلم، تحوّلات جذرية عدة وشكلت نقطة حراك وسجال ليس على المستوى الشعرى وإنما على كل صعيد. ومن هنا يتوجب قراءة جيل زكريا. الفارق الكبير بين الأجيال الأولى وجيلنا هو أن الرواد ظهروا فى فترة من التاريخ هى فترة نهوض عام وظهور بذور الحداثة والتجديد، الذى ظل لدى بعض أسمائه أوليًا، ولدى البعض الآخر متراجعًا عن حداثات القرن العشرين الشعرية والتشكيلية. كانت الأمية فى فترة الرواد فاشية والمدرسة والمطبعة لم تتخذا بعد طابعًا شاملًا. كان نشر الكتاب أكثر سهولة. لكن ثقافة العرب قد شهدت تحولات عميقة مختلفة نوعيًا لا يمكن تجاهلها فى العقود التى كتبنا فيها. حتى إن التنافس صار على أشدّه على المستوى الثقافى، وأن مساحة المعارف والاتصال ومعرفة الآخر صارت أوسع. وجرى تخطى حوار الفترة الأولى إلى حوار أرحب بحيث أن أسئلة الأمس لم تعد هى ذاتها أسئلة الغد، وبالتالى فإن ما ظهر من نصوص الشعر العربى صار يلقى أسئلة من طبيعة أخرى، بالضرورة، توجب إعادة اكتشافها رغم العراقيل الموضوعية ورغم المواضعات التى لم تعد ممكنة.

اقرأ ايضاً|زكريا محمد يكتب : رمية النرد الأخيرة


زمن زكريا الفلسطينى عصيب وحيوى حتى أن الانشطار القوى الحادث فيه قد ولّد سجالًا جديدًا. بطبيعة الحال شهدت المرحلة السبعينية لأول مرة فى تاريخ الشعر العربى والعراقى الحديث هجرة واسعة للشعراء (مثل هجرة مواطنى زكريا الفلسطينيين من الشعراء والفنانين). لقد وقع نفى مقصود للشطر المهاجر، المختلف شعريًا وأيطيقيا. نفى مزدوج بالنسبة لزكريا وأقرانه: جغرافى وأدبى. يُثبت الواقع بعد أكثر من نصف قرن استحالة نفى النصوص الشعرية الجيدة. فى العالم العربى هناك من يستسهل بل يجهل الفترة السبعينية حتى بعد أن تهيأت له الظروف لمعرفتها.


خرج زكريا محمد من العراق لأرض الله الواسعة، وخرج نصف جيلى من بعده بعد وقت قصير بسبب صعود الطاغية، تشاء الظروف أن التقى زكريا فى بيروت بداية الثمانينيات، وكانت مدينة الحرية التى تضم كل حالم ومطارد وشقى وعاص من جميع أنحاء العالم العربى بل من الأوربيين واليابانيين.

كانت فضاءً، مكانًا آخر يُعبّر عن التوق للانعتاق المطلق، وفيه لم نكن فحسب أمام طلاقة فى فهم ورفض اللُعب السياسية والبرلمانية والصحفية والاجتماعية العربية، كنا كذلك فى فهم واستخدام ما توفره الطبيعة، وكذلك فى الاستخدام الباهر للجسد الفيزيقى نفسه، المشبع بحرية جوهرية عصية على الوصف. لكل منا، بالطبع، بيروته، زكريا أيضًا يومها. وكنا أكاد أقول نتفق فى لقاءاتنا فى حى الفاكهانى الذى ضمنا، أن بيروت التى تمتلكنا هى مختبر الاختلاف والمختلف، هى هذه الفوضى الضرورية أمام الانضباط العربى الزائد عن الحد وغير الضرورى، أو ذاك الانضباط العقلانى الشديد للمجتمع الأوربى. 


لقد تكونت جزئيًا فى العراق، وكان زكريا قد تكون جزئيًا فى فلسطين وكانت أولى المواجهات الثقافية الجادة، المختلفة نوعيًا عن تلك السائدة فى بلدينا، تحضر هنا فى بيروت. أسئلة لبنان الثقافية فى نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات ليست البتة أسئلة غيرها من حواضر العرب. من القصيدة المنغلقة على نفسها عروضيًا، المشدّدة على معنى إنسانى أو سياسى، فى تلك البلدان، إلى قصيدة منفلتة عن أنظمة الشعر العربى الصارمة، إلى جنوح تخيلى يذهب حتى تخوم اللامعنى فى بيروت، لذا فإن المسافة عريضة ومعتبرة، وبها تقدح شرارات أسئلة مغايرة بهذا القدر وذاك.


لا أحسب أن هناك الكثير من المدن العربية القادرة على طرح أسئلتها الثقافية بالحدة الموجودة فى بيروت. ربما تستطيع بغداد والقاهرة ودمشق وتونس والرباط التفتق على رهانات ثقافية وأسئلة حيوية فيما لو تفككت شروط الرقابة عن العقل.


بعدها جاء حصار بيروت عام 1982. وكان حصار بيروت، لذلك، أسوأ اللحظات فى حياة مسعورة رغبت بالتهام عشبة الخلود (ص 16). وكانت حرب شارون تزرع الموتى يبابًا. يتعلم المرء أثناء حصار مثل حصار بيروت أن الكائنات الآدمية غير متشابهة إطلاقًا فى انفعالاتها إزاء الجوهرى مثل الموت. أفرزت تجربة حصار بيروت الكثير من النصوص الإبداعية والصحفية عن حصار بيروت، كما عند محمود درويش وسعدى يوسف وغالب هلسا وأمجد ناصر وإلياس خورى ومحمد على اليوسفى وغيرهم من لبنانيين وعرب، كتبوا بأعصابهم مسلسل القتل الجماعى والدمار المعدّ بإحكام لتخريب لبنان وللتشتيت التراجيدى للفلسطينيين. بعض المثقفين العرب ربما وضعتهم مصائرهم التراجيدية أيضًا أمام سبل عنيفة ليكونوا شاهدين بعين مختلفة وذهنية وحساسية مغايرتين. فلم يكن أمام الجميع من خيار غير المضى نحو الموت أو البحر. فكان البحر الخيار الجبرى للجميع. لم يكن من السهل على وعلى غيرى ومنهم زكريا أن ينسوا بيروت لأنهم يحملونها معهم تحت جلودهم وجوارحهم.


لم ألتق بزكريا محمد بعد عام 1982، وكان قد عاد بعد اتفاقية أوسلو لرام الله، والتقيته عام 2009 فقط فى ندوة «الرحالة العرب والـمسلـمون: اكتشاف الذات والآخر» فى الرباط. ثم فى «المؤتمر الدولى لأدب الرحالة العرب والمسلمين» عام 2010 فى «الحى الثقافي- كتارا» فى الدوحة. ثم فى عام 2011 حيث كنتُ أستاذًا زائرًا فى أكاديمية الفنون الدولية، رام الله. وبقيت شهرًا ألقى محاضرات عن بلاغة وجماليات وسيمياء اللغة الأيقونية. وكان زكريا يحضر فى قاعة الدرس مع الطلاب، رفعة وتواضعًا.