إبداع الأخبار .. الخبز المالح

 عبير نعيم أحمد
عبير نعيم أحمد

منذ وَجَّه الكاتب الصحفى الكبير خالد ميرى رئيس التحرير بنشر إبداعات المتميزين، ونصوص الشباب الناضجة من قصة وشعر، تنهمر على بريدنا سواء التقليدى أو الإلكترونى، ونحن نرحب بها جميعًا ونعد بنشر المتميز منها فى أقرب فرصة، وهذا الأسبوع ننشر قصة الأديبة عبير نعيم أحمد.

كنت أراقبها كل يوم عن كثب، وأنا ذاهب إلى المدرسة على أطراف القرية، وهى تخرج فى نفس التوقيت بقدها الممشوق، وطولها الفارع، وضفيرتها المتدلية خلف ظهرها، وهى ترمى برغيف الخبز غير الكامل المقضوم من أطرافه! يدفعنى الفضول بعد أن تدخل بيتها إلى أن ألقى نظرة على الرغيف، فأجده كل مرة هو نفسه الرغيف المقضوم.. أتحسسه كل مرة.. أجده طرى الحواف كأنه هارب من شهية مفقودة.

اقرأ ايضاً| فى الجامعة الأمريكية ذكريات شخصية مع العميد

وبعد دقائق تلتف الخراف والقطط على هذا الرغيف فتلتهمه.. ظللت  شهورًا وأنا أرى هذا المشهد يتكرر أمامي، والكل يعرف فى القرية أن «أنيسة» سيدة فقيرة  لكن شعرت بأن لديها إنسانية تفوق الأغنياء، فهى تقتسم رغيف خبزها مع الخراف والعصافير والقطط ، لم  يتبق مكان إلا وأنا أقص فيه حكايتها الرائعة حتى صارت مضرب المثل فى القرية برحمتها، كل أهل القرية سارعوا  بإرسال مانقص منها من مال وطعام حتى بيتها الطينى قاموا بترميمه، تبقى القليل على انتهاء العام الدراسي، كانت أرجلى تسوقنى إلى جنب بيتها كالمتيم ، وبرغم فارق السن الكبير أتوق لمشاهدة قدها الممشوق، والطرحة السوداء، والشعر الحريرى يتدلى من تحتها، لم تتوقف عن عادتها كل صباح فى رمى الرغيف المقضوم على قارعة الطريق، تبقى يوم واحد، والدراسة تنتهي، ولن أمر بهذا الطريق حتى انتهاء الإجازة الصيفية، أردت أن ألقى نظرة وداع عن قرب لهذا الوجه الجميل البريء، خيوط الشمس كانت تتسلل - ببطء - فى هذا اليوم لتمتحن ساعات الاشتياق داخلى.

حتى لاح صبح المتيم، لبست على عجالة ووضعت حقيبتى على ظهري، وقطعت الطريق المؤدى إلى بيتها فى دقائق، فكنت أمشى متمطيًا حذاء اللهفة لا أرجلي، حتى وصلت أمام بيتها، وجدته مواربًا قليلًا، أدخلت رأسى مطلًا على صالة المنزل.

وطرقت طرقة خفيفة، لعلها نائمة مع أن هذا الموعد هو هو  ميعاد الرغيف المقضوم، تسللت بخوف إلى الداخل سمعت صوت قهقهة عالية تخرج من حجرة ضيقة يمين الصالة، وجدت باب الحجرة موصدًا، لكن توجد فتحة صغيرة يمين الباب مددت بصري، وجدتها تكشف من داخل الحجرة، فجأة اختلط بقهقهة «أنيسة» صوت رجل يقول متغنجًا: قولى لى يا بت يا أنيسة، إيه حكاية الرغيف اللى ملت البلد دي؟ فردت سريعًا وهى تتمايل على صدره أنت تعرف أنى امرأة ليل، وكل رجل يأتى لقضاء ليلة هنا يأتى بطعامه، فأنا أشفقت على رغيف الخبز أن تتقاسمه أيضًا أفواه الرجال.