القضاء فى إفريقيا الغربية «١» .. الأحكام الشرعية المصدر الأساسى.. ودرجات التقاضى ضمان للعدالة

القضاء فى إفريقيا
القضاء فى إفريقيا

يعتبر‭ ‬القضاء‭ ‬من‭ ‬الوظائف‭ ‬الحساسة‭ ‬المتعلقة‭ ‬بنظام‭ ‬الملك،‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬تستقيم‭ ‬أمور‭ ‬الدولة‭ ‬إلا‭ ‬به؛‭ ‬لأنه‭ ‬أمر‭ ‬ضرورى‭ ‬لأحوال‭ ‬الرعية‭ ‬فى‭ ‬شئونهم‭ ‬الدينية‭ ‬والدنيوية،‭ ‬ولم‭ ‬تخوَّل‭ ‬هذه‭ ‬المهمة‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬إفريقيا‭ ‬الغربية‭ ‬إلا‭ ‬لمن‭ ‬توفرت‭ ‬فيه‭ ‬شروط‭ ‬معيَّنة‭ ‬مثل‭ ‬الكفاءة‭ ‬والعلم،‭ ‬وذلك‭ ‬نظراً‭ ‬لمكانة‭ ‬مؤسسة‭ ‬القضاء‭ ‬وأهميتها‭ ‬فى‭ ‬الإسلام،‭ ‬التى‭ ‬تستند‭ ‬على‭ ‬الأحكام‭ ‬الشرعية‭ ‬المأخوذة‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬والسُّنة،‭ ‬ومن‭ ‬ثَمَّ‭ ‬فهو‭ ‬حُكم‭ ‬الله‭ ‬فى‭ ‬أخطاء‭ ‬البشر،‭ ‬ويعتبر‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الأنظمة‭ ‬والمؤسسات‭ ‬التى‭ ‬فرضت‭ ‬وجودها‭ ‬فى‭ ‬المجتمع‭ ‬الإسلامي‭. ‬وأما‭ ‬فى‭ ‬منطقة‭ ‬إفريقيا‭ ‬الغربية‭ ‬فهناك‭ ‬نوعان‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬القضائية‭: ‬القضاء‭ ‬التقليدى‭ ‬الذى‭ ‬يستند‭ ‬على‭ ‬العرف‭ ‬فى‭ ‬بثِّ‭ ‬أحكـامه؛‭ ‬والذى‭ ‬كان‭ ‬يرأسه‭ ‬الملك‭ ‬أو‭ ‬رؤساء‭ ‬العشائر‭. ‬والقضاء‭ ‬الإسلامى‭ ‬الذى‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬الشريعة‭ ‬الإسلامية‭ ‬باعتبارها‭ ‬مرجعية‭ ‬أساسية‭ ‬فى‭ ‬أحكامه‭.‬

القضاء‭ ‬والعرف

قبل‭ ‬الدخول‭ ‬فى‭ ‬التفاصيل،‭ ‬نرى‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬المفيد‭ ‬إلقاء‭ ‬الضوء‭ ‬وإن‭ ‬بشكل‭ ‬سريع‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬النظام‭ ‬القضائى‭ ‬فى‭ ‬منطقة‭ ‬دراستنا،‭ ‬فى‭ ‬عصر‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام،‭ ‬وذلك‭ ‬حتى‭ ‬تتكون‭ ‬لدينا‭ ‬الصورة‭ ‬بشكل‭ ‬أوضح‭ ‬وأشمل‭.‬

‮ ‬القضاء‭ ‬فى‭ ‬مجتمعات‭ ‬غرب‭ ‬إفريقيا‭ ‬الوثنية‭ ‬وهنا‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ (‬القضاء‭ ‬والعرف‭):‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬لدى‭ ‬أهل‭ ‬إفريقيا‭ ‬الغربية‭ ‬قانونٌ‭ ‬مكتوبٌ‭ ‬يحكمون‭ ‬به،‭ ‬ويحدد‭ ‬نظامهم،‭ ‬ويضع‭ ‬قواعد‭ ‬قضائية‭ ‬للقضاة؛‭ ‬وإنما‭ ‬كانوا‭ ‬يحفظون‭ ‬فى‭ ‬صدورهم‭ ‬ما‭ ‬توارثوه‭ ‬عن‭ ‬أسلافهم،‭ ‬من‭ ‬أساطير‭ ‬وأعراف‭ ‬متواترة‭ ‬بينهم،‭ ‬وهى‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تُعدُّ‭ ‬بمثابة‭ ‬أنظمة‭ ‬وقوانين‭ ‬ثابتـة،‭ ‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬مخالفتها،‭ ‬لأنها‭ ‬أساس‭ ‬القضاء‭ ‬عندهم‭.‬

وقد‭ ‬ارتبط‭ ‬القضاء‭ ‬قبل‭ ‬ظهور‭ ‬الإسلام‭ ‬بشخص‭ ‬الملك،‭ ‬لا‭ ‬لكونه‭ ‬يجسد‭ ‬العدالة‭ ‬فى‭ ‬بُعدها‭ ‬الاجتماعى‭ ‬فحسب؛‭ ‬وإنما‭ ‬لكونه‭ ‬رمزَ‭ ‬القوى‭ ‬الحيوية‭ ‬التى‭ ‬تتحكم‭ ‬فى‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع،‭ ‬لذا‭ ‬كانت‭ ‬القـوانين‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬العرف‭ ‬إلزامية؛‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الإخلال‭ ‬بها‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬الأسباب‭. ‬كما‭ ‬أنَ‭ ‬احترام‭ ‬الناس‭ ‬للأعراف‭ ‬كان‭ ‬مصدره‭ ‬شدة‭ ‬المحن‭ ‬التى‭ ‬يمر‭ ‬بها‭ ‬المدَّعى‭ ‬عليه،‭ ‬لإجباره‭ ‬على‭ ‬الاعتراف‭ ‬بجنحته،‭ ‬ثم‭ ‬قسوة‭ ‬العقوبات‭ ‬التى‭ ‬تنزل‭ ‬بالمذنبين،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬فى‭ ‬مملكة‭ ‬غانا‭.‬

الأحكام‭ ‬الشرعية

القضاء‭ ‬فى‭ ‬عهد‭ ‬مملكة‭ ‬مالى‭ (‬الأدوار‭ ‬والمهام‭):‬

مع‭ ‬تجذُّر‭ ‬الإسلام‭ ‬واتساع‭ ‬رقعته‭ ‬فى‭ ‬مملكة‭ ‬مالي،‭ ‬أصبحنا‭ ‬نلمس‭ ‬قضاءً‭ ‬إسلاميّاً‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تعنيه‭ ‬الكلمة‭ ‬من‭ ‬معنى؛‭ ‬مبنياً‭ ‬على‭ ‬الأحكام‭ ‬الشرعية‭ ‬المستمدة‭ ‬من‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي‭. ‬فتؤكد‭ ‬نصوص‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة‭ ‬على‭ ‬البُعد‭ ‬الاجتماعى‭ ‬لمؤسسة‭ ‬القضاء،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬رفاهية‭ ‬الشعوب‭ ‬وأمنها‭ ‬كانت‭ ‬تعتبر‭ ‬رهينة‭ ‬بعدالة‭ ‬الملك‭.‬

إن‭ ‬شيوع‭ ‬الأمن‭ ‬والعدل‭ ‬فى‭ ‬مملكة‭ ‬مالى‭ ‬يعتبر‭ ‬ظاهرة‭ ‬صحية‭ ‬لمؤسسة‭ ‬القضاء‭ ‬التى‭ ‬يرأسها‭ ‬الملك،‭ ‬ويعتمد‭ ‬فى‭ ‬أحكامه‭ ‬على‭ ‬العرف‭. ‬واهتم‭ ‬ملوك‭ ‬مالى‭ ‬بنشر‭ ‬العدل،‭ ‬وتطبيق‭ ‬أحكام‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامى‭ ‬بين‭ ‬الرعية،‭ ‬فعيَّنوا‭ ‬القاضى‭ ‬فى‭ ‬العاصمة‭ ‬نياني،‭ ‬وفى‭ ‬المدن‭ ‬الأخرى،‭ ‬كما‭ ‬وجدت‭ ‬فى‭ ‬المملكة‭ ‬محكمتان‭: ‬محكمة‭ ‬عُليا‭ ‬برئاسة‭ ‬الملك،‭ ‬وأخرى‭ ‬برئاسة‭ ‬القاضي،‭ ‬الذى‭ ‬يعيِّنه‭ ‬الملك،‭ ‬وهى‭ ‬تختص‭ ‬بالنظر‭ ‬فى‭ ‬القضايا‭ ‬العامة،‭ ‬والجُنَح‭ ‬بين‭ ‬المواطنين،‭ ‬أما‭ ‬الجرائم‭ ‬السياسية‭ ‬وجرائم‭ ‬الجنايات‭ ‬الكبرى،‭ ‬فهى‭ ‬من‭ ‬اختصاص‭ ‬المحكمة‭ ‬الملكية‭ ‬العليا‭ ‬التى‭ ‬يرأسها‭ ‬الملك؛‭ ‬فقد‭ ‬حاكم‭ ‬السلطان‭ ‬منسى‭ ‬سليمان‭ ‬بنفسه‭ ‬الذين‭ ‬اشتركوا‭ ‬فى‭ ‬مؤامرة‭ ‬عزله،‭ ‬ومنهم‭ ‬زوجته‭ ‬قاسا،‭ ‬وكان‭ ‬الحُكم‭ ‬متناسباً‭ ‬كلٌّ‭ ‬حسب‭ ‬جريمته‭. ‬كما‭ ‬يروى‭ ‬العمرى‭ ‬عن‭ ‬

التأثر‭ ‬بالدول‭ ‬المجاورة

الشيخ‭ ‬سعيد‭ ‬الدكالى‭ ‬الذى‭ ‬أقام‭ ‬فى‭ ‬العاصمة‭ ‬نيانى‭ ‬مدة‭ ‬خمس‭ ‬وثلاثين‭ ‬سنة،‭ ‬أن‭ ‬الملك‭ ‬يحكم‭ ‬بالقصاص‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬تسبب‭ ‬فى‭ ‬قتل‭ ‬شخص‭ ‬بالسحر،‭ ‬وتعتبر‭ ‬هذه‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬القضايا‭ ‬التى‭ ‬تُعرَض‭ ‬أمام‭ ‬منسى‭ ‬مالي‭. ‬بَيْدَ‭ ‬أنَ‭ ‬الملك‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يدير‭ ‬مؤسسة‭ ‬القضاء‭ ‬وحده،‭ ‬بل‭ ‬وُجِد‭ ‬إلى‭ ‬جانبه‭ ‬فقهاء‭ ‬قضاة‭ ‬تزايدت‭ ‬أهميتهم‭ ‬بتزايد‭ ‬الحضور‭ ‬الإسلامى‭ ‬فى‭ ‬الديار‭ ‬الإفريقية؛‭ ‬فأينما‭ ‬وُجِد‭ ‬المسلمون‭ ‬فى‭ ‬مدن‭ ‬إفريقيا‭ ‬الغربية،‭ ‬إلا‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬قاضٍ،‭ ‬أو‭ ‬فقيهٌ‭ ‬يتولى‭ ‬النظر‭ ‬فى‭ ‬أمورهم‭ ‬الدينية‭ ‬والدنيوية‭.‬

ويلاحظ‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬القضائى‭ ‬فى‭ ‬مملكة‭ ‬مالى‭ ‬قد‭ ‬تأثَّر‭ ‬تأثُّراً‭ ‬كبيراً‭ ‬فى‭ ‬تنظيماته‭ ‬بمصر‭ ‬وبلاد‭ ‬المغرب،‭ ‬ولعل‭ ‬ذلك‭ ‬راجع‭ ‬إلى‭ ‬حجة‭ ‬السلطان‭ ‬منسى‭ ‬موسى‭ ‬إلى‭ ‬الديار‭ ‬المقدسة،‭ ‬ومروره‭ ‬بمصر؛‭ ‬إذ‭ ‬اصطحب‭ ‬معه‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الفقهاء‭ ‬ممن‭ ‬كانوا‭ ‬قد‭ ‬تتلمذوا‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬علماء‭ ‬مالكيين‭ ‬من‭ ‬فئة‭ ‬القضاة،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الرحلات‭ ‬العلمية‭ ‬التى‭ ‬كان‭ ‬يرسلها‭ ‬المنسى‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬فاس‭ ‬المغربية،‭ ‬وما‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬علاقات‭ ‬سياسية‭ ‬مع‭ ‬حُكام‭ ‬المغرب‭ ‬من‭ ‬بنى‭ ‬مرين،‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬حدِّ‭ ‬تبادل‭ ‬الوفود‭ ‬والسفارات،‭ ‬نقلت‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬تأثيرات‭ ‬تنظيمية‭ ‬شملت‭ ‬خطة‭ ‬القضاء‭.‬

إعداد‭ ‬الطلاب‭ ‬الوافدين‭:‬

محمد‭ ‬ذاكر‭ ‬محمد‭ ‬عيسى‭.. ‬صمت‭ ‬الله‭ ‬صفت‭ ‬الله

 

اقرأ أيضًا : فى ظل الجمهورية الجديدة .. رعاية فائقة لأهل مصر يتصدرهم حملة كتاب الله بمستشفى الدعاة