خطاب «عصفور» النقدى

د.جابر عصفور
د.جابر عصفور

يخوض د. طارق النعمان، صاحب الجهد البلاغى فى دراسات الاستعارة تأليفًا وترجمةً، فضلاً عن ترجماته فى تحليل الخطابات المختلفة بلاغيًّا فى قراءة المشروع النقدى لفقيدنا العزيز د. جابر عصفور، متناولاً عدة أوجه من مشروع عصفور النقدى، وإن كان التركيز الأساسى للكاتب د. طارق النعمان فى كتابه هذا، خطاب عصفور النقدى: قراءات تأسيسية، ينصب على محورين رئيسيين من إسهامات عصفور النقدية: الأول جهده فى قراءة التراث، والآخر قراءاته النقدية فى شعر أمل دنقل.

بوصفها نموذجًا ناصعًا على رؤى عصفور وبؤرته النقدية فى التعاطى مع النص الشعرى.. يلتقط طارق النعمان ما يراه سمة أساسية وطبعًا غالبًا فى خطاب جابر عصفور النقدى فى تعامله مع التراث، وهى طرح الأسئلة باعتبارها ثقافة مهيمنة على وعى الناقد، فيقول: «يمكن القول، إذن، إن أبرز سمات خطاب جابر عصفور النقدى هى أنه خطاب سؤول ومتسائل.

ولا يكف عن طرح الأسئلة»، ويرى النعمان قيمة رسالة الماجستير التى قدمها عصفور فى سبق الرؤية التى طرحتها: «أخذت تتولد أسئلة العلاقة بالتراث بداية من كيفية حضوره واستدعائه عند شعراء الإحياء وعلاقته بالحاضر، وعلاقة الحاضر به، إذ ينبئنا فى مقدمة (الصورة الفنية فى التراث النقدى والبلاغى عند العرب) أن ما دفعه إلى اختيار موضوع الدكتوراه.

وهو ما استشعره من قصور الدراسات الحديثة فى بحثها لقضية الصورة فى التراث، خلال بحثه للماجستير (الصورة الفنية عند شعراء الإحياء فى مصر) مما دفعه ألا يثق فى وساطة القراءات الحديثة بينه وبين مفهوم الصورة فى التراث.

وهذا على الرغم من أن الوسيط فى هذه الحالة هو واحد من شيوخ النقد والدارسين الأجلاء، بالنسبة إلى هذا اليافع آنذاك، إنه مصطفى ناصف، ومع ذلك فإنه يرى أحكام ناصف غير دقيقة، ومضللة لو كان تبعها أو سار وراءها؛ ولذا نجده يقول صراحة: «والدراسة الوحيدة التى خصَّصها د. مصطفى ناصف لدراسة «الصورة الأدبية».

رغم أهمية بعض ما حققته- لم تبذل جهدها فى تأمل المفاهيم القديمة للصورة ومناقشتها، فتركت معالجة نظرية الخيال فى التراث بحجة أن النقد العربى لم يعرف الاحتفال بالقوى النفسية ذات الشأن فى إنتاج الشعر».

وبعيدًا عما تُشير إليه نبرة السخرية الضمنية فى عبارة عصفور تلك تجاه ناصف، وقلبه لمدلول حجته لترك معالجة نظرية الخيال من أنه ليس النقد العربى هو الذى لا يعرف الاحتفال بالقوى النفسية، وإنما ناصف هو الذى لا يعرف هذا النقد، فإن هذا التعليق- ولا شك- مُحمَّل بسؤال ضمنى عن ماهية التراث النقدى.

وأن الاثنين لا يتحدثان عن شىء واحد؛ ذلك أن ناصف يتحدث عن التراث النقدى الذى حدده له آخرون بينما عصفور يتشكك فى حدود هذا التراث النقدى، وهو ما يشير إلى هذا البعد التأصيلى منذ بداياته الأولى.

الذى اقترن لديه بتلك الممارسة الباكرة لنقد النقد قبل حتى أن يعرفه نظريًا، أو يقرأ عنه، بشكل منهجى أو منظم». فيكشف النعمان عن تجاوز حدقة الرؤية لدى عصفور فى دراسته التراث الحدود التى انزوى دونها دارسوه كمصطفى ناصف.

ومما يلتقطه طارق النعمان فى وعى عصفور النقدى تشديده على أهمية الفلسفة فى تسلح الناقد بها حال قراءته للتراث وللنص الأدبى عمومًا والشعرى بخاصة.


وفى تتبعه لدراسات عصفور لشعر أمل دنقل يلاحظ النعمان ولعًا خاصًا من جابر عصفور الناقد بشاعره الأثير أمل دنقل يتجاوز المشتركات الفكرية والروابط التى تجمعهما، على ما بين الشاعر والناقد من بعض اختلافات فى النشأة الاجتماعية، إلى أنَّ مناط إعجاب الناقد بالشاعر وولعه به هى تمسُّكه بقيم «العقلانية».

كما يتتبع طارق النعمان استكشاف عصفور لانتشار الموت بين جنبات أشعار أمل دنقل وفى أعطاف دواوينه، وعلى الرغم من ذلك مثَّل ديوان العهد الآتى لديه حلمًا بمملكة جديدة ليست من هذا العالم.

ولكن طارق النعمان يلاحظ اكتفاء عصفور فى دراسته لقصيدة «سفر التكوين» لأمل دنقل حد الإصحاح الرابع منها، وتغاضيه عن دراسة السفر الخامس منها الذى يمثل خاتمتها التى يتنصر فيها مبدأ الواقع على مبدأ الرغبة، فيقول النعمان.


ولعل خطاب عصفور النقدى أقرب إلى محاولة جر أمل إلى نوع من أنواع التفاؤلية المُسقَطة على شعره وعالمه، فهل هى تفاؤلية الواقعية الاشتراكية الكامنة والراسبة فى خطاب عصفور منذ صباه النقدى تنبعث فى هذه اللحظة لتتجاوب مع سعى الناقد الذى لم يفتر يومًا لبث الأمل والتبشير بالمستقبل الأفضل؟، فتبدو التقاطة شديدة الذكاء من الدكتور طارق النعمان لطغيان رغبات الناقد على الواقع وواقع النص الإبداعى الذى يدرسه.


اقرأ ايضًا | وصية جابر عصفور| استراتيچية مصر الثقافية