الخروج عن الصمت

خيوط الحرير ( 5/4)

محمد عبدالواحد
محمد عبدالواحد

محمد عبدالواحد

فى كل مرة أستكمل فيها قصتى من خلال مقالى أسترجع الماضى بكل ذكرياته الجميلة وكيف كنا جميعا نفرح بتلك الخيوط الذهبية وبريق لمعانها وانبهارنا بأدوات صناعتها لدرجة أنها كانت تعيش معنا فى داخل كل بيت، فنحن الصبية نحاول أن نكون جزءًا منها بإجراء منافسة بيننا على إنتاجه داخل البيوت من خلال دودة القز

التى كانت تجارتها منتشرة فى بلدتى فى كراتين بكر الخيوط مع إعطائك ورقتين من ورق التوت غذاءً لها على أن تعود للشراء مرة أخرى وكما يُقال بلغه السوق: جَر رِجل وتنتظر إلى أن تضع الأنثى بيضتها التى تتحول إلى شرنقة تخرج منها خيوط الحرير. نجحوا فى لفت انتباهنا ونحن صبية إلى صنعة تعتبر فى ذاك الوقت دخلًا قوميًا من مقومات الصناعة وكبار عملوا على تشغيل أيدٍ عاملة تساهم فى أدوات الصناعة فكان لها نجارون متخصصون فى صناعة الملفات الخشبية ودولاب الأنوال الصغيرة ودولاب كبير يطلق عليه «دوارة» لدورانه برجل العامل وأنوال كبيرة لنسج الأقمشة منه ولكل منها دور مهم فى مراحل الصناعة؛ لذلك أصف لكم كيف كانت الملفات الخشبية المعدة خصيصًا للف الحرير عليها، وهى عبارة عن أعواد خشبية لا يزيد طولها على 35 سنتيمترا مثقوبة من طرفيها، وهى مصنعة من خشب الشجر وتجد العود فى قوامه ملفوف منقوع فى الزيت بعدما تتم صنفرته جيدًا حتى يصبح ملمسه ناعمًا كخيوط الحرير حتى لا تقطع وصلات تلك الخيوط وهى تلف حوله فيضيع مجهود الغزل هباءً، وللثقوب فى أطراف الملف فوائد، حيث يدخل طرف الخيط فى إحداها ويتم عقده حتى يستطيع الممسك به لف باقى ما تم غزله فوق هذا الملف. وسرعان ما ينتهى الصبية من تناول وجبة الغداء قبل أن ينتهى المعلم ليكمل كل منهما ما بدأه وليستكملوا باقى الطريحة حتى يَفرغوا من غزلها ويجمع كل منهما ملفاته بين يدى المعلم الذى يعقد طرف خيط الملف بطرف خيط الملف الآخر حتى يستطيع الصبية حملها فتجد بعضها متدليًا على ظهورهم والآخر متدليًا على صدورهم ويحمل المعلم ما تبقى على كتفه هو الآخر ليعاود السرب مرة أخرى رحلته إلى منزل المعلم حتى يضعوا صنيعة يومهم فى غرفة الضيوف التى كانت عبارة عن كنب صنع من الخشب وتوضع عليه مراتب من القطن وبعض المساند وبعض الخُداديات وكانت تسمى كنب «كرمة» وفى بعض البلاد كنب «اسطنبولى»، وهنا يستقبل المعلم أصحاب الرحلة الثانية من الصناعة.
 وللحديث عن أسرار تلك الصناعة بقية.