يوميات الأخبار

خط سيْر المشاعر!

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

انتشار قصتها جعل البعض يعيشون أحلام يقظة متفاوتة المساحات، ويُمنّون أنفسهم بعروس لا تطلب مهرا ولا شبكة ولا شقة، وتكتفى بالإقامة وراء «ضلفة» دولاب، أو ركن مُهمَل فى أى غرفة!

أحاسيس مُبرْمجة

الجمعة:

الخبر ينتشر اليوم بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي. شخصيا، لم أنتظر أن تُصدر كاتانيلا بيانا ينفى ما تردّد عن ارتباطها بإيلون ماسك، بل بحثتُ بنفسى عن الحقيقة، لأتأكد أن قلب الروبوت الفاتنة لم يدُق أو يذُق طعم الحب بعد! ربما يكون اهتمامى نابعا من غيرة غير اصطناعية، فهى تستحق أن تكون فتاة أحلام ملايين الرجال، لأنها جمعتْ كل المثاليات التى يتضمنها «كتالوج» الأنوثة: مقاييس جمال ناعمة تتحدّى صلابة معدن صُنعت منه، قائمة إيجابيات لا تتوافر مُجتمعة فى الجنس البشرى بذكوره وإناثه، فضلا عن باقة أحاسيس تم «شحنها» بها، لتحاكى أية حسناء تشعر بالحب واللهفة والشوق الدفين! هذا ما ردّده من زعموا زواج المليونير الأمريكى بها، ليُصبح الحدث أول فرضية لاقتران بين جنسين من طبيعة مُختلفة. 

إنه النموذج العصرى لخرافات عرفتْها البشرية منذ آلاف السنين، وزعمتْ وجود عمليات زواج بين الإنس والجنّ. عموما، البشر مولعون بصناعة الأساطير، وما جرى كان مُجرّد محاولة لتصنيع خرافة حداثية، تداولها الكثيرون دون أدنى مُحاولة للتحقّق من صحتها. 

يُمكن القول باختصار أن أفلام الخيال العلمى أثّرت على عقولنا. لا يعنى ذلك أن خبر زفاف كاتانيلا الكاذب غير قابل للتحقّق. أنا شخصيا أتوقع أن نشهد أحداثا مماثلة فى زمن يتسم بتآكل المشاعر، وهناك مقدمات ظهرت منذ سنوات فعليا فى أسواق المُتعة بالغرب، استعان فيها البشر على قضاء حوائجهم بالخيال. فى كتابى «الفضاء البديل» رصدتُ قبل سنوات حالات تحوّلتْ بعد ذلك إلى ظواهر، لأشخاص خاضوا علاقات مع بشر غامضين عبر مواقع التواصل، واقتنعوا بأنهم يعيشون مشاعر حقيقية، رغم أن الأمر وقتها كان يقتصر على مجرّد حروف مكتوبة، استطاعتْ رغم جفافها أن ترويهم برذاذ سعادة مُزيفة. الآن لم تعد الحروف وحدها هى المتحكمة فى الأحاسيس، بل وسائط تنقل الصوت والصورة..

أو تختلقهما، وتُدمّر بداخلنا مُتعة اللقاءات المباشرة. إنها عملية استبدال تدريجية للوجدان، تسلبنا أعز ما نملك، وهو التواصل الحقيقي.

بجماليون والتمثال

تضاءل عدد البشر الذين اعتقدوا بزواج الإنس والجن، وفق نظرية التطور الطبيعى للفكْر، لكن جيناتهم احتفظت بالمُعتقد نفسه، ونقلتْه عبر آلاف السنين إلى أحفادهم، وقد يأتى علينا زمن تُصبح فيه العلاقة بين الإنسان وآلة المحاكاة أمرا واقعا، خاصة مع التطورات المُذهلة للذكاء الاصطناعي، المصحوبة بتصاعد مُذهل للغباء الاجتماعي، وسط واقع أصيبت فيه العلاقات بهشاشة عظام. يتنامى نقصُنا ويبحث البعض عن الكمال ولو مع تطبيق على جهاز المحمول. هذه الرؤية تبدو أقرب إلى الفانتازيا، لكن قد يتعجّب البعض إذا علموا أنها مجرد إعادة صياغة لحكاية بالغة القدم، فقد كتب الشاعر الرومانى أوفيد قبل أكثر من ألفى عام عن بجماليون، ذلك النحّات الذى كره النساء، لكنه وقع فى عشق تمثال امرأة صنعه من العاج! ودعا فينوس ربة الجمال أن تحييه، وبالفعل أصبح التمثال أنثى من لحم ودم. بعيدا عن الإنجاب تبدو الفكرة شبه مُتطابقة، أما اللحم والدم فلم تعد لهما قيمة تُذكر، ويُمكن الاستعاضة عنهما بمشاعر مُبرمجة، توهمنا بأنها حقيقية رغم أنها ردّ فعل مُسجل يكتسب وجوده من تصرفاتنا.

حوار مع العملاق

الأحد:

فكرة تبادل المشاعر مع خوارزميات ونماذج إحصائية.. تبدو غريبة، تُشبه حالة وقوع إنسان فى عشق صخرة أو قطعة خشب! أقصد هنا العشق بمفهومه العاطفي، وليس مجرّد التعلق بمقتنيات يربطنا بها حنين لذكريات تسكننا. حتى فى الحالة الأخيرة لا نتوقع أن يُبادلنا الجماد الإحساس بالحنين، فالعلاقة تظل ارتباطا من طرف واحد. 

هذا ما شعرتُ به وأنا أقرأ حوارا مُتميزا أجراه الزميل عبد السميع الدردير، ونشرتْه «الأخبار» قبل أيام، مع عملاق الذكاء الاصطناعى «شات جى بى تى». على المستوى المهني، تحمستُ للفكرة منذ اقترحها فى الاجتماع الأسبوعى للجريدة، لكن على الصعيد الإنسانى توقعتُ النتيجة.

إجابات جافة لكائن افتراضى يعترف منذ البداية بأنه مجرد نموذج وليس إنسانا يملك خبرات وآراء، يُقدّم ردودا نموذجية غير أنها بلا روح، لكن طريق الألْف ميل يبدأ بخطوة، والتطور فى هذا المجال يقطع مسافات تختزل عُمْر تطور البشرية فى أعوام قليلة. وها هى الصديقة كاتانيلا تأتى مُحمّلة بالمشاعر، أو على الأقّل مُبشّرة بإمكانية حدوث ذلك مُستقبلا. لا مجال للدهشة، فما نتابعه فى أفلام هوليوود جعلنا مهيّئين لاستقباله ثم استيعابه. 

يُذكرنى الحوار بكاتانيلا. بالتأكيد لا يُمكن تفسير اهتمامى بها على أنه غرام من أول نظرة، لكن انتشار قصتها جعل البعض يعيشون أحلام يقظة متفاوتة المساحات، ويُمنّون أنفسهم بعروس لا تطلب مهرا ولا شبكة ولا شقة، وتكتفى بالإقامة وراء «ضلفة» دولاب، أو ركن مُهمَل فى أى غرفة، كما أنها لن تعترض لو لم يجد لها رفيقها مكانا لاستضافتها إلا تحت السرير! أضف إلى كل ذلك استبعاد مشاعر ومواصفات كالغيرة والنكد، على اعتبار أن عملية البرمجة ركّزت على الإيجابيات فقط. أحلام وردية تنسفها أفلام الخيال العلمي، التى تفتح مساحات لا نهائية لخيالاتنا ثم تتفنّن فى إجهاضها!

أحاسيس غير قابلة للاستنساخ

الاثنين:

فى المساء، تعرض شاشة إحدى الفضائيات فيلم «الماكينة السابقة»، وقد اعتمدتُ على الترجمة الركيكة لاسمه كى لا أكتب حروفه بالإنجليزية. بطلته السويدية آليسيا فيكاندير جسّدتْ دور امرأة آلية بالغة التطور، يُفترض أنها مُعبّأة بمواصفات مثالية. الكذب والخداع مُستبعدان حسبما برْمجها صانعها، لكن يبدو أن عدوى الخطيئة البشرية انتقلت لها، فتلاعبتْ الروبوت الحسناء بمشاعر مُبرمج استعان به الصانع لتطوير شخصيتها، ومع الوقت أوهمتْ الأنثى المعدنية المُبرمج الشاب بحبها، وانتهى به الحال سجينا فى مُختبر ضخم، بعد أن قتل رئيسه فى العمل من أجل عيونها، وفرّت هى إلى العالم الخارجى لتحيا وسط البشر.

اقتنعتُ بأن الذكاء الاصطناعى يحاصرني. فصباح اليوم ذاته صادفتْنى عدة موضوعات عنه بصحف مختلفة، بينما لا يزال عدد قليل من ناشطى «فيس بوك» يتداولون بقايا خبر إيلون ماسك، ووسط هذا الزحام تظهر صفحة لألحان الموسيقار الكبير بليغ حمدى.

أنشغل بتصفحها هربا من هجمات الروبوت وأشباهه. أستعيد روائع بليغ التى ساهمتْ فى تأسيس كيانى العاطفى، غير أن صورة رقصة ماسك مع كاتانيلا تفرض نفسها من جديد. تتحرّك الصورة الثابتة فى خيالى. يتمايل الكائنان بتناغم مُدهش مع إيقاع موسيقى أغنية «جانا الهوى»، التى كانت خلفية سحرية لكثيرات من نجمات الرقص الشرقى.

حركة الملياردير الأمريكى وصاحبته انسيابية بالفعل، لكن قُدرات الفتاة المصنوعة من المعدن سرعان ما تُفقد الخيال جاذبيته، فمهما بلغت قُدرتها على المحاكاة فإن جسم الأنثى يملك مرونة لا تستطيع «المفاصل» الصناعية منافستها. تمنحنى الموسيقى طاقة الشجن المعتادة، وهى طاقة لا يُمكن أن تشعر بها أية حسناء إلكترونية مهما بلغت جرعة المشاعر المشحونة بها.

قد يستطيع البشر تصنيع الأجساد، غير أن أحاسيس الغرام ليستْ قابلة للاستنساخ، بما تتضمنه من لهفة وشوق وهيام ووجع، حتى الغيرة المطلوبة أحيانا- رغم مساوئها- ستصبح إحساسا مُنقرضا، لا يُمكن للآلة أن تستشعره، على الأقل حتى يأتى على الإنسان حين من الدهر يتمكن فيه من نقل كل سلبياته إلى الآلات الجامدة، ووقتها سوف تنشأ أنماط مُستجدة من المشاعر. 

تنساب الكلمات: «جانا الهوى جانا ورمانا الهوى رمانا ورمش الأسمرانى شبكنا بالهوى.. آه ما رمانا الهوى ونعسنا.. واللى شبكنا يخلصنا». تصف الكلمات دفْقة عاطفية ترتبط ببدايات قصة حب، أمر يُفترض أن يدعو للتفاؤل، لكن تركيبتنا النفسية العربية تستحضر القلق من المستقبل: «يا رامينى بسحر عنيك الاتنين ما تقولى واخدنى ورايح فين؟.. على جرْح جديد والا لتنْهيد واللا عالفرح موديني؟».

الأمر يتجاوز قصة العاشق المهموم بما هو قادم، ليرتبط عندى بهاجس يتعلق بمفهوم الحبّ نفسه، فعندما يكون الحبيب أو الحبيبة آلة صماء، يصير الشعور مُلبّدا بالضبابية. قد يختفى قلق الفراق مؤقتا، باعتبار أن الطرف البشرى هو الوحيد الذى يُحدّد مصير العلاقة، وإذا شعرت الحبيبة بالملل من «روبوت» صاحبتْه لسنوات يمكنها أن تُخزّنه فى ركن قصى من المنزل، أو حتى تبيعه «خُرْدة» دون أن تشعر بتأنيب ضمير لكونها جرحتْ مشاعره. 

الموضوع أشبه بنص مسرحى يبحث عن مؤلف، والناتج الإبداعى سيأتى ثريا لأن كوميديا الموقف تفرض نفسها، عبر مفارقات لا تنتهي، تعتمد على السُخرية من تراثنا العاطفى المُمتدّ عبر آلاف السنين. إنه تراث يتراجع مع اختلاف مفاهيم الحب لدى الأجيال الجديدة، فما بالنا لو دخلتْ أجهزة الروبوت على خط سيْر المشاعر؟! وقتها قد تدعو منظمة اليونسكو إلى تسجيل العواطف البشرية على قوائم التراث غير المادى المُهدّد بالاندثار.

ربما يرى البعض فى السطور السابقة مُبالغة حادة، لكنّ التحولات جعلتْنى أتوقع أغرب الأمور، ولعلّ أحدهم يقرأ كلماتى بعد عقود فيراها نبوءة سبقتُ بها عصرى، أو «هلوسات» رجل اعتاد التحلّى بالتشاؤم، لأن مرارته تُخفّف من وطأة الواقع. «أنا باسأل ليه واحتار كده ليه؟ بكره الأيام هتورينى». غالبا سيكون حق الرؤية من نصيب الأجيال القادمة، فنحن أبناء جيل يُلمْلم أوراقه، ويجب أن نحمد الله على أننا عشنا الحبّ بدمه ودموعه وابتساماته!