ملاحظات عن الترجمة وعن مَدَام بوفارى التعاون مع الموتى

لوحة  للفنان : إدوارد مانيه
لوحة للفنان : إدوارد مانيه

منذ فترةٍ غير طويلة، كنتُ أثرثر مع صديقٍ أكبر سنًا، مهندس متقاعِد وكاتب أيضًا على نحوٍ ما، لكنه لا يكتب أدبًا. حينما سمعَ أننى قد انتهيتُ توًا مِن ترجمة «رواية فلوبير» مَدام بوفارى، قال شيئًا مِن قبيل: «ولكن مدام بوفارى مُترجَمة مِن قبل. فما الحاجة إلى ترجمة أخرى؟» أو: «ولكن أليست مدام بوفارى متوافرة باللغة الإنجليزية منذ زمنٍ بعيد؟ فلماذا ترغبين فى ترجمتها من جديد؟» فى أغلب الأحوال، لا تخطر للناس فكرةُ إمكانية ترجمات متنوّعة لنصٍ واحد – أو أنَّ ترجمةً ما قد تكون سيئة، سيئة للغاية، غير أمينة للأصل. وبدلًا من ذلك، «يظنون» الترجمة ترجمة تعيد كتابة الكتاب ب اللغة الإنجليزية، على أساس النسخة الفرنسية، إجراءٌ قياسى ونمطى تمامًا، وها هو الكتاب، انتهت المَهمّة ولسنا بحاجة لإجراءها مِن جديد.

إذا حقق كتاب جديد دَويًا عالميًا فسوف يُترجَم سريعًا إلى لغاتٍ كثيرة، مثل كتاب جوناثان ليتيل الذى فاز بجائزة الجونكور منذ خمسة أعوام. سرعان ما تُرجمَ إلى اللغة الإنجليزية، وإن لم يُكتَب له أن يَصمُد كقطعة أدبية، فغالبًا ما لن يُترَجم للإنجليزية مرة أخرى.

اقرأ ايضاً| أنجيلا روديل مترجمة الرواية الفائزة بالبوكر الترجمة أشبه بدويتو بين المترجم والكاتب

لكن فى حالة كتاب ظهر منذ أكثر من مئة وخمسين عامًا، مثل مدام بوفارى، وهو إحدى العلامات الكبرى فى تاريخ فن الرواية، فثمّة مُتّسع لنسخٍ إنجليزية مختلفة. (1) إن لم يكن لأى سببٍ آخَر، فلأنَّ الطبعات الأولى من النص الأصلى نفسه قد تحتوى على أخطاء، ومع مرور السنوات ظهرت له طبعة أو أكثر منقحة ومصححة، بحيث لم تَعد الترجمات الإنجليزية المبكرة مطابقة للأصل الأدق. (2) ربما أحسَّ بعض المترجمين الأوائل «كما هو الحال فى ترجمة موريس لكافكا» بضرورة (إقحام) بعض التعديلات الطفيفة أو ليست طفيفة للغاية على أسلوب الكاتب أو حتَّى على المحتوى الأصلى بحيث يسهل تقبله مِن الجمهور الأنجلوفونى؛ لكن مع مرور الزمن صرنا نعتبر هذا التصرّف ضَربًا مِن الخيانة ونطالبُ بنسخةٍ أكثر أمانة.

(3) ببساطة قد تكون النسخ الأسبق غير جيدة من نواحٍ أخرى كما هو وارد دائمًا – فلندَع المترجمين الآخرين يحاولون.

ستكون كل نسخة مميزة تمامًا عن جميع النسخ الأخرى. فَعلى سبيل المثال، ما أكثر الطرق التى يمكن أن نترجمَ بها ولو عبارة واحدة مِن مدام بوفاري: («bouffées d’affadissement»):

نفخاتُ اشمئزاز

شىءٌ من فَسادٍ زَنخ

نفخاتُ الضيق اللخناء

موجاتُ الغثيان

أبخرة الغثيان

هبَّات سُقمٍ تَفِهة المذاق

ضِيقٌ آسِن

نفحات سُقم

موجاتُ نفورٍ مغثٍ

دانتى عن الترجمة

كلُّ شِعرٍ حَسُنَ نَظمًا ونغمًا، بفضل الآصرة المعقودة مع ربَّات الإلهام، لا يمكن أن يُبدَّل من لغته إلى لغةٍ أخرى، من غير أن تُهدَر حلاوته وطلاوته.

كل جيل بحاجة إلى ترجمة جديدة

هذا ما يقوله العقلاء من الناس، أنَّ كلّ جيل بحاجة إلى ترجمة جديدة. يبدو جيدًا، لكنى لا أراه أمرًا ضروريًا: إن كانت إحدى الترجمات فى أفضل صورة ممكنة لها فربما تبقى بقاءَ الأصل على مرَّ الزمان، أيضًا – ربما هى جديرة بالصمود. وحقيقة الأمر، فإنها قد تصمد فى وجه الزمان حتَّى لو لم تكن كما ينبغى أن تكون من ناحية الأسلوب والأمانة. إنَّ تَرجمة سى. كا. سكوت مونكريف للجزء الأكبر من عمل بروست البحث عن الزمن المفقود (والتى أسماها، لسوء طالع بروست، تذكُّر ما قد خلى) مكتوبةٌ بإنجليزية العصر الإدواردى [1901-1910] وهى أعتق من لغة نثر بروست نفسها، وانحرفت عن الأصل الفرنسى بوتيرة ثابتة. ومعَ ذلك فقد كانت مقنعة ووافية، وفقَ شروطها الخاصة، كما كانت جيدة الصياغة، إن أحببتَ هذا الأسلوب المزخرف المنمق، وقد هيمنت بلا منافس لثمانين عامًا. (وبكل تأكيد كانت ثمة مشكلة أخرى وهى العثور على شخصٍ واحد مستعد لإنجاز ترجمة جديدة لكتاب من نحو ثلاثة آلاف صفحة – شخص لن يلقى حتفه قبل إتمام عمله، كما استطاع سكوت مونكريف.)

وحتَّى لو كان بمقدور ترجمة ممتازة أن تصمد فى وجه الزمن فإنَّ هذا لا يعنى أنَّ مترجمين آخرين لا يمكنهم أن يحاولوا إنتاج نسخٍ أخرى. ففى نهاية الأمر، زيادة الخير خَيران.

مُتشائم آخر: أودن عن الترجمة:

فى قصيدة غنائية خالصة، عندما «ينشدُ» الشاعِر بدلًا مِن أن «يتحدّث»، فمِن النادر، إن لم يكن من المُحال، أن تكون [قصيدته] قابلة للترجمة.

سِربٌ من الذباب

اعتقدت لفترة مِن الوقت أنَّ هناك أربع عشرة ترجمة لرواية مَدَام بوفارى، ثم اكتشفتُ المزيد فاعتقدتُ أنَّ عددها ثمانى عشرة. ثم نُشرَت تَرجمة أخرى قبل أن أنهى ترجمتى ببضعة أشهر. وسمعتُ الآن أنَّ ثمّة ترجمة أخرى سوف تصدر قريبًا، وهكذا ستكون هناك عشرون ترجمة على الأقل، وربما توجد ترجمات أكثر لا أدرى بأمرها.

حدث مراتٍ عدّة، بينما كنتُ أعمل على إنجاز ترجمتى، أن أفتح إحدى الترجمات السابقة لمدام بوفارى التى اكتشفتُها حديثًا، ويغوص قلبى فى صدرى. فأقول لنفسي: طيّب، هذا جيد حقًا! قد يكون ما أعمله كله بلا طائل، فى نهاية الأمر! ثم ألقى نظرة أكثر تدقيقًا وأقارنُ بالأصل، فتبدأ الترجمة تبدو أقل جودة. ثم أبدأ فى التعرّف عليها جيدًا وعندئذٍ تبدو مفتقدة للكفاءة تمامًا.

على سبيل المثال، تبدو الجملة التالية على ما يرام، حتّى ألقى نظرة على الأصل: «أمامهم، سربٌ من الذباب ينجرفُ متقدمًا، ناشرًا هديره فى الهواء الدافئ.» لكنّ السِرب كان يرفّ (voltigeait)، ولم يكن ينجرف – وهو أمر مختلف تمامًا – كما أنه كان ينشر طنينه أو أزيزه ((bourdonnant، لأنَّ الهدير ليس صوتًا للذباب. (الهواء الدافئ لا بأس به.)

مثالٌ آخَر يخصّ الحشرات يوجدُ فى الصفحة الأخيرة من الرواية فى ترجمة مختلفة: «والذبابُ الهنديّ يطنّ منهمكًا حول الزنبق المزدهر.» مرة أخرى، تبدو الجملة على ما يرام حتّى نتفقّد النص الفرنسي: «des cantharides bourdonnaient autour des lis en fleur.» – وعندئذٍ سيكون عليك أن تتساءل عن شرعية إضافة الحال المجانى «منهمكًا» والذى يُضفى على الحشرات صبغة شخصية – لا سيما مع حرص فلوبير الشديد على حذف كل صورة بلاغية حيثما أمكنه ذلك.

إن لم تحتوِ ترجمةٌ ما على مشكلات واضحة فى الصياغة فقد تبدو على ما يرام عند النظرة الأولى، بل وحتَّى الانتهاء من الكتاب كاملًا، ما دمنا لم نُلقِ نظرة على الأصل. فعلى كل حال، ما أسرع ما نتكيف، نحن القراء، مع أسلوب المترجم، بحيث نتوقف عن الانتباه إليه، ونقع فى أسر قصة المؤلف ورؤيته للعالَم. وإنَّ كتابًا عظيمًا لقادر على أن يشعّ متجاوزًا أى ترجمة أقل من مقبولة. لن نعلم أبدًا ما الذى يفوتنا ما لم نقارنها بالنص الأصلى.

فى منتصف الطريق

الترجمة سيئة الصياغة، كما يمكن أن نتخيّل، هى تَرجمة هُجرَت وهى فى مرحلة انتقالية. ما هو مكتوب ليس لغة إنجليزية طبيعية، تفتقر إلى الوقع المناسب، ولكن بما أنها الآن موجودة، فإنَّ مجرد وجودها يبدو مسوّغًا لها. إنها ترجمة من نوعٍ ما، بلا أدنى شك، لأنَّ النص لم يعد فرنسيًا – وهو الآن إنجليزى. لكنها ليست الإنجليزية التى قد يكتبها أى كاتب موهوب تكون هى لغته الأم.

من الممكن أن نعتبرها مرحلة مبكرة، تسبق الترجمة الجيدة المنتهية. إنها بحاجة لإعادة كتابة وتحرير، بعض الاختيارات المختلفة للمفردات. غير أنها فى أغلب الأحوال تُهجَر على حالها فى تلك المرحلة وتنشَر.

التعاون مع الموتى

رواية مَدام بوفارى هى أوّل كتاب ترجمتُه كانت له ترجمات سابقة عديدة للغة الإنجليزية. وبما أننى ظللتُ أنظر مرارًا إلى ما يقرب من إحدى عشرة ترجمة أخرى – اثنتى عشرة بينما كنتُ أجرى تعديلات على النسخة الشعبية ذات الغلاف الورقى – فقد أصبحتُ على معرفة وثيقة بها.

وقد خطرَ لى من وقت لآخر، بينما كنتُ أدرسها – كما شعرتُ، فِعليًا، بأننى محاصَرَة بهم كجماعة واحدة – أنَّ الجهد الجماعى قد يكون مثيرًا للاهتمام. فهذه المُترجمة أكثر إلمامًا منى بالتاريخ الفرنسى (أو بالأحرى، كما أدركتُ لاحقًا، عند التدقيق، قد عثرَت على شخصٍ بارع لكتابة الحواشى الختامية)؛ وذلك المترجم لديه مهارة خاصة فى الحوار؛ وآخَر يبدو ثراء مفرداته طبيعيًا؛ وبعده آخَر هو كاتب أنيق ويمكنه أن يقدّم نقدًا مفيدًا لأسلوب نُسختي: ويمكننا معًا أن ننتِج ترجمة رائعة، لولا أنَّ أسبقَنا عاش فى ثمانينيات القرن التاسع عشر، وأنَّ أغلب الآخرين أيضًا، هُم الآن فى عداد الموتى.