د.محمد سمير عبد السلام يكتب : ملحمة رأس الكلب: التكوين الإدراكى التجريبى للشخصية الفنية

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

«ملحمة رأس الكلب» رواية حديثة للشاعر والروائى المصرى محمد أبوزيد؛ صدرت عن دار الشروق بالقاهرة 2023، ويؤكد محمد أبوزيد الخطاب السردى التجريبى حول تشكيل الشخصية الفنية، وصيرورتها الإبداعية التى تقع بين الوعي، واللاوعي، والواقع، والواقع السحرى أو الافتراضي، أو الفانتازيا؛ ويعيدنا إلى طرائق تكوين الشخصية الفنية، وتطورها منذ البدايات الإدراكية إلى حالة الاختفاء المؤجل الملتبسة بحضور تشبيهى أو طيفى محتمل؛ إذ يبدأ النص بإشارات السارد إلى وعى شخصية دو الفائق بصوت لكلب مجهول على السلم؛ وكأن الصوت يود أن يرسل رسالة، أو أنه يتصل بحب دو للشخصيات الاستثنائية التى قد تجد عالمها غريبا ضمن وفرة المعلومات ووسائط الميديا والإنترنت، والصحف؛ ومن ثم يصل الخطاب صوت الكلب المجرد بالإشارة إلى اسم دو المتضمن فى السلم الموسيقى فى نوع من الأنافورا أو التأشير العائدى المركب؛ فصوت الكلب لا يفهم إلا من خلال الهارمونى الموسيقى الأسبق فى عالم دو الداخلي، ولا يمكن فهم تلك الموسيقى الداخلية إلا من خلال الإشارة إلى ماضى دو، وتعلقها بأبطال افتراضيين، أو بصور ذهنية لشخصيات واقعية تفتتح عوالم مجردة وغامضة تشبه الموسيقى التى تنبعث من صوت الكلب على الدرج أو السلم ليلا.

 وربما اختار السارد علامة الدرج، والفضاء الهوائى المحيط به؛ ليوحى بصلة صوت الكلب بالعوالم المنتجة بواسطة وعى دو المبدع بالصور التكنولوجية المتقطعة الوفيرة فى مواقع التواصل، والأفلام، والمشاهد اليومية المتداخلة والمتراكبة فى أنواع من التسلسل غير المتناهى، والمعقد؛ لذا فالسلم يوحى بالصعود أو النزول ضمن بنية لمرجع مكانى مؤقت يصل بين عوالم افتراضية وواقعية، وسحرية متداخلة؛ وسوف تتصل مثل هذه الموسيقى الملتبسة بصورة البائع الذى يحمل رأس كلب فى محل صغير لبيع الحيوانات فيما بعد ضمن تأشير لاحقى آخر فى وحدة الخطاب؛ فذلك البائع يشارك دو، وصديقتها لبنى البطولة من حيث ارتكاز السارد على وعيه وتاريخه الفانتازى أحيانا فى خطابه السردى التجريبي؛ فهو يتصل بكل من نغمتى الرعب، والهارمونى الموسيقى اللتين وجدتا فى التمثيل الذهنى لصوت الكلب الأول الطيفى على الدرج.

اقرأ ايضاً |  الضوى محمد يكتب: الأب الأيقوني

وتوحى سيرته بالاتصال ما بعد الحداثى بين النغمتين، أو الاتصال بين التيه المكانى، وإعادة اكتشاف بنية الحضور وصفاء الوعى فى فضاء فانتازى يدعى مدينة التائهين؛ وهو فضاء مؤجل للتيه الوجودى باتجاه إدراك دائرية لحظة الحضور، وتجاوز أحداث الذاكرة المملوءة بالعبث، ولحظات الحبس، والألم؛ نستطيع إذا تلمس بدايات نشوء الشخصية - فى رواية محمد أبو زيد – من خلال وعى دو الفائق بالبيانات السمعية ذات الدلالة، وعلاقتها بأحلام يقظتها الأنثوية، وحبها للشخصيات التى تفتتح عوالم غامضة استعارية ممكنة، ونغمات صوت الكلب التى توحى بالرعب، والهارمونى المؤجل، والفضاء المكانى الصغير الهامشى / محل بيع الحيوانات؛ وهو مرجع مكانى يوحى بالتشابه بين مشاهد الحياة اليومية الصغيرة، والفضاءات الممكنة فى الوعي؛ والتى تقوم على التوسع الإدراكى فى مؤشر سياقى يمنح المرجع المكانى أبعادا مكانية أخرى مضافة فى موقف التواصل؛ فضلا عن آلية الوعى فى تحوير بعض التمثيلات الذهنية الحرفية وفقا للدراسات الإدراكية الموسعة حاليا حول التمثيلات الذهنية الداخلية؛ لذا بالانطباعات المولدة عن الشخصية أسهمت فى تكوينها الإبداعى بصورة رجل له رأس كلب فى محل لبيع الحيوانات؛ وتوحى بنية المرجع المكانى الصغير بالإعلاء من صور الحيوانات، وتمثيلاتها وكأنها تجاوزت حالات الصراع، وتعيش فى حالة من الرضا والتناغم فى الفضاء الممكن مع رأس الكلب؛ ومن ثم فتكوين الشخصية يوحى بأن الوقائع التى يشير إليها السارد بوصفها جزءا من واقع سحرى، لا تنفصل عن التشكيل الإدراكى التجريبى للشخصية فى وحدة الخطاب.


وأرى أن المدخل التفسيرى المناسب لشخصيات فنية تجريبية؛ مثل شخصية رأس الكلب فى الرواية؛ هو المدخل الإدراكى المكانى؛ فيمكننا تأويل نشوء الشخصية انطلاقا من رؤى فوكونير حول الفضاءات الذهنية، ورؤى مارك تيرنر عن فضاءات المزج الإدراكى، ونتائج دراسات الصور الذهنية والتمثيلات الذهنية الداخلية، ورؤى التوسع المكانى الفانتازى المعاصر عند روبرت تاللى جى آر، وغيره؛ تأتى شخصية رأس الكلب فى مواجهة شخصيتين فنيتين لهما قدرات عقلية خاصة؛ ف دو تحب ولوج العوالم الممكنة الغامضة.

ولبنى تحب العوالم السحرية وحكايات الجدة التى تلج فضائها الجسدى أو الطيفي؛ ومن ثم أرى أن الحجة المنطقية الرئيسية التى يقدمها الخطاب هى حجة استقرائية تبدأ من الحالات النسبية لتؤكد للمروى عليه أنه بالفعل أمام شخصية لها رأس كلب؛ ومن ثم تشترك الشخصيات الأخرى فى تأكيد البيان البصرى انطلاقا من إجماع كل من لبنى، ودو، ورأس الكلب نفسه الذى أصيب بنوبة رعب وتيه وجودى فى البداية، ثم عزلة، ثم محاولات للتذكر، والربط السببي؛ ثم معاينة صفاء بنية الحضور مع دو، ومع مرشده الباطنى فى مدينة التائهين، ثم غيابه فى العالم الإدراكى مرة أخرى لدو ولبنى؛ لن ينفصل رأس الكلب – إذا – عن نتائج دراسة فوكونير عن الربط الإدراكى مثلا بين شخصية كلينيت إستوود الممثل فى الواقع، ودوره فى الفيلم فى كتابه عن الفضاءات الذهنية؛ فرأس الكلب شخصية ممكنة تجمع بين شخصية لها نظائر فى الحيوانات العاقلة فى التراث الثقافى لإيسوب، وبيدبا، والليالى، وبعض الشخصيات العبثية والسريالية مثل غريغور لدى كافكا، والرجل الحلمى المقنع فى رواية رقص رقص لموراكامى وغيرها؛ ولها أبضا نظائر فى الهلاوس، والأخيلة، والانطباعات الفورية التى قد يحور فيها الوعى بعد تجسدات البيانات البصرية وتمثيلاتها الذهنية، وبعض فضاءات الحلم الذهنية الممكنة؛ كما تؤكد منظور مارك تيرنر حول تشكيل بعض الشخصيات الفنية مثل سوبرمان وفق مبدأ المزج الإدراكى فى كتابه أصل الأفكار؛ فرأس الكلب يجمع بين شخصيتين فنيتين، أو بين فضاءين أو أكثر من فضاءات الإدخال التى تنسج الروابط الدلالية والإدراكية بينها فضاء آخر للمزج؛ فهو يجمع بين شخص يتآلف – مثل دو ولبنى - مع الحيوانات الأليفة، أو يتوافق مع حالة التناغم الكونى أو الداخلى الكامنة فى نموذج الرحلة الروحية فى نماذج اللاوعى الجمعى طبقا ليونج – ويتداخل مع الحيوانات العاقلة فى التراث العربى والعالمي؛ مثل أرنب أليس فى بلاد العجائب، وطيور وثعالب لافونتين، وابن آوى فى كليلة ودمنة، وبعض شخصيات عوالم البحار فى الليالى، كما يتداخل مع بحث صوت الكلب المجهول الطيفى عن مدلول كينونته – فى وعى دو الفائق – وتحول نغماته إلى التكرار المفرط لنغمات الرعب، والتجانس، والعزلة، والغياب المؤجل، والتيه المؤجل والصفاء الباطنى فى الذات، والآخر، وفى سيرة رأس الكلب نفسه؛ وتؤكد دراسات التمثيلات الذهنية المعاصرة إمكانية المزج بين التجسدات الحرفية والممكنة للداتا البصرية؛ مثل دراسة جوليا سمورتكوفا، وميشيل موريز المعنونة بأنواع التمثيلات الذهنية؛ ومن ثم نعاين تلك التمثيلات وفق تأكيد الراوى لحجة كل من لبنى، ودو الاستقرائية، ونراه يقوم بنقضها باتجاه الاختفاء، أو الحضور الاستعارى الباطنى فى النهاية؛ ونعاين حالتى الدهشة والرعب اللتين صاحبتا إدراك رأس الكلب لتحوله، أو نشوئه الاستعارى فى نوع من الألفة، والاغتراب، والبحث السببى المعلق دائما عن جذور تلك الصورة الذهنية، أو التمثيل الذهنى الملتبس بين الوجود الآنى، والماضي.


ويمكننا قراءة شخصية رأس الكلب ضمن نتائج الدراسات المكانية المعاصرة حول التوسع الفانتازى الممكن للفضاء انطلاقا من السياق الثقافى المعقد فى إدراك المكان لدى روبرت تاللى جى آر فى كتابه النزعة المكانية؛ فذلك المحل الصغير المخصص لهارمونى أصوات الحيوانات، والبيع ظاهريا - فى الخطاب - يفتتح فضاءات، وعوالم أخرى؛ مثل فضاء التائهين، وفضاء الحكايات، والموسيقى الحلمى أسفل النفق لدى الجار العجوز الذى يهوى تربية الحيوانات، والوحوش أيضا؛ مثل هذا التوسع الفانتازى – السحرى المكانى يلائم التكوين الملتبس لشخصية رأس الكلب؛ ويلائم حكايات جدة لبنى التى تحل فى تجسد لبنى المادى، والطيفي؛ ويلائم – فى بنية الخطاب أيضا – حالة الاستبدال الدينامى الخيالى للأجسام، والرؤوس، وخطاب القطة أليس عن حقوق القطط فى المستقبل، وحالة البحث عن الاستنارة الباطنية التى تتجاوز فكرة مركزية الماضى، ومركزية التجسد بالأساس فى مدينة التائهين؛ ومن ثم تعزز الشخصية من التوسع فى الفضاء الفانتازى، والافتراضى، وتسهم فى قراءة السياق الثقافى المعاصر فى تأكيد الخصوصية الحداثية المفرطة الجديدة فى إدراك شعرية تكوين الشخصية؛ والعودة أحيانا إلى السخرية ما بعد الحداثية من مركزية إشارات الراوى، وموثوقية علمه؛ بخاصة حين يشير إلى وفاة والد رأس الكلب نتيجة لتأثير نكتة غير مضحكة فى كتاب يدعى ألف نكتة، ونكتة؛ ويبدو أنه يحاكى اسم الليالى محاكاة ما بعد حداثية ساخرة فى سياق حضارى آخر تنتشر فيه صور الميديا السريعة المقطعة، وأصوات الأغانى، ومشاهد المسلسلات فى تسلسل فريد، يقبل التوسع، والتأويلات الوجودية، والعبثية، والروحية الممكنة؛ فضلا عن تأكيد الخطاب لمؤشر انتشار التأملات الباطنية، ومحاولات إعادة استكشاف مدلول الوعى، والصفاء الداخلي؛ لذا أرى أيضا أن المؤشر السياقى الإدراكى الأساسى فى موقف التواصل بين الراوى والمروى عليه وفق نظرية الصلة لدان سبيربر، وديردرى ويلسون هو انتخاب علامة السلم الصاعد، والهابط الذى يبدو ممتدا فى المشهد؛ والذى يوحى بالتوسع المكانى الممكن، والتوسع فى الاستدلالات المبنية على مزج اللامرئى بالأصالة الإبداعية فى كل من العوالم الداخلية دو، ولبنى، ورأس الكلب.


ولم تأت إشارات السارد ضمن واقع سحرى أو حساسية إدراكية مفرطة للمكان والشخصية فقط، ولكنها جردت مدينة التائهين من التجسد فى زمان محدد؛ وإن دخلها رأس الكلب فى مرحلة من صيرورته الإبداعية؛ وتمثل هذه المدينة فضاء ذهنيا يقع ضمن استعارة إدراكية رئيسية فى الخطاب بين تكوينها الفانتازى، وفضاء افتراضى آخر قيد التشكل يعزز من دائرية الحضور، وتجاوز مركزية الذاكرة، وتجسدات النشوء المحتملة باتجاه الأصالة الإبداعية التى تقع فيما وراء التكوين، ويتصل الفضاءان عبر روابط دلالية مثل تجاوز مركزية المنطق السببى، وإمكانية تجسد الفضاء ضمن المشاهد الواقعية الهامشية، أو ضمن فضاءات التواصل الاجتماعى الواقعية أو الافتراضية؛ وسيصير فضاء المزج مركبا من نغمة استعادة بنية الحضور الدائرى فى مدينة التائهين ضمن فضاءات الواقع الصغيرة الهامشية القابلة للتوسع مثل منزل الجار العجوز، وفضاء محل الحيوانات الذى يتراوح بين الظهور والغياب فى الشارع الصغير، وتمثيلاته الذهنية فى الرواية.


وإذا أعدنا قراءة شبكة العلاقات المكانية بين الشخصيات، واستلهمنا آليات مقاربة فرانكو موريتى المكانية فى قراءة الشخصيات وفق تأثير الخطاب، والأسلوب، والعلاقات الجديدة المنتجة بواسطة رؤوس الشبكة؛ سنجد أنه يمكن رسم شبكة العلاقات المكانية فى رواية ملحمة رأس الكلب لمحمد أبو زيد فى دائرة تتوسطها الشخصيات الثلاث الرئيسية؛ وهى دو، ولبنى، ورأس الكلب، وتتشابك العلاقات الخطية وتتدرج فى الشدة مع الشخصيات الأخرى؛ مثل جدة لبنى، والجار العجوز محب الحيوانات، والقطة العاقلة أليس.

وعازف الهارمونيكا، وغيرهم؛ ونلاحظ أن الشبكة لن تستقيم إذا أزلنا النقطة الممثلة للجدة؛ فهى تمثل أطياف التحول الاستعارى للحكايات فى شخصيات الرواية الأخرى؛ كما لا يمكن إزالة النقطة الممثلة لشخصية الجار العجوز، أو عازف الهارمونيكا؛ لأنهما يفتتحان عوالم حلمية، وسحرية ممكنة تعزز من أخيلة لبنى، ودو، ومن السيرة الخيالية لرأس الكلب؛ وسنلاحظ أن بقاء تأثير شخصية رأس الكلب، والجار العجوز، والجدة فى شبكة العلاقات المكانية المعقدة رغم الاختفاء الزمني؛ سيؤدى إلى بقاء أثر الحجة الاستقرائية النسبية المستمدة من حدس كل من لبنى، ودو – فى المستقبل - فيما وراء الغياب المؤجل لمحل بيع الحيوانات فى النهاية.