يعتبر القضاء من الوظائف الحساسة المتعلقة بنظام الملك، الذى لا تستقيم أمور الدولة إلا به؛ لأنه أمر ضرورى لأحوال الرعية فى شئونهم الدينية والدنيوية، ولم تخوَّل هذه المهمة من منطقة إفريقيا الغربية إلا لمن توفرت فيه شروط معيَّنة مثل الكفاءة والعلم، وذلك نظراً لمكانة مؤسسة القضاء وأهميتها فى الإسلام، التى تستند على الأحكام الشرعية المأخوذة من الكتاب والسُّنة، ومن ثَمَّ فهو حُكم الله فى أخطاء البشر، ويعتبر هذا النظام من أهم الأنظمة والمؤسسات التى فرضت وجودها فى المجتمع الإسلامي. وأما فى منطقة إفريقيا الغربية فهناك نوعان من المؤسسات القضائية: القضاء التقليدى الذى يستند على العرف فى بثِّ أحكـامه؛ والذى كان يرأسه الملك أو رؤساء العشائر. والقضاء الإسلامى الذى يستند إلى الشريعة الإسلامية باعتبارها مرجعية أساسية فى أحكامه.
القضاء والعرف
قبل الدخول فى التفاصيل، نرى أنه من المفيد إلقاء الضوء وإن بشكل سريع على طبيعة النظام القضائى فى منطقة دراستنا، فى عصر ما قبل الإسلام، وذلك حتى تتكون لدينا الصورة بشكل أوضح وأشمل.
القضاء فى مجتمعات غرب إفريقيا الوثنية وهنا نتحدث عن (القضاء والعرف):
لم يكن لدى أهل إفريقيا الغربية قانونٌ مكتوبٌ يحكمون به، ويحدد نظامهم، ويضع قواعد قضائية للقضاة؛ وإنما كانوا يحفظون فى صدورهم ما توارثوه عن أسلافهم، من أساطير وأعراف متواترة بينهم، وهى التى كانت تُعدُّ بمثابة أنظمة وقوانين ثابتـة، لا يجوز مخالفتها، لأنها أساس القضاء عندهم.
وقد ارتبط القضاء قبل ظهور الإسلام بشخص الملك، لا لكونه يجسد العدالة فى بُعدها الاجتماعى فحسب؛ وإنما لكونه رمزَ القوى الحيوية التى تتحكم فى العلاقات بين أفراد المجتمع، لذا كانت القـوانين القائمة على العرف إلزامية؛ لا يمكن الإخلال بها مهما كانت الأسباب. كما أنَ احترام الناس للأعراف كان مصدره شدة المحن التى يمر بها المدَّعى عليه، لإجباره على الاعتراف بجنحته، ثم قسوة العقوبات التى تنزل بالمذنبين، كما هو الحال فى مملكة غانا.
الأحكام الشرعية
القضاء فى عهد مملكة مالى (الأدوار والمهام):
مع تجذُّر الإسلام واتساع رقعته فى مملكة مالي، أصبحنا نلمس قضاءً إسلاميّاً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى؛ مبنياً على الأحكام الشرعية المستمدة من الدين الإسلامي. فتؤكد نصوص ابن بطوطة على البُعد الاجتماعى لمؤسسة القضاء، ذلك أن رفاهية الشعوب وأمنها كانت تعتبر رهينة بعدالة الملك.
إن شيوع الأمن والعدل فى مملكة مالى يعتبر ظاهرة صحية لمؤسسة القضاء التى يرأسها الملك، ويعتمد فى أحكامه على العرف. واهتم ملوك مالى بنشر العدل، وتطبيق أحكام الدين الإسلامى بين الرعية، فعيَّنوا القاضى فى العاصمة نياني، وفى المدن الأخرى، كما وجدت فى المملكة محكمتان: محكمة عُليا برئاسة الملك، وأخرى برئاسة القاضي، الذى يعيِّنه الملك، وهى تختص بالنظر فى القضايا العامة، والجُنَح بين المواطنين، أما الجرائم السياسية وجرائم الجنايات الكبرى، فهى من اختصاص المحكمة الملكية العليا التى يرأسها الملك؛ فقد حاكم السلطان منسى سليمان بنفسه الذين اشتركوا فى مؤامرة عزله، ومنهم زوجته قاسا، وكان الحُكم متناسباً كلٌّ حسب جريمته. كما يروى العمرى عن
التأثر بالدول المجاورة
الشيخ سعيد الدكالى الذى أقام فى العاصمة نيانى مدة خمس وثلاثين سنة، أن الملك يحكم بالقصاص على كل من تسبب فى قتل شخص بالسحر، وتعتبر هذه من أكثر القضايا التى تُعرَض أمام منسى مالي. بَيْدَ أنَ الملك لم يكن يدير مؤسسة القضاء وحده، بل وُجِد إلى جانبه فقهاء قضاة تزايدت أهميتهم بتزايد الحضور الإسلامى فى الديار الإفريقية؛ فأينما وُجِد المسلمون فى مدن إفريقيا الغربية، إلا كان فيها قاضٍ، أو فقيهٌ يتولى النظر فى أمورهم الدينية والدنيوية.
ويلاحظ أن النظام القضائى فى مملكة مالى قد تأثَّر تأثُّراً كبيراً فى تنظيماته بمصر وبلاد المغرب، ولعل ذلك راجع إلى حجة السلطان منسى موسى إلى الديار المقدسة، ومروره بمصر؛ إذ اصطحب معه عدد من الفقهاء ممن كانوا قد تتلمذوا على يد علماء مالكيين من فئة القضاة، إضافة إلى تلك الرحلات العلمية التى كان يرسلها المنسى إلى مدينة فاس المغربية، وما قام به من علاقات سياسية مع حُكام المغرب من بنى مرين، وصلت إلى حدِّ تبادل الوفود والسفارات، نقلت من خلالها تأثيرات تنظيمية شملت خطة القضاء.
إعداد الطلاب الوافدين:
محمد ذاكر محمد عيسى.. صمت الله صفت الله
اقرأ أيضًا : فى ظل الجمهورية الجديدة .. رعاية فائقة لأهل مصر يتصدرهم حملة كتاب الله بمستشفى الدعاة