فالزر: الكتابة تعنى الحياة

فالزر: الكتابة تعنى الحياة
فالزر: الكتابة تعنى الحياة

قبل أيام قليلة توفى الكاتب الألمانى الأشهر مارتن ڤالزر( عن عمر يناهز ستّا وتسعين سنة)، وهو آخر جيل الكِبار  فى الأدب الألماني، وآخر أعضاء مجموعة 47 الأدبية الباقيين على قيد الحياة، بعد رحيل أديب نوبل جونتر جراس سنة 2015، وُلد ڤالزر فى 24 مارس سنة 1927، أى فى العام الذى ولد فيه زميله جونترجراس،فى سنة 1946 حصل على شهادة إتمام المرحلة الثانوية. ثم انقطع عن دراسته بسبب الحرب ووقوعه فى الأسر، فى الفترة من 1949 حتى 1957 عمل مراسلًا صحفيًا فى إذاعة جنوب ألمانيا وسافر  إلى العديد من البلدان، وكتب مسرحيات إذاعية. انتمى ڤالزر فى البداية إلى الحزب الاشتراكى الديمقراطي، لكنه سرعان ما انفصل عنه. فى سنة 1998 أثار فالزر عاصفة نقدية حينما وجّه نقدًا لاذعًا لاستخدام ما يُسمى بالهولوكوست كفزّاعة أخلاقية لاستنزاف الشعب الألمانى وتخويفه.
فى سنة 2017 أجرت إذاعة شمال ألمانيا مقابلة مع ڤالزر بمناسبة بلوغه التسعين، تكلّم فيها عن ذكريات شبابه، بدايته كمراسل صحفى كَتَب عن اللاجئين، احتراف الكتابة، وعن رواياته الأولى.

الإذاعة:
 سيد ڤالزر.. يُقال إن الإنسان كلما تقدّمت به السن زاد حنينه إلى سنوات الطفولة. رسمتَ فى إحدى رواياتك سنوات طفولةٍ مشابهة بالتأكيد لسنوات طفولتك، وتحديدًا شخصية يوهان فى رواية «ينبوع فائر». برغم ذلك يبرز السؤال: أية صورة من صور الطفولة ما تزال مطبوعة فى ذاكرتك؟

اقرأ ايضاً| ممدوح رزق يكتب : ذاكرة بيضاء: الصراع بين الكلمة والظل


ڤالزر: لم تكن صورة، بل بالأحرى منظرًا طبيعيًا، حقبة زمنية، وبالطبع صورة أمى وأبي. وكما هو الحال مع أى إنسان كان لأمى أكبر الأثر فى نفسي، إذ كانت مسئولة عن إدارة شئون متجرنا، بينما كان أبى تاجرًا فاشلًا بكل أسف، عايشتُ هذا التناقض الصارخ بين الشخصيتين فى سنوات الطفولة.


الإذاعة:
بعدها تابعتَ دراستك، أولًا فى ريجينسبورج، ثم توبينجين، وبدأت العمل فى سن مبكرة فى إذاعة جنوب ألمانيا بسبب اضطرارك إلى كسب المال وخوفك من الانغماس فى الغرق فى الديون..هل هذا صحيح؟
ڤالزر: نعم بالفعل، فى سنة 1949 كنتُ ما أزال طالبًا فى مدينة توبنيجين، أسعدنى الحظّ بالمشاركة كممثل بأحد الملاهى فى مسرحية لجوته على مسرح الطلاب. شاهد العرضَ أحد العاملين بإذاعة جنوب ألمانيا، فجاءنى بعدها وعرض عليَّ فرصة العمل فى الإذاعة فى مدينة شتوتجارت خلال عطلة الفصل الدراسي. 
ولأنه شاهد أدائى كممثّل قال إننى سأعمل فى قسم المنوعات الترفيهية. غمرتنى فرحة هائلة لأنى سأتمكن من السفر إلى شتوتجارت وقضاء العطلة مع زميل آخـر، استضافنى فى بيته. 
فى قسم المنوعات كُلفّت بإعداد برنامج يُسمى «بريد الأسبوع الموسيقي». كانت فكرة البرنامج عزف لحنٍ موسيقي، وكان المطلوب كتابة كلمات اللحن فيما لا يزيد على ستة أسطر، وفى مقابل تأليف المقطع المكوّن من ستة أسطر كنت أتقاضى عشرين ماركًا. كان أمرًا مذهلًا بحق. فى الوقت ذاته كُلّفت بإعداد برنامج «ركن ربات البيوت المتذمّرات»، وفيه تنخرط اثتنان من ربات بيوت منطقة شفابن فى التَشكّى والتذمّر حول كل شيء، الجديد أننى اضطررت وقتها إلى الكتابة بلهجة أهل منطقة «شڤابِن»، لكنى سرعان ما ألِفتُها، ولم أر فيها اختلافًا كبيرًا عن اللهجة «الأليمانية» لهجة ألمانية خاصة. وهكذا كانت أمامى مهمتان: تأليف الكوبليهات الموسيقية وكتابة مادة برنامج ربات البيوت الشكّاءات، وكنت راضيًا بما أفعل.


الإذاعة:
عملتَ أيضًا كمراسل صحفي. ما الذى بقى فى ذاكرتكَ من فترة عملك كمراسل؟ وما الذى حملته معك من عالم الصحافة إلى عالم الكتابة؟
ڤالزر:
لم يكن لعملى كمراسل صحفى أى تأثير فى كتاباتي. كان عليَّ العمل لكسب قوت يومي، لكنى مارست المهنة بحب. أجريتُ مقابلات مع كارايان [قائد أوركسترا نمساوي]، وفريتس كورتنر ممثل ومخرج نمساوي ، كان العمل فى غاية الإمتاع. لكنى كنت واعيًا ساعتها إلى أن الكتابة هى مرادى فى الحياة. الكتابة عندى تعنى الحياة. فى هذه اللحظة اعتزمت أن أصير كاتبًا حرًا. فى السنة نفسها، أى سنة 1957، نُشرت روايتى الأولى «زيجات فى فيليبسبورج»، وأسعدنى الحظ بنيْل جائزة هيرمان هسّه، التى كانت قيمتها عشرة آلاف مارك، وبالطبع كان عليَّ استغلال فرصة نيْل الجائزة. كان الأهم بالنسبة إليَّ وقتها أن أثبتَ لأمى أننى قادر على كسب رزقى من خلال الكتابة، فأعطيتُها «الشيك»، وكلّى ثقة بأنها اقتنعت أخيرًا بقدرتى على شقّ طريقى فى الحياة من خلال الكتابة.


الإذاعة:
أهم ملمح يميّزك ككاتب منذ البداية، وربما يكون هذا أيضًا ثمرة عملك بالإذاعة، اهتمامك بمصائر الناس البسطاء. بدأ نجمك فى البزوغ سنة 1955، أى سنة وفاة «توماس مان»، وهو ممثّل الطبقات العليا. ومع ظهور رواية «زيجات فى فيليبسبورج»، وبشكل أقوى فى ثلاثيتك الروائية «أنسيلم كريستلاين»، رسمتَ شخوصًا منتمية للطبقة البرجوازية الصغيرة.


ڤالزر:
صحيح، عندما كنت مراسلًا صحفيًا اقترح عليَّ رئيس القسم إجراء سلسلة تحقيقات، أطلقتُ عليها اسم «مصائر البشر اليوم». فى تلك الحقبة كَثُـر عدد الناس الذين لم يصلوا إلى حيث كانوا يريدون الوصول. كان هناك اللاجئون القادمون مما كان يُطلق عليه إقليم «الشتودينلاند»، وكان محور نزاع بين ألمانيا النازية وتشيكوسلوفاكيا، كان أمامى الكثير لأفعله. فى مرة كنت ممسكًا بالميكروفون عندما تقرّر إخلاء أحد المخابي، وكان الناس قد اعتادوا البحث عن ملاذ آمن فى المخابيء. ثم أرادت قوات الشرطة إخلاء المخبأ، ولم يعرف اللاجئون لحظتها إلى أين يذهبون. بالطبع كنت موجودًا هناك وقتها، أحمل ميكروفوني، فأعطيتُ الفرصة للناس للإعراب عن وجهات نظرهم. بالطبع كنت أمارس هذه الأعمال جنبًا إلى جنب مع الكتابة.


الإذاعة:
لنَعدْ إلى ثلاثية «أنسيلم كريستلاين». شخصية أنسيلم هى شخصية المندوب الذى يعمل فى مجال الدعاية ثم يتحول لاحقًا إلى مؤلف. وقَع اختياركَ على مهنٍ كانت جديدة بكل تأكيد على المجتمع الألمانى فى عقدى الخمسينيات والستينيات، فأدّى ذلك إلى عثورك على جمهور جديد تمامًا، ولكن تحتّم عليك كذلك ابتكار شخصيات روائية جديدة.


ڤالزر:
شخصية مندوب المبيعات والتاجر مسافر، والبائع المتجوّل كانت النموذج الأصلى للرأسمالية أو فكرة التجارة لو جاز لى التعبير. لم تكن فكرة أصيلة تمامًا. كنتُ أريد رسم شخصية تحاول إثبات وجودها فى غمرة الصراع لتحقيق المعجزة الاقتصادية. وقد ورثتُ شيئًا من ملامح هذا العالم، إذ ظنَّ والدي، التاجر الفاشل، أنّ بمقدوره إعالة أسرته عبر أنشطة التوكيلات التجارية، لكنه أخفق ودبّرت أمى أمورنا من دونه. كانت فكرة الاضطرار إلى البيع والربح مألوفة عندي، ومن ثم لا عجب أنى كتبتُ عنها رواية طويلة.


الإذاعة:
فى النهاية صار البطل أنسيلم كريستلاين مؤلفًا. وهكذا فمساره يحمل شيئًا من مساركَ، وانتقالك من مراسل إلى مؤلف أو من إذاعى إلى كاتب حر. برغم ذلك فالرواية ليست مكتوبة بأسلوب روايات تطوّر البطل المعروفة فى القرن التاسع عشر، بل العكس، فالطريق ينتهى بالانحدار؛ كان «سقوط» هو اسم الجزء الأخير من الثلاثية.
ڤالزر: صحيح، لقد تشكّلت الحكاية فى وعيى بطريقة لا يمكن وصفها إلا بأنها سقوط. لم أستطع تسمية الجزء الثالث «صعود»، لم يكن أمامى إلا  أن أسميه «سقوط».