الفنون الشعبية .. ومشوار أربعين عامًا !

د. إلهام سيف الدولة حمدان
د. إلهام سيف الدولة حمدان

د. إلهام سيف الدولة حمدان

ما أجمل أن يعيش الإنسان المصري في عوالم الفنون؛ وبخاصة الفنون الشعبية النابعة من قلب البيئة البِكر التي لم يمْسسها تمييع أو تعديل في أساليب حياتها التي خُلقت ونشأت عليها؛ فنجد الفلاح يُغنِّي خلف المحراث بطيء الإيقاع؛ فيغنِّي بالرتابة نفسها.. فالوقت معه؛ والبذرة التي غرسها بيديه ستنبُت حتمًا بمشيئة الأقدار التي يؤمن بها؛ ويؤمن أيضًا بأن الشمس التي فوق رأسه ستُشرق من جديد إذا غابت؛ ويستمر في الغناء في عتمة الليل مستعينًا بزفرات ونفخ أنفاسه في ( عُود الغَاب ) الذي نبتت أطرافه في الحقل؛ وليلتقط ( سِنَةً من النوم ) تحت الأشجار وارفة الظلال؛ كي يعطي فرصة للقلب أن يستمر في نبضاته الأبدية التي لاتتوقف؛ إلا قبل هُنيهَات من دخوله إلى غياهب التابوت؛ ذاك التابوت الذي صنعه من جذوع النخيل السامقة التي غرسها ذات صباحٍ من صباحات الأيام البعيدة؛ ولكنه ينتظر وينتظر .. ويستمر في الغناء حتى تحين لحظات تلك النهاية الحتمية ! .
ولأن الإنسان المصري ـ بالفطرة ـ يعلم تمامًا أن ماتفرزه قريحته و وجدانه من فنون؛ وأن ما ينشده” شاعر الربابة “ في طرقات القرى والنجوع في طول الوادي وعرضه؛ هو بمثابة التأكيد والتأصيل للهويَّة المصرية التي ينتمي إليها بكل جوارحه؛ وبأنها تُعد التعبير الصادق عن المزاج الجمعي الشعبي . فقد اجتمعت ـ منذ أربعين عامًا خلت ـ آراء النخبة والصفوة من الأساتذة والدكاترة والباحثين والعلماء المهتمين بالتراث الشعبي المصري؛ بالإصرار على ضرورة جمع وتوثيق هذا التراث المُبعثر في ذاكرة وقلوب كل المحبين للأصالة والهويَّة .. والتاريخ .
ولهذا الغرض السامي الشريف .. صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 164 لسنة 1981 بإنشاء المعهد العالي للفنون الشعبية، ويضم إليه مركز دراسات الفنون الشعبية وتبعيتهما لأكاديمية الفنون، وكانت الرؤية واضحة لدى الأساتذة الأجلاء القائمين على تشييد هذا الصرح الشامخ ؛ بقيامهم بتحديد الهدف الأساس من إنشائه؛ وهو إعداد نخبة من الدارسين والباحثين المتخصصين في مجال الفنون الشعبية والاتجاه بهم اتجاهًا قوميا يرعى تراث البلاد وأصالته .
واسمحوا لى أن أتوقف قليلاً ـ ولأن الفضل لابد أن يُنسب لأهله ـ لأذكر بكل التحية والتكريم أحد رواد الأدب الشعبي ومؤسس هذ المعهد الرائع .. وهو الأستاذ الدكتور/ أحمد مرسي، الذي رحل عن عالمنا بعد صراع مع المرض؛ في منتصف العام المنصرم ؛ تاركًا للمكتبة العربية العديد من المؤلفات التي تنتفع بها الأجيال المتعاقبة؛ ولنذكر اعتزازه بهذا التأسيس حيث قال في إحدى ندوات معرض القاهرة الدولي للكتاب : “ ..إن معهد الفنون الشعبية استطاع الحصول على رعاية منظمة اليونسكو كمركز دولي للاهتمام بالتراث الشعبي وهو ما تم بجهود كبرى من العاملين بالمعهد وحماة التراث .. “ . والجدير بالذكر أن الدكتور/احمد مرسي ؛ تولى منصب عميد المعهد العالي للفنون الشعبية من عام 1981 حتى عام 1987.
واليوم .. و برعاية الدكتورة نيفين الكيلانى وزير الثقافة، والدكتورة غادة جبارة رئيس أكاديمية الفنون، والدكتور مصطفى جاد عميد المعهد العالي للفنون الشعبية . وبعد مرور أربعين عامًا على إنشاء هذا الصرح الخالد؛ قام المعهد بتنظيم احتفالية المؤتمر العلمى تحت شعار “أربعون عامًا على إنشاء المعهد العالي للفنون الشعبية” خلال الفترة من 19 إلى 20 ديمسبر من العام المنصرم؛ وأكد الدكتور مصطفى جاد، أن المؤتمر قام لبحث التجربة العلمية والثقافية للمعهد خلال أربعة عقود، فضلًا عن الارتقاء بمعارف ومهارات وقدرات الباحثين، ومشاركة المتخصصين في مجال الفنون والثقافة الشعبية في هذا الحدث العلمي والثقافي الكبير من خلال محاور المؤتمر .
فقد تضمنت أجندة المؤتمر العديد منها ،وهي :
المحور الأول: البُعد التاريخي للمعهد منذ إنشائه وحتى الآن المناهج، اللوائح، البنية التحتية .
المحور الثانى: التأثير العلمي للمعهد على المستويين الوطني والعربي .
المحور الثالث: الرؤية المنهجية للعملية التعليمية في أقسام المعهد المختلفة والأطروحات التي يمنحها المعهد .
المحور الرابع: دور مركز دراسات الفنون الشعبية في جمع وتوثيق وإتاحة التراث الشعبي المصري .
المحور الخامس: وهو الرؤية المستقبلية للمعهد ويعقب هذه المناقشات عقد مائدة مستديرة حول دور الرواد في إثراء المسيرة العلمية، والتعليمية للمعهد .
إن  المعهد العالي للفنون الشعبية الذي يحافظ على تجميع وتوثيق التراث المصري الأصيل؛ يُعد أحد المعاهد العليا السبعة المكونة للصرح الشامخ العظيم وهو : “أكاديمية الفنون “؛ ويتضمن المعهد 5 أقسام هذا .. ولم يقتصر الأمر على مجرد الدراسة للخروج إلى حقل العمل بالتطبيق الميداني من الهواة والمحترفين ؛ ولكنه ـ جذبًا للباحثين والدارسين ـ يمنح الدرجات العلمية المعتمدة .
حقًا .. إنهم ابناء مصر بعلمائها ومفكريها وأساتذتها ومثقفيها الشرفاء؛ الذين يعملون ليل نهار للحفاظ على التراث التاريخي لهذا الوطن؛ من أجل الارتقاء بالهويَّة المصرية الأصلية والأصيلة؛ التي تُعلن كل صباح : أنها الشمس المشرقة التي لن تغيب أبدًا عن سماء العالم .؛. وليظل ‘ شاعر  الربابة “ يجوب الكفور والنجوع لينشد الحب القلبي لمصرنا المحروسة في كل صباحات الله العظيمة. وللحديث تتمة.