د.خالد سالم يكتب: إسبانيا.. البلورة السحرية التى رأى بها العالم

الدكتور صلاح فضل
الدكتور صلاح فضل

تردد فى صباى فى العائلة أن إسبانيا، الأندلس، لها سحر على نفس من يعرفها. ومع الأيام شهدت عشقًا لهذا البلد يعشعش فى وجداننا نحن الذين درسنا فيه. ويلف هذا السحر قدامى الدارسين ليستحيل عشقًا طوال حياته وكأنه عضو فى طابور خامس ثقافي، دخله طوعيًا، وكيف لا وهى التى أعطت مفهوم الطابور الخامس للعالم فى حربها الأهلية. يتجلى هذا العشق، الممزوج بالامتنان، فى المفكر والناقد ورئيس مجمع اللغة العربية الدكتور صلاح فضل، فى لقاءاته وكتاباته، وعلى رأسها كتابه الكاشف «عين النقد وعشق التميز. مقاطع من سيرة ذاتية». فقدغاص فقيد الثقافة العربية فى أعماق إسبانيا وترك كوةً مفتوحة أمام المتلقي، خاصة من جَرَّب الحياة الإسبانية،عبر لغتها الممتدة فى أميركا اللاتينية، القارة النهمة للعلم والمعرفة والحرية رغم القهر والاستبداد التى تجمعها بلورتها السحرية التى جاء بها كولمبس من البلد الأم. 
 كان الدكتور صلاح فضل يتصدر قائمة الذين هضموا الثقافة الإسبانية، بعد أن وصلت جملة ما قضاه فى العالم الإسبانى الساحر، موزعًا على إسبانيا والمكسيك حتى عام الإياب 1985، خمسة عشر عامًا من سنوات الشباب والطموح والوثب، صبغت وجدانه بالطابع الإسبانى والأندلسي، فتشربت روحه دقائقه فى الفنون والآداب، وتجربة الحياة الحميمة فى الحب والتسامح والاحتفال بالمباهج والإقبال على الحياة والنزوات الصغيرة. 
 شاع نعت للدكتور صلاح فضل بأنه «ذو يد خضراء» بيننا نحن الذين درسنا فى إسبانيا بينما كان يعمل مستشارًا ثقافيًا ومديرًا للمعهد المصرى فى مدريد، إذ فاضت أفضاله على الكثيرين منا، وأنقذ بعضنا من الحاجة إلى الآخرين بأن وفر لنا عملاً فى الترجمة فى بعض السفارات العربية التى لجأ إليه السفراء لثقتهم فى علمه وثقافته الواسعة، فى زمن كانت قيمة المنحة الدراسية لا تسد حاجتنا للعيش. وبعد عودتنا كان يمد لنا يد العون العلمي. وفى كل لقاء كان سؤاله المهم: ما جديدك العلمي؟ وعندما أهديته، هو وروح العلامة الآخر د. الطاهر مكي، ترجمتى لكتاب عن التأثير العربى فى ملحمة إلسيد، سعد بهذا العمل وقال لى إنه إذا كُتب له الانتشار سيغير أشياء كثيرة.  

تعرفت إليه فى كلية الألسن عبر زوجه، أحد أفضل أساتذتى وأكثرهم إنسانية، الدكتورة قدرية زكى التى درَّست لنا الأدب العربى عامين دراسيين، ومن خلالها تعرفنا إلى زوجها، وكانا قد عادا توًا من المكسيك فى زمن ندر فيه من يتحدث اللغة التى كنا ندرسها فى الكلية، فكان كلاهما كالغيث فى صحراء جرداء.كنا نلتف حولها لتعلم الإسبانية أكثر من أدب العصرين الأموى والعباسى.

اللذين كانت تدرسهما لنا الخلوقة دكتورة قدرية. وبعد ثلاثة أعوام سافرت إلى مدريد لدراسة الأطروحة فى الأدب المقارن حيث كان الدكتور صلاح يشغل منصبه الدبلوماسي، مستشارًا ثقافيًا ومديرًا للمعهد المصرى للدراسات الإسلامية، الأندلسية. 


وفى لقاء فى مكتبه، بعد وصولى بقليل من مصر، وقعت مفاجأة سارة إذ دخلت الدكتورة قدرية بينما كنت هدفًا لنصائح أكاديمية من الدكتور صلاح، لعل أبرزها هو ضرورة الانكفاء على دراسة تخصصى كى أعود بالشهادة التى جئت من أجلها.

وألا أخوض فى مغامرات فنية أو أكاديمية أخرى كالمسرح والسينما ودراسة ليسانس جديد بدلاً من دخول عالم الدكتوراه مباشرةً، وألا أرتكب خطأ توفيق الحكيم! كان يستجوبنى عن آخر ما شاهدت من مسرح وأفلام.

وفى ذلك اليوم أبديت اعجابًا بآخر مسرحية شاهدتها، وكانت قد اقتُبست عن أول رواية للبيروفى ماريو بارجاس يوسا «المدينة والكلاب» وعُرضت فى العاصمة الإسبانية لفترة طويلة.

وكنت قد استطردت معه حول عدم جدوى دراسة الدكتوراة قبل دراسة مواد المعادلة بين الشهادة الجامعية المصرية والإسبانية نظرًا لتدنى مستوى مواد الليسانس فى الألسن حينئذ، ثم دراسة الدكتوراه، وهو ما كان لي. من هنا جاء خوفه من أن أضيع فى الطريق وألا أنهى الدكتوراه. 


تهللت الدكتورة قدرية، التى ظننت أنها نسيتني، فرحبت بى وأوصته بى خيرًا قائلة: «خالد كان من أفضل طلابى فى كلية الألسن». وعدها الدكتور صلاح خيرًا وقال إننى أفهم ما أفعل جيدًا. انتهى ذلك اللقاء المثمر بأن طلب منى أن أتردد عليه فى طريق عودتى من جامعة مدريد أوتونوما حيث اخترت دارسة الليسانس الإسباني.

كان المقرر دسمًا وصعبًا، لا يقارن به ما درسته فى الألسن، وكان الدكتور صلاح يطلب منى الاطلاع على الكتب التى أحملها فى حقيبتى فى كل زيارة، ويسألنى عن كل واحد وعن أساتذة المواد، وفى تلك الأثناء كان يسجل عناوين الكتب وفى الزيارة التالية كنت أراها على مكتبه! كنت أشعر بانتشاء شاب يفيد أستاذًا.

ومن الكتب التى سجلها كان كتاب «الشكلية الروسية»، ضمن مادة الأدب المقارن، فالتقط الخيط وطلب التعرف إلى أستاذ المادة وسرعان ما تعارفا وصارت بينهما علاقة أكاديمية تمخضت عن دعوته لمناقشة بعض الأطروحات فى الأدب المقارن. 


وأذكر ذات مرة أنه، لثقته فى حسن تصرفي، طلب منى حضور ندوة للشاعر أحمد عبد المعطى حجازى أقامها له قسم اللغة العربية فى الجامعة التى كنت أدرس فيها حتى يشعر بوجود مصرى فى الجامعة فى زمن ندر فيه المصريون فى إسبانيا.

وكانت الندوة من ترتيب رئيس القسم صديقه المستعرب بدرو مارتينيث مونتابيث. يومها رافقني بعض زملائى العرب رغم جو السياسة الملغم بسبب معاهدة السلام ومقتل السادات الذى كان لا يزال يلقى بظلاله على المنطقة. كانت الأمسية اكتشافًا جديدًا لى فى عالم الأدب العربي.

وتعرفا إلى القامة الشعرية الكبيرة الذى كان لا يزال يعيش فى منفاه فى باريس. كان يعمل على إبراز ما لدينا فى مجال دراستنا ليصب فى المصلحة العامة والخاصة لكل واحد، فجعل المعهد المصرى قِبلتنا التى لا نغيب عنها سواء أكانت هناك أنشطة ثقافية أم لا.  


أصبح المعهد على يده منارة عربية، بعد أن طوره، وقِبلة يقصدها العرب والإسبان لحضور المحاضرات والمعارض الفنية والمؤتمرات. كان منارةً ثقافية حملت الثقافة العربية إلى المتاح من أركان إسبانيا ومستعربيها عبر وسائل الإعلام التى كانت تهتم بأنشطة المعهد الذى لم يقتصر على الجانب المصري، بل كان مفتوحًا للأشقاء العرب.

وللإقامة معارضهم الفنية والمشاركة فى الندوات والمؤتمرات، وذلك بمبادرة منه كى ينأى به عن المُناخ السياسي. حقق الدكتور صلاح ما كان يحلم به بينما كان طالبًا للدكتوراه، إذ وضع نصب عينيه العودة إلى مدريد وتولى إدارة المعهد وتطويره.

وهناك من أخبرنى أنه كان يسعى لتولى هذه المهمة فور مناقشة أطروحته، أى قبل أن يعود إلى جامعته بالأطروحة. وخلال فترة دراسته نصبه المصريون عميدًا معنويًا لهم فى مدريد نظرًا لأنه كان يمد يد العون لكل من حل جديدًا من الطلبة والدبلوماسيين.

ويؤم المصلين فى العيدين فى الطابق السفلى من المعهد الذى حوله إلى قاعة معارض فنية لاحقًا مع الاحتفاظ بمهمته الأساسية لسنوات طويلة بعده حتى بُنى المركز الإسلامي. 


ومن أفضاله التى لا تحصى على الكثيرين منا، تحضرنى طرفة أكاديمية، فذات مرة، فى العام التالى من دراستي، سألته عن إمكان المشاركة فى تدريس العربية للأجانب فى المعهد. كان رده قاسيًا: «خريجو الألسن لا يصلحون لتدريس العربية للأجانب.

ماذا درستم من العربية فى كلية الألسن؟ قش!» وبرر ذلك بأنه على علم بمنهج العربية الذى يُدرس فى أقسام اللغات فى الكلية. أخذتنى العزة وقررت الرد بالتحدى بأن أدرس مناهج تدريس العربية للإسبان فهضمتها جيدًا ما أتاح لى أن ِأُدرِّسها فى المعهد فى العام التالي، ثم فى مدرسة اللغات الرسمية. 


 ما أسداه الدكتور صلاح للمعهد المصرى فى مدريد والثقافة المصرية لم يصل إليه أى مدير ممن درسوا الدكتوراه فى ِإسبانيا، فقد ترك بصمةً جلية على هذه المنارة الثقافية والعلمية المصرية التى ظلت هكذا عقودًا طويلةً. أذكر أنه كان يتصل شخصيًا بالمهتمين بأمور الثقافة العربية عندما كان يدعو أحدهم ليحاضر فى المعهد.

كانت قاعة طه حسين تعج بالحضور ويضطر كثيرون إلى الوقوف على السلم للاستماع للمتحدث ويصلون إلى مدخل المعهد. كان وراء تطوير قاعة طه حسين واعدادها لتتلاءم مع اسم عميد الأدب والمعهد الذى أسسه فى منتصف خمسينيات القرن العشرين ليهتم بالثقافة العربية الأندلسية فى إسبانيا وأوروبا.

واستطاع برؤيته وبصيرته أن يلف المعهد بغلالة ثقافة تتسق مع ثقل مصر النوعى عبر هذا المعهد قبل أن يتحول إلى «مكتب تشهيلات» -حسب وصف أحد الزملاء العراقيين فى مؤتمر شاركنا فيه معًا، لحقه فى هذا المنصب آخرون درسوا فى إسبانيا، يفترض أنهم يجيدون لغتها وأنهم كانوا على اتصال بثقافتها وبجامعاتها ومستعربيها فى سنوات الدراسة.

ولكنهم لم يحققوا المرجو منهم ليظل الدكتور صلاح فضل علامة فارقة فى تاريخ المعهد. وللمعهد حضور رئيس فى وجداننا جميعًا، لهذا نتألم لحاله، الذى أرجو أن يكون عابرًا ليعود منارة مصرية فى أوروبا. 


كانت إسبانيا بلغتها وثقافتها معينه الرئيسى فى الاطلاع على أحدث ما كان يصدر فى عالم النقدثم الولوج فى بلد آخر من الدول الناطقة بالإسبانية، المكسيك، الذى عاش فيه بضع سنوات بعد أن عاد إلى مصر. لقد اغترف من معارف إسبانيا وأميركا الناطقة بالإسبانية، اللغة التى أمدته بكل جديد يصدر من كتب فى نظريات النقد الأدبي.

إذ كانت تُترجم من اللغات الأوروبية الأخرى فور صدورها فى تلك اللغات. هذا رغم أنه كان متململًا عندما حصل على منحة دراسية فى ِإسبانيا بدلاً من فرنسا التى كان يرنو إليها لبدء مسيرته فى عالم النقد.

وعندما وصل إلى إسبانيا لم يستسغ الحياة فيها وظل فى حالة نفور إلى أن عُين أستاذًا للأدب العربى وترجمته فى الكلية التى كان يدرس فيها، فى جامعة مدريد المركزية، حينها أدرك نشاط حركة الترجمة إلى الإسبانية من كل اللغات الحية «فلا يكاد يصدر كتاب مهم فى أية لغة حتى يسارع المثقفون فى أميركا اللاتينية إلى ترجمته، وتحولت اللغة.

التى حسبها حاجزًا بينه وبين الفكر العالمى – إلى شرايين واسعة مع جميع اللغات الأوروبية، تعرف بسرعة على المنهجيات البنيوية والسيميولوجية والتفكيكية والجمالية - فى النقد قبل أن تشيع فى لغات أخرى، الإنجليزية والألمانية مثلاً. 


وهنا يقول: «قَرّت عينى أخيرًا بالمكان الذى أدرس فيه، وخططت لمشروعى النقدى خلال إتمامى لرسالة الدكتوراه، أدركت أن الإسبانية التى أغزل بها ليست «رجل حمار» كما توهمت، بل هى بلورة سحرية أرى العالم بوضوح خلالها، شرعتُ عقب مناقشتى للدكتوراه فى تصميم كتابين متزامنين، أحدهما عن منهج الواقعية فى الإبداع الأدبي، تضمن ثلاثة فصول، أولها عن الأسس الجمالية للواقعية.

والثانى عن سوسيولوجيا الأدب، أو علم اجتماع الأدب، والفصل الثالث عن الواقعية السحرية فى أدب أميركا اللاتينية التى عايشتها خلال مقامى فى المكسيك ثلاثة أعوام، التقيت فيها بكبار مبدعيها، وكتبت عن غارثيا ماركيث ورائعته «مائة عام من العزلة قبل أن يحصل على نوبل أو يعرفه أحد (د.صلاح فضل، «عين النقد وعشق التميز. مقاطع من سيرة ذاتية»، منشورات بتانة).


 ولد جزء مهم من كتبه من رحم الثقافة الإسبانية والهِسبانية -نسبة إلى الدول الناطقة بالإسبانية-، وكان ثانى كتبه فى هذا المضمار «نظرية البنائية فى النقد الأدبي». وفى المكسيك أنجز كتابًا ثالثًا هو «تأثير الثقافة الإسلامية فى الكوميديا الإلهية لدانتي».

الذى يُعد أكمل بحث فى الأدب المقارن، كلفه سنوات طويلة من الجهد لإتمام حلقة الوثائق المحققة لمقولة المستشرق الإسبانى العظيم أسين بالاثيوس - مكتشف تأثير الإسلام فى الكوميديا الإلهية- فى أن عبقرى اللغة الإيطالية وفيلسوف اللاهوت المسيحى دانتى قد استقى من معين الثقافة الإسلامية، بروافدها الشعبية الخصبة وخيالها الدينى العريض.

لقد «أصبحت هذه الكتب الثلاثة هى الركيزة الأولى فى مشروعى النقدي، بعد أن انصرفت عن ترجمة المسرح الإسبانى فى نصوصه الكلاسيكية والمحدثة، التى أنجزت منها سبعة نصوص، بمقدمات نقدية مستفيضة، لأننى أدركت أن الترجمة ليست صلب مشروعى النقدي، وأن تحويل التيارات المعرفية فى النقد وإثرائها بالمعرفة الحداثية هى رسالتى الأولى («عين النقد وعشق التميز. مقاطع من سيرة ذاتية»). 


ويستنكه كتاب «عين النقدوعشق التميز. مقاطع من سيرة ذاتية»، وهو عبارة عن سيرة ذاتية أكاديمية،روح علاقة الدكتور صلاح فضل  بإسبانيا ولغتها وثقافة الدول الناطقة بها، ليبدو أنه تشبع بهذا المحيط ليخرج رحيقه فى كتب عدة، فبالإضافة إلى الكتب السابقة وضع فى مدريد، بينما كان يعمل مستشارًا ثقافيًا.

كتابًا آخر هو «ملحمة المغازى الموريسكية» الذى يلتقط، لأول مرة فى الأدب العربي، التراث الملحمى للأندلسيين الذين ظلوا فى شبه جزيرة أيبيريا -إسبانيا والبرتغال لاحقًا- بعد سقوط غرناطة سنة 1492 م.

وكشف فيه عن تأثيرهم العميق فى الملاحم الأوروبية، وفيه حافظ على رزانة البحث العلمي، دون استغراق فى التيارات العاطفية التى ترثى الأندلس، وتدين حركة التاريخ، وتعمى عن الرؤية الموضوعية المتزنة («عين النقد وعشق التميز. مقاطع من سيرة ذاتية»). 


 يطعم الدكتور صلاح كتابه، رغم طابعه الأكاديمي، بطُرف تضفى سلاسة على سطوره، ومن أبرزها طرفة «القاموس ذى الشعر الذهبى الطويل» عندما أشار إلى أقصر الطرق إلى تعلم الإسبانية بسرعة، حسب شاب فلسطيني، رفيق الرحلة البحرية من برشلونة إلى برشلونة، أنبأه أنه قد فرغ من دراسة اللغة تمامًا.

وأصبح يتفاهم بسلاسة واضحة، «كان لا يتعامل مع الكتب مثلي، بل مع «القواميس ذات الشعر الذهبى الطويل»! حسب نصيحة السفير الأردني، أما أنا فقد كان معى قاموسى المصرى الأصيل («عين النقد وعشق التميز. مقاطع من سيرة ذاتية»). 


وأدرك فى الحال أن مستوى اللغة التى يتعلمها الأجنبى من هذا النوع من القواميس الشقراء لا يفيده فى قراءة كبار شعراء إسبانيا وعلماء فقه اللغة الإسبانية، وعلى رأسهم الشاعر فدريكو غارثيا لوركا وعالم اللغويات مندينديث بيدال.

وصولًا إلى نظريات تحليل الشعر على يد الناقدالكبير كارلوس بوسونيو، ورغم صعوبة الدروس أدرك أنه دخل واحدة من أهم مدارس النقد الفكرى المعاصر. أبدى عشقًا للغة البلد الذى امتعض لرسو منحة دراسة الدكتوراه عليه. وفى هذا البلد وعبر لغته، الجسر الأمين له الذى نقل كل ما كان يحتاج من نظريات نقدية تصدر فى لغات أوروبية أخرى.

تمكن من الولوج فى عالم النقد الغربى ونظرياته، رغم أنها كانت تجربة فريدة، تجربة عسيرة وشاقة «فبقدر ما هى باذخة وثرية إبداعيًا فى كل العصور، بقدر ما هى فقيرة فكريًا ونقديًا فيها أعلام شوامخ، لكنهم يقفون منفردين، لا يصنعون تيارات كبرى موصولة بعروق الفكر العالمى إلا نادرًا، مثل الفيلسوف خوسيه أورتيغا إى غاسيت. أما كبار مفكريهم فهم محليون بالنسبة لنا فى الشرق العربي، الذى كان ينصت لما يحدث فى إنجلترا وفرنسا على وجه الخصوص («عين النقد وعشق التميز. مقاطع من سيرة ذاتية»).

والحق كل الحق مع الدكتور صلاح فضل فى هذه الملحوظة فقد تأخر تعرف العالم العربى على جزء من ثقافة إسبانيا إلى العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وذلك بفضل عنصرين، وهما الاهتمام العالمى الذى حظى به نتاج وشخصية الشاعر الغرناطى فدريكو غارثيا لوركا الذى قتله الفاشست فى مطلع الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939).

والاهتمام بترجمة نتاج الواقعية السحرية وأدب الطفرة، البووم، فى أميركا الناطقة بالإسبانية بعد حصول الروائى الكولمبى غارثيا ماركيث على جائزة نوبل عام 1982.


 وتعريجًا على إشارة الدكتور صلاح فضل إلى الفيلسوف أورتيغا إى غاسيت أود أن أشير إلى أنه كان أحد جنود الظل الذين شجعوا فكرة إنشاء المعهد المصرى للدراسات الإسلامية فى مدريد، إلا أن دوره هذا مجهول، ولم يلفت انتباهى إليه سوى المستعرب إمليو غارثيا غوميث فى أحد لقاءاتى معه فى مدريد، فى ثمانينيات القرن العشرين بينما كنت أدرس أطروحتى للدكتوراه فى إسبانيا. 


 ومن ملحوظاته الثاقبة فى علاقتنا بإسبانيا أن إحدى نقاط عدم الاهتمام العربى بالثقافة الإسبانية تتجلى فى اهمال جيل من أهم الأجيال الأدبية والفكرية الإسبانية، جيل 98، جيل العماليق الذى جاء مولده ردة فعل على ضياع آخر جيوب الإمبراطورية الِإسبانية التى ظلت قرونًا لا تغيب عنها الشمس.

وكان هذا الضياع على يد الإمبراطورية الوليدة، الولايات المتحدة الأميركية. أما هاتان المستعمرتان الأخيرتان فكانتا جزر الفلبين وكوبا.وكان حدثًا جللًا ترك أثارًا وعلامات استفهام كبيرة فى نفوس الإسبان، لعل أبرزها: كيف ضاعت منا امبراطوريتنا التى كانت لا تغرب عنها الشمس لقرون؟!! وهو الحدث الذى يشبه نكسة يونيو 1967 التى أصابت العالم العربى فى مقتل.

ومن اللافت للنظر أن كُتّاب هذا الجيل لا يزالون بعيدين عن دائرة الاهتمام فى المشرق العربى رغم غزارة وأهمية أعمالهم وعلاقتهم بالجيل الذى تلاهم، جيل 27، الذى تربع على عرشه غارثيا لوركا ورفائيل ألبرتى وبيثنتى أليسكاندري، حائز جائزة نوبل عام 1977، إضافة إلى آخرين.

إلا أن هذا الجيل الأخير كان له نصيب أوفر فى اقتراب الدوائر الثقافية العربية من نتاج شعرائه بفضل أبرزهم، غارثيا لوركا ورفائيل ألبرتي، وما بذلناه بعض المشتغلين منا بالدراسات الإسبانية والهِسبانية.  


ورغم ضيق نافذة المفكرين الإسبان التى يطلون منها على العالم أخذ الدكتور صلاح عهدًا على نفسه بكسر هذا الوضع، فأصبحت اللغة الإسبانية هى النافذة التى يطل منها على الفكر العالمى على إثر عمله أستاذًا مساعدًا فى جامعة مدريد المركزية.

وقد أتقن لغة ثربانتس وهو ما تجلى عند تسليم رسالة الدكتوراه لمناقشتها إذ ظن أحد المناقشين أنها ليست له، فلا يستطيع أجنبى أن يكتب بهذا الشكل فى لغة ليست لغته الأم، إلا أنَّ الأستاذة المشرفة أخبرته بأن صاحبها هو الذى يحضر معه مجلس الكلية ويناقش المشكلات الجامعية والفكرية، فقال «لابد أنه كاتب فى لغته أصلاً، حتى يصل إلى هذا الإتقان«عين النقد وعشق التميز. مقاطع من سيرة ذاتية»).

وفى قسم اللغة العربية الذى درّس فيه خمسة أعوام كان المستعرب العظيم إلياس تريس رئيسًا للقسم وكان يجمعهما لقاء أسبوعى استزاد خلاله مما كان لدى هذا العلامة الإسبانى فى مجال اللغة وموسيقى فن الفلامنكو الذين كان يتقنه، إضافة إلى اللغة الإسبانية التى كلفه اتقانها.

وهو ما عرج عليه أكثر من مرة، ومن بينها تشبيه الإسبانيات بالقواميس الشقراء نقلاً عن زميل سفر فلسطينى فى الرحلة من الإسكندرية إلى برشلونة. أتذكر أنه كانت له طرفة فى هذا الصدد سردها علينا، أنا والصديقان الدكتور على المنوفى والدكتور على البمبي، عندما زرناه فى بداية مرضه، إذ قال لنا إنه صُدم من إقبال الإسبان على الحب فى الأمكنة العامة، الأمر الذى استهجنه فى البداية ثم اعتاده. 


 علاقة عشق الدكتور صلاح باللغة الإسبانية كلفته وأخذت منه الكثير ليقع فى غوايتها، فمن خلالها أدرك ثراء الحضارة المعاصرة فى إسبانيا وأنه لا يقل عن مثيلاتها الأوروبية. وفى إسبانيا لم تقتصر اهتماماته على اللغة والنقد بل امتدت لتشمل الفنون التشكيلية من خلال زملاء درسوا فى إسبانيا، ثم صاروا من رموز الفنون فى مصر، من بينهم محمد حامد عويس وعبد الهادى الوشاحى وعبد الحميد الدواخلي.

إذ تمكن من خلالهم التعرف على أحدث ما أفرزه الفنانون التشكيليون الإسبان من خلال معارضهم، والتعرف إلى أساتذتهم فى أكاديمية سان فرناندو التى تخرج فيها جل المصريين الذين درسوا الفنون الجميلة فى إسبانيا حتى ثمانينيات القرن العشرين.

أضافت هذه العلاقة الفنية بعدًا جديدًا على علاقته بالفنون المرئية، دون الاقتصار على البحث الأدبى فى الكتب والمصادر، فأصبحت فنون الموسيقى والديكور والتشكيلات الحركية مُكَوٍّنًّا مُهمًا فى منظومته الفنية.  


 وظل لما تشربه من المستعرب إلياس تريس والاتصال بالفنون التشكيلية أثر كبير فى تشكيل رؤيته للأدب والفن والثقافة، ما حمله عند تولى إدارة المعهد المصرى للدراسات الإسلامية فى مدريد على تحويل بهو المعهد إلى قاعة معارض فنية فى ثمانينات القرن العشرين.

مما جعل منه ملتقى للمبدعين من العرب والإسبان فى الفنون المختلفة، إضافةً إلى مشاركته فى موسوعة الدكتور ثروت عكاشة بمواد إسبانية لموسوعته «العين ترى والأذن تسمع» لإسهامه فى شفاء الأجيال اللاحقة من عمى الألوان. 


  كان رصيده فى اللغات الأخرى ضئيلاً نظرًا لتربيته فى بيئة أزهرية «تعشق العربية وترفض الشرك بها. ومثل الجملة السابقة هناك جمل أخرى، عند الحديث عن تعلم الإسبانية، تعلوها بعض الطرف الفكرية التى تنم عن بصيرة ثاقبة «كنت أظن أن هوى العربية الذى تمكن من قلبى لا يترك مجالاً لسواها.

مبينما كنت أدرك من ناحية أخرى أن الإبصار بعين أخرى تنفذ إلى الثقافة الإنسانية يُعد شرطًا أساسيًا للأستاذ الجامعي، دونه يظل أعور، أحادى الرؤية («عين النقد وعشق التميز. مقاطع من سيرة ذاتية»). 


 وانطلاقًا من قناعته هذه فقد شمر عن ساعد الجد لاقتحام الإسبانية والتمكن منها، لكن خيبة أمل جديدة شعر بها إزاء الموروث العربى لدى اللغة الإسبانية إذ كان لديه معلومة مبهمة وهى احتفاظ لغة ثربانتس بآلاف الكلمات العربية مما سوف يعينه على سرعة امتلاكها.

لكنه سرعان ما تبين أنها ذابت فى جسد لغة أخرى، وتحللت فى نسيجها، ومعظمها أصبح كلمات لا تُستخدم. والحقيقة هى أن العلاقة بين اللغتين اقتصرت على حقل الألفاظ ولم تشمل القواعد والتراكيب.

وتجمد الكثير من هذه الألفاظ مع انقراض المهن والحرف التى استعارتها من العربية نظرًا لتفوق العرب على السكان المحليين فى تلك المهن والحرف، إضافة إلى عنصر التطور واستخدام التكنولوجيا فيها. 


وإلا أن هذه اللغة التى عانى من أجل التمكن منها هى التى مكنته من ضالته فى نظريات الأدب والنقد إذ اكتشف أهمية أن يتحدثها أهل أميركا الوسطى والجنوبية ونقلهم إليها بسرعة مذهلة كل الإنتاج العلمى والإبداعى والفكرى فى منظومة اللغات الغربية الأخرى،ما مكنه فى زمن يسير من متابعة كل جديد. 


ولم تسر الأمور فى سهولة، فقد كلفه اختيار موضوع الدكتوراه جهدًا لإقناع أحد الأساتذة للإشراف عليه فى فترة كان هناك انقسام بين اليمين واليسار، لهذا نصحوه بالابتعاد عن فدريكو غارثيا لوركا درءًا للمشكلات مع القسم، لأن الحرب حوله لم تهدأ بعد.

ورفض أحدهم موضوع الالتزام فى الأدب إلى أن أشار عليه صديقه المستعرب بدرو مارتينيث مونتابيث بالذهاب إلى أستاذة طليعية تتبنى التيارات النقدية الحديثة. وبين موقف ونصيحة اختار المسرح من منطلق أنه أبو الفنون، وبؤرة الصراع الأيديولوجى فى الأدب، وهو الجنس الأدبى الذى كانت تدور حوله جهود لاستزراعه فى التربة العربية وقربه من لغة الحياة وشدة ارتباطه بالواقع الحى عرضًا وتمثيلاً. 


 لم تقتصر العثرات على الأستاذة الإسبان عند اختيار موضوع الأطروحة بل امتدت إلى المستشار الثقافى حينئذ، المؤرخ حسين مؤنس، الذى عارضه، رغم أنه كان شغوفًا بالمسرح الإسبانى وترجمته إلى العربية، إذ كان يرى أن من الأفضل أن يختار موضوعًا عربيًا يفرغ منه بسرعة.


 وانطلاقًا من ثقته فى الذات لم يستجب الدكتور صلاح للضغوط، فاختار مؤلفًا مسرحيًا كبيرًا تتعرض أعماله لمقص الرقيب، وتستقطب النقاد فى أوروبا وأميركا اللاتينية، وهو بويرو باييخو، وكان ذريعته فى سبر أغوار المسرح الإسبانى من العصر الذهبي، القرنين السادس عشر والسابع عشر، ليصل إلى المرحلة المعاصرة. وبويرو باييخو يشغل مساحة عريضة فى عالم الالتزام فى المسرح الإسباني، وكان وراء تنغيص حياته على يد نظام الجنرال فرانكو. 


وأتاحت له دراسته المسرح، من بين أمور عدة، الانغمار فى تيار الحياة الثقافية عبر عروض وندوات وسجالات وقراءات متجددة وإدراك أهمية احتدام الصراع السياسى فى شرايين الإبداع، فمن قلب الالتزام ومسؤولية الفن فى الحياة تخلّقت أشكال الوعى بضرورة الحرية وحتمية التطور الديمقراطي. 


 ومن خلال دراسته للمسرح الإسباني، قديمه وحديثه، أدرك ناقد المستقبل أن الشاعر غارثيا لوركا لم يكن العبقرى الأوحد، بل هناك آخرون مهمون لا نراهم فى العالم العربي، وأن التراث المسرحى الإسبانى عميق عمق الجذور الممتدة إلى الثقافة العربية فى الأندلس.

ولا شك أن الدكتور صلاح فضل فى ملاحظته هذه أصاب بدقة، ففدريكو غارثيا لوركا، الشاعر العظيم، يبدو وكأنه الكاتب الإسبانى الأوحد فى عالمنا العربي، رغم أن إسبانيا أنجبت جيلين عظيمين من المبدعين فى القرن العشرين، جيل 98 وجيل 27.

والذى ينتمى إليه غارثيا لوركا-. وهذا الأخير من عظام شعراء العالم فى القرن العشرين، لكن ظروف مقتله واتخاذه راية ليسار العالم خلال فترة الحرب الباردة جعله يلقى بظلاله على الآخرين، لكن هذا لا يقلل من قيمته الشعرية. 


 وانطلاقًا من موضوعه الرئيسى، الالتزام فى المسرح، ظلت ترجماته من المسرح الإسبانى من النماذج التى تشبع حاجة الثقافة العربية، وتدور حول إدانة التعذيب فى السجون وقمع الحريات وقتل الأحلام الكبرى فى صدور الشباب «أملاً فى أن نرى وطننا العربى الكبير وقد حقق هذه النقلة النوعية من الالتزام إلى الديمقراطية فى الفن والحياة («عين النقد وعشق التميز. مقاطع من سيرة ذاتية»).


 ظلت إسبانيا لنا نحن من درسنا فيها بتحولها من النظام القمعى إلى الحرية والديمقراطية نموذجًا نحلم بتطبيقه فى وطننا العربى الكبير، فقد شهدنا تحولها هذا وانتقالها بخطوات واثقة فى الثمانينات، تحدثنا طويلاً عن تجربة إسبانيا وأميركا اللاتينية فى دنيا الديمقراطية.

وكيف عاش تلك الفترة التى كانت إسبانيا فيها حُبلى فى نهاية الستينات والسبعينات إلى أن توفى الجنرال فرانكو وانفرجت الأمور وحقق الإسبان أحلامهم. كانت رحلته للعلاج فى إسبانيا التى يعشقها، رغم أنه كان فى البداية يفكر فى العلاج فى الولايات المتحدة الأميركية، لكنه اكتشف صدفة أن العلاج يمكن تلقيه فى إسبانيا، فآثر السفر إلى مدريد حيث له أصدقاء حميميون، بدرو مارتينيث مونتابيث وكارمن رويث، وأحد أفراد العائلة. 


وشغلت مسألة الحرية والديمقراطية حيزًا مهمًا من فكر الدكتور صلاح، خاصة وأنه قد شهد مطالب الحرية وكان أول كلمة يتعلمها من الإسبانية هى الحرية إذ سمع الطلاب الجامعة يصدحون بها فى مظاهرة عندما ذهب لتسجيل نفسه فى الجامعة «حرية/حرية Libertad/Libertad».

وكان هذا فى منتصف الستينات، وبعد عقد من الزمان شهد منظر صناديق الاقتراع الشفافة تعلن ميلاد الديمقراطية لشعب تجاوز محنة الالتزام، ليحقق جنة الحرية.  وكلتا اللحظتان تمثلان المرحلة الأخيرة من رحلة شعب كان يصبو إلى الحرية فكانت له بعد عقود من الاستبداد. 


وكان وضع إسبانيا التى ابتُعث إليها ووضعها بين الدول الأوروبية الأخرى، يمثل احدى نقاط اهتمامه، خاصة وأن هذا البلد الذى لم يكن مشهورًا بمساره فى عالم النقد، ولم يسبقه باحث عربى فيه، فمعظمهم كانت قِبلتهم تتراوح بين باريس ولندن.

وويل لم يضل طريق فيتجه إلى بلد آخر، مثل ألمانيا أو أميركا اللاتينية، إلا أنه فوجئ بوجود عماليق كبار، وأن الشعر الإسبانى يشهد انهمارًا مدهشًا للعبقريات التى حازت جوائز نوبل، ونجهلهم. ويقر بهشاشة النقد والتنظير رغم وجود استثناءات خارقة لعلماء ومؤرخين ذوى قامات كبرى. 


واستطاعت فرنسا بمناخ حريتها أن تستقطب الكثير من الدارسين لتصيغهم حسب هواها، وهو المناخ الذى فعلته من أعلام الفن والأدب الإسباني، وتضمهم إلى قائمة مبدعيها العالميين من بينهم بيكاسو وسلفادور دالى وفرناندو أرّابال وغيرهم، خاصة لما أتاحته من مناخ الحرية الذى لم تكن تطيقه الثقافة الإسبانية، حتى جربت حلاوته فى عصرها الديمقراطى الحديث. 


 وفى أكثر من موقع فى كتاب «عين النقد» يعاود الإشارة إلى الحرية من منطلق أنها أوكسجين الإبداع أدبًا ونقدًا على السواء، غير أن النقد الإسبانى شهد نمو مدرسة أسلوبية أصيلة طورت مفاهيم الأسلوبية الألمانية والفرنسية والإيطالية.

وأضافت هذا التيار إلى المناهج النقدية الحديثة. والفصل السابع الذى يأتى تحت عنوان «نقد إسبانيا» يفيض بهذه الأمور وكيف استطاع أن يطبق المثل الشعبى القائل بأن الشاطرة تغزل برجل حمار.

وربما لم تكن رجل حمار بل قرنى غزال جميلتين. ويلح على أن العرب ارتبطوا دائمًا بإنجلترا وفرنسا وأميركا بينما إسبانيا سقطت سهوًا رغم أهمية ما لديها. أما سبب انكفاء إسبانيا على نفسها فيبرره بأن الثقافة الإسبانية، على ما يبدو، كانت تشعر بالاكتفاء الذاتي، وترى فى الامتداد الذاتى لها فى أميركا اللاتينية ما يشبعها ويغنيها عن احتضان لغات أخرى وأعراق مخالفة.


وأقام فى إسبانيا خمسة عشر عامًا على فترتين متقطعتين، طالبًا ومستشارًا ثقافيًا ومديرًا للمعهد المصرى للدراسات الإسلامية، وبينهما ثلاثة أعوام فى المكسيك، فى أميركا اللاتينية، التى هى تعد امتدادًا للأندلس.

ومن مدريد عاد وفى جعبته عدة كتب، ما بين الترجمة والتأليف، وتكريم إسبانيا له بمنحه نيشانًا وتعيينه عضوًا مراسلاً فى المجمع الملكى للغة الإسبانية، وهذا التكريم المزدوج لا يذكره أحد. كان الدكتور صلاح من بين من تمثلوا الثقافة الدول الناطقة بالإسبانية جيدًا فأخرج رحيقها فى كتبه ومواقفه السياسية والفكرية بشجاعة نادرة بين المثقفين، رابط الجأش فى أقسى المواقف التى مر بها فى حياته دون أن يتململ أو يظهر ضعفًا. 


وغيرته على بلده وثقافته فى أثناء فترة إقامته فى إسبانيا تبدت فى مواقف عدة، لعل أبرزها كان على إثر هزيمة يونيو وأعرب عن موقفه هذا بعد سماع خطاب التنحى الذى كان له وقع شديد الوطء عليه.

وكان له موقف آخر من الكاتب الأرجنتينى خوسيه لويس بورخيس فبينما كان يترجم كتابه «الألف» علم أن المؤلف هنأ إسرائيل لانتصارها على العرب فى تلك الحرب، ما جعله يمزق مخطوط ترجمته لهذا الكتاب.


الحديث عن علاقة الدكتور صلاح وإسبانيا يطول فهناك تفاصيل كثيرة تتعلق بنهمه للمعرفة فى هذا البلد وأخرى تتعلق بمولد بعض كتبه، وخاصة كتابه عن الأسلوب ودأبه فى النهل من ثقافة هذا البلد. مؤلفاته وما لها من زخم وانتشار طغت على ترجماته الرائعة عن اللغة الإسبانية بلغة نحسده عليها نحن العاملين فى هذا المجال. سيظل نجاحه فى إدارة المعهد المصرى للدراسات الإسلامية – الأندلسية - نقطة فريدة فى تاريخ هذه المنارة التى خفت ضوؤها فى السنوات الأخيرة. 


ورحل إلى عالم أرحب بعد أن أثرى الثقافة العربية ليظل فكره رافدةً للقوة الناعمة المصرية والعربية وجسرًا ثقافيًا للتواصل مع الآخر. وبرحليه فقدت الأمة العربية علمًا كبيرًا فى دنيا النقد والفكر بعد أن أثرى مكتبة لغة الضاد بمؤلفات وترجمات ثرة، لا تضاهيها ترجمات لمن يحسبون عماليق الترجمة، وترك ارثًا علميًا خالدًا لأجيال قادمة.

اقرأ ايضًا | غروب شمس النقد رحيل الدكتور صلاح فضل بعد مسيرة أدبية حافلة