د. حسين محمود يكتب : عندما قال لي: لسنا أقلية يا دكتور!

الدكتور صلاح فضل
الدكتور صلاح فضل

بيني وبين صلاح فضل مشترك عميق. بيننا نظرية نقدية في الرواية كان من أوائل من قدموها للنقاد العرب، وبيني بينه دروس الأدب المقارن التي رأينا فيها توجيها للمجهود الفكري العربي لصالح الثقافة العربية، رغم تبحرنا في دراسات الآداب الغربية، فهو من كبار دارسي الأدب الإسباني، وقريبا منه تخصصي في الأدب الإيطالي، وأشترك معه أيضا في دانتي اليجييري، الذي درسه متابعا وناقدا لآراء المستعربين الإسبان، وهم من أهم من درس حركة انتقال المصادر العربية إلى القارة الأوروبية عبر الأندلس، ومن خلال مدرسة طليطلة التي نقلت إلى اللاتينية كما كبيرا من الأعمال العربية. 
والترجمة مشترك آخر برع فيه الدكتور صلاح فضل وإن لم يشتهر به، ومعرفته باللغة الإسبانية وفرت له مصادر لم يكن يستطيع أن يتعرف لولا هذه المعرفة اللغوية، وإقامته في إسبانيا دارسا للدكتوراه ثم مستشارا ثقافيا، ونشاطه الدائم في البلاد الناطقة بالإسبانية. ويكفي أن نلقى  نظرة على ترجماته لكي نستشف منها انتقائيته المحكومة بفلسفته الجمالية، فقد ترجم من المسرح الإسباني « الحياة حلم»، لكالديرون دي لاباركا،  و«نجمة أشبيلية» للوب دي فيجا، و«القصة المزدوجة للدكتور بالمى»، و  «حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة» و: «أسطورة دون كيشوت» و«وصول الآلهة» وكلها أعمال الكاتب الشهير أنطونيو بويرو باييخو.

كل هذه المشتركات أنتجت في نهاية الأمر مشاركة فعالة للدكتور صلاح في مجلس كلية اللغات والترجمة التي أعمل عميدا لها، ولثلاث دورات متتالية، كان يحضر الاجتماعات ويشارك في النقاشات ويصل بنا ومعنا إلى الآراء العلمية السديدة، ولم يمنعه من الحضور إلا جائحة كورونا.


ولكن الفروق بيننا كبيرة، وأعترف أن صلاح فضل كان من بين أبناء جيله الأكثر جرأة وإقداما، وفي الوقت نفسه  أكثرهم هدوء وأقلهم تهورا، ولم يكن يكتفي بالتعبير عن رأيه، وإنما يحوله إلى فعل قوي مضمون التأثير. كيف وصل فضل إلى هذه التركيبة؟ لقد كان قويا بالمعرفة والقدرة على الحكم السليم.

وكان الأقل تهورا بحكم خوفه القديم من أن يدفع بنفسه إلى مصير لا يرضاه لنفسه. كان أديبا عاشقا للجمال ومفكرا بدرجة مقاتل، حتى أني عندما سألته: تحاربهم وأنت تعرف أننا أقلية؟ فرد مستنكرا بلطفه وابتسامته المسيطرة الطيبة: لسنا أقلية يا دكتور! وكأنه كان يذكرني بأنني «دكتور».

وبأنني أنتمي إلى ما قد يسمى بالنخبة المثقفة، ثم  راح يشرح لي ما تساويه  الأغلبية التي أزعمها، وأن ما تدعو إليه لا يدفع للتقدم ولا يمكن أن تعيش عليه البشرية، وكيف أن «عقلا» من «الأقلية» يساوي ألف عقل من «الأكثرية».

وبل وربما مليون، وسنبقى أقلية ما دمنا اخترنا ألا نستخدم عقولنا، وسنصبح أغلبية بحكم التأثير إذا عبرنا عن أنفسنا دون خوف أو تردد، وربما نزول بأجسامنا ولكن الذي يبقى ولا يضيع هو ماتنتجه عقولنا، وهذا الإنتاج متجدد ومتوالد ومستديم.


ولقاؤنا الأول كان في مكتبة الإسكندرية مع الصديقين د. وائل فاروق ود. جهاد محمود، نناقشهما في «محنة اللغة العربية»  وكان ذلك في ديسمبر 2018، ومن كلامه أدركت أنه قرر أن يخوض معركة الدفاع عن اللغة العربية.

كما أدركت جرأته وشجاعته في توصيف وتشخيص المشكلة والتصدي لحلهاـ لكنه في الوقت نفسه كان يناقش العالمين الشابين بكل ما أوتي من القبول والتسامح والابتسامة الموحية. 


ثم التقينا مرة أخرى في منتدى ريميني بإيطاليا، وكان هذا اللقاء أكثر اقترابا من شخصه وروحه، وتحدثنا طويلا في تلك الأجواء الخلابة بالمدينة الساحلية، وعرفت حجم إصراره على المواجهة، وكان هذا أيضا درسا تعلمته منه، فالمقاومة عند صلاح فضل دافعها العشق لكل ما هو جميل، فهو رجل محب للجمال المجرد.

وحبه للجمال هو حب مجرد، أو إن شئت تجريدي، لا يخفي وراءه نوايا، لا طيبة ولا خبيثة. وهو في عشقه لديه ضمير القاضي، عطفا على أن النقد في نهاية الأمر هو القدرة على إصدار حكم صحيح وعادل.


لم يدر بخلدي ولو للحظة أن هذا الناقد الكبير بدأ حياته الدراسية في المدارس الأزهرية، ولو كان استجاب لمسيرة حياته التي فرضت عليه بعد وفاة أبيه المبكرة لربما أصبح الآن من علماء الأزهر. وبدلا من  أن يكمل تعليمه الديني في جامعة الأزهر اختار أن يلتحق بدار العلوم.

وهناك، كما حكى لي في جلساتنا الطويلة، كيف أصر على دراسة الأدب، ولا شيء غير الأدب، وكيف استطاع أن يفلت من الصراع بين القديم والجديد، والتراث والتجديد، وأنقذته البعثة إلى إسبانيا من الضغوط التي كان يصادفها من أجل تحويله عن دراسة الأدب.

وفي إسبانيا تفتحت أمامه كل الآفاق في الدراسة الحرة غير المقيدة بأي قيد من أي نوع، وهناك أيضا بدأت رحلته مع الجمال، ومهمته النقدية التي حددها فلسفة لحياته هي البحث عن الجمال والسعي إليه واكتشافه وتقديمه.

وعندما استقر أخيرا في مصر تنقل بين كليات الآداب المختلفة ولم يحس بالطمأنينة إلا عندما تسلم عمله في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة عين شمس، وهو المكان الذي رأى فيه مستقرا آمنا ينتج فيه أفكارا صالحة لبناء المستقبل. 


كان صلاح فضل يتذكر أيضا مقالاته في الأهرام، وهو غير مصدق كيف انتهت مسيرته في الأهرام دون سبب وجيه، وكيف انتقل مقاله إلى المصري اليوم، ولكنه كان يحكي – بشيء من المرارة أنه لم يبال كثيرا بابتعاده عن غير رغبته عن النشر في الأهرام، وواصل الكتابة بنفس المنهج ونفس الحرص على متابعة الجديد.

واستكشاف ما يمكن كشفه، بنفس الشغف الذي حدا به في شبابه أن يترك التعليم الديني الموسم بالتكرار والاستدعاء الماضوي، وأن يطرق سبيل الحداثة.


وتعود إلى ذاكرتي دائما تلك السمة الفريدة عند صلاح فضل، وهو عندما يترك شيئا قديما إلى شيء أحدث وأكثر جمالا، فإنه لا يكره القديم ولا يحس نحوه بأية ضغينة، فعل ذلك مع الأزهر الشريف، فظل معترفا بفضله على تكوينه.

وكان من رأيه أن تكوينه اللغوي ظل مرتبطا بمراحل تعليمه الأولى وحفظه للقرآن الكريم. ولذا كان صلاح فضل  متشوقا إلى تطوير التعليم الأزهري، وقد أكد لي أنه أعد خطة كاملة لإصلاح الأزهر وقدمها لشيخ الأزهر، وإن كان لا يعرف مآلها ولا كيف تصرفت فيها المشيخة. 


وحدث هذا أيضا مع الأهرام، الذي أبعد عنه ولكنه ظل دائما على عهده ووفائه للأهرام، ولا يذكره إلا بالخير والعرفان، حكي لي صلاح فضل عن حبه الكبير لزوجته التي توفيت بمرض خبيث، وكانت هي أيضا أستاذة للغة العربية بكلية الألسن جامعة عين شمس.

وعندما عرفت أن ابنه توفى فجأة أيضا، وأنه سوف يعيش حياته مكلوما بفقد الابن، أشفقت على هذا الشيخ، وعندما ذهبت إليه أعزيه وجدته راضيا مطمئنا. وبعد وفاة الابن بعامين تقريبا، وفجأة أيضا، فقد ابنته المحبوبة لديه الدكتورة نهلة.

والتي تعرفت عليها أيضا في إيطاليا، وكان في كل تلك المآسي يعاني من مرض خبيث أصابه ويداوم على العلاج منه، دون أن يتوقف يوما عن العمل والعطاء، حتى عصف به مرضه الأخير.
 ورغم ما يبدو من الطابع المأساوي لعائلة صلاح فضل، غير أنه كان دائما فارسا نبيلا، وبطلا تراجيديا يواجه مآسي حياته ببسالة، ويتغلب على ألمه بابتسامته المسيطرة الطيبة.

اقرأ ايضًا | صلاح فضل ومأمون وجيه ضمن تشكيل مؤتمر مجمع اللغة العربية بالشارقة