الأحجار لانت لـ«الأيدى الناعمة»

أوجوستا سافاج مع أحد أعمالها
أوجوستا سافاج مع أحد أعمالها

كتب: رشيد غمري

يُنظر إلى النحت باعتباره فنا ذكوريا، ارتبط فى الأذهان بأذرع قوية تمسك المطرقة، والإزميل، لتضرب الحجر، وتطوِّع الصخور. وهو ما لا يناسب مخيلة العامة، ولا مؤرخى الفنون عن النساء. وربما لذلك تجاهلوا أعمالا عظيمة، ونجاحات مبهرة، حققتها الأيدى الأنثوية فى إبداع التماثيل طوال قرون.

ونتيجة لجهود تجرى منذ السبعينيات لإعادة كتابة تاريخ الفن بإنصاف، ظهرت صفحات مجهولة، تروى قصص نحاتات، نلن الاعتراف، وقدمن إبداعات مهمة، رغم التضييق والتجاهل. ولبعضهن أعمال مهمة تزين الميادين، وتعرضها المتاحف.

ليجنيا جعلت التماثيل تتحرك وتفوح بالروائح

عانت النساء التضييق طوال عصر النهضة. وأغلب الفنانات اللائى كُشف عنهن النقاب من ذلك العصر، كن بنات عائلات فنية، عملن فى كنف الآباء أو الأزواج. لكن يبدو أن النحاتة "بروبرزيا دى روسى" كانت استثناء.

وهى واحدة من أوائل النحاتات البارعات المعروفات، حتى أن الكاتب والفنان "جورجيو فاسارى" أفرد لها فصلا كاملا فى كتابه عن تاريخ الفن فى عصر النهضة.

وُلدت "دى روسى" فى بولونيا، التى كانت ملاذا لكثير من فنانات عصرها، وتتلمذت على يد النحات "ماركانتونيو رايموندى".

وتشير الوثائق إلى قيامها بعمل منحوتات للعديد من الأبنية المهمة مثل "بازيليك سان بترونيو" فى بولونيا. كانت أغلب أعمالها من الرخام، وبعضها بأحجار أكثر قسوة. واشتهر عنها المهارة وتقلب المزاج.

ويبدو أنها عانت فى البدايات كى تحصل على الأدوات، ما جعلها تتحايل للحصول عليها، أو توجد البدائل المتاحة لتنفيذ أعمالها الأولى. عملت أيضا فى نحت الأحجار الكريمة، لترصيعها فى الفضة. ولها أعمال معقدة ودقيقة، منها قلادة تضم أكثر من مائة رأس.

ولمهارتها، اقتنى علية القوم أعمالها، ومنهم الدوق الأكبر "فرانشيسكو الأول دى ميدتشى" أحد أهم رعاة الفن فى عصر النهضة. ونظرا لأهميتها وريادتها، فقد ألهمت الفنان الفرنسى من القرن التاسع عشر "لويس دى تشيس" فرسمها، وهى تزيح الستار عن آخر أعمالها من النحت البارز.

كما كتبت عنها الشاعرة الإنجليزية "فيليسيا هيمانز" فى القرن التاسع عشر أيضا قصيدة. وخصصت لها الكاتبة "لورا راج" فصلا من كتابها عن فنانات بولونيا صدر عام 1907.

اقرأ أيضًا

حكايات| نحاتة التماثيل الأسطورية.. «صوابع» أمل تتلف في حرير

فى سبيل الحرية
ارتبط الفن لدى الكثير من نحاتات القرن التاسع عشر بالتعبير عن قضايا الحرية الإنسانية، وحرية النساء. "آن ويتنى" واحدة من هؤلاء. وهى فنانة أمريكية ولدت عام 1821 وعاشت حتى عام 1915، علمت نفسها بنفسها، ودرست علم التشريح على يد طبيب.

انتقلت إلى روما، وجسدت المدينة فى أحد أعمالها، على هيئة امرأة عجوز تتسول، ما أحدث ضجة، وأثار الاعتراضات. قامت بعمل تمثال لـ"شارلز سومينز" الذى ألغى عقوبة الإعدام، وتقدمت به لإحدى المسابقات، وقبلته اللجنة، ولكن تم استبعاده عندما علموا أنه من صنع امرأة. ومن أمريكا أيضا خرجت الفنانة «هاريت هوسمر»، وأبدعت أعمالها على نمط «النيو كلاسيك».

ويعتبرها الكثيرون رائدة النحت الأمريكى من النساء. وكذلك «إدمونيا لويس» الأمريكية وهى من أصول أفريقية فهى مثال آخر على التحدى.

ولدت عام 1844، ورغم وفاة والديها مبكرا، لكنها استكملت دراستها. اضطهدت، واتهمت ظلما بالسرقة، وبتسميم زميلاتها فى الفصل، ما عرضها للضرب المبرح على يد مجموعة من أولياء الأمور العنصريين.

وقُدمت للمحاكمة، وثبتت براءتها. انتقلت إلى بوسطن، وطورت فنها، وكان أول أعمالها المشهورة، ميدالية تحمل رأس "جون براون" المناضل ضد العنصرية، والمطالب بإلغاء الرق. انتقلت إلى روما، وظلت تستلهم أعمالها من ثقافة الأمريكيين الأصليين، والقصص التوراتية، وإعلان التحرر.

فن وحب ونجاح
تتلمذت الفرنسية "كميل كلوديل" المولودة 1864 على يد النحات الأشهر "أوجست رودان". وسرعان ما صار كلٌ منهما ملهما للآخر، حيث توطدت علاقتهما العاطفية. ويرى بعض النقاد أن آثار يدها واضحة فى بعض أعماله الشهيرة. أما أشهر أعمالها فهى "الفالس".

وبعد انفصالهما، عكفت على فنها، ويقال إنها أصيبت بمزيج من اليأس، وجنون العظمة، فكانت تبقى فى ورشتها فترات طويلة دون أن تخرج. وتوجد أغلب أعمالها الآن ضمن المجموعة الدائمة بمتحف "رودان" فى باريس.

أما النحاتة "جيرترود فاندربيلت ويتنى" فهى أمريكية ولدت فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وزارت أوروبا بدايات القرن العشرين، فتأثرت بمناخ باريس، وحى مونتمارت. اهتمت بجمع الأعمال الفنية، وكانت راعية للفنانين، وأسست متحف "ويتنى" للفن فى نيويورك مطلع الثلاثينيات.

ورغم إبداعها للعديد من المنحوتات الصغيرة، لكن شهرتها جاءت من الأعمال الضخمة التى قامت بها، ونالت عنها العديد من الجوائز. ومثلها، انتقلت مواطنتها الأمريكية "أوجوستا سافاج" المولودة أواخر القرن التاسع عشر، إلى باريس لأجل الفن.

وعرفت أيضا بالمهارة والجدية، وأسست مدرستها الخاصة فى الثلاثينيات فى "هارلم"، كما انتخبت رئيسة لمركز تجمع الفنانين فى "المدينة"، وكانت أول رئيس من أصول أفريقية للرابطة الوطنية للرسامين والنحاتين. ومن أشهر أعمالها تمثال نصفى بعنوان "جامين" لصبى أفريقى بقميص مجعد وكاب.

رائدات النحت الحداثى
مع بدايات القرن العشرين، صار الطريق مفتوحا أكثر أمام الفنانات. حيث طورت النحاتة «بربارا هيبورث» مع زوجها الفنان "بن نيكلسون"، وآخرين فن ما بعد الحرب. وحصلت على الجائزة الأولى فى بينالى ساوباولو 1959 كما اهتمت بتدريس الفنون ورعاية الفنانين الشبان. 

ومن اليابان جاءت النحاتة "يايوى كوساما" التى ولدت عام 1922، وسرعان ما صارت ضمن أهم فنانى العالم. جمعت بين النحت والتركيب ومزجت «البوب أرت» بالمفاهيمية والتعبيرية التجريدية والنسوية. أما الفنانة "كريسا" فهى يونانية، ولدت عام 1933 فى أثينا، ودرست فى باريس وسان فرانسيسكو، وانتقلت إلى نيويورك.

تأثرت بالحياة الحديثة، واشتهرت باستخدام أنابيب النيون المضيئة فى أعمالها مع وسائط متعددة، وابتكرت العديد من التقنيات الخاصة، كما تضمنت أعمالها رموزا وإشارات إلى اليونان القديمة وشخصية الأنثى. 

الفنانة "إيفا هيس" من مواليد 1936 فى هامبورج، كان لها أيضا دور كبير فى إعادة صياغة فن النحت الحداثى من خلال استخدام مواد غير مألوفة مثل البلاستيك واللاتكس، وصارت أحد رواد التجديد فى هذا المجال. 

لويزا استخدمت الفن كعلاج نفسى

الفن علاج
"لويز بورجوا" نحاتة فرنسية أمريكية ولدت عام 1911، وتعرضت لظروف نفسية صعبة بعد وفاة والدتها، ولجأت للفن كعلاج. اشتهرت بمنحوتات كبيرة الحجم، النحاتة البرازيلية "ليجيا كلارك" هى أيضا أدركت أثر الفن كعلاج، ومارسته مع المرضى النفسيين.

وقامت بعمل نوع من التجريد الخاص بها. لديها مجموعة منحوتات باسم "المخلوقات" بها مفاصل قابلة للتحريك، بحيث يمكن للمتلقى المشاركة فى إعادة تشكيل العمل.

ومنذ عام 1970 عادت إلى باريس، واستمرارا فى التجريب، بدأت تضيف لمنحوتاتها أبعادا مثل الرائحة واللعاب حتى رحلت عام 1988.. النحاتة "نيكى دى سانت فال" أيضا عانت الانهيار العصبى بعد زواجها من الكاتب "هارى ماثيوز"، وكان النحت منقذها، وعلاجها.

ابتكرت عجائن خاصة لمنحوتات نسائية أسمتها "ناناس". وفى أواخر السبعينيات، بدأت بتنفيذ أكبر مشروعاتها الفنية وهو "حديقة التاروت"، حيث حولت شخصيات أوراق لعب التاروت إلى منحوتات.

رائدة مصرية
الفنانة سميحة حسين من مواليد 1889 هى أميرة مصرية، وابنة السلطان حسين كامل والسلطانة ملك. درست الفن بمعهد "البوزار" فى باريس، وعلى أيدى أساتذة إيطاليين، وتنوعت إبداعاتها بين النحت والرسم والتصوير الفوتوغرافى. شاركت فى معارض ضمت مصريين وأجانب بتماثيل برونزية لراقصات فرعونيات، حيث كانت مولعة بالتراث المصرى المتنوع.

كما قامت بعمل تماثيل تذكارية للجد المؤسس محمد على باشا، وجدها الخديو إسماعيل، ووالدها السلطان حسين كامل، وعمها الملك فؤاد، وأهدته له بعد جلوسه على العرش، كما شاركت عام 1933 بتمثال ضمن معرض صالون القاهرة، وفازت بالجائزة الأولى، وكان من الجبس.

وهو الذى اقتناه الملك فؤاد لاحقا، وأرسله إلى باريس، حيث تم صبه بالبرونز، وهو من مقتنيات متحف قصر عابدين الآن.

وهى معروفة أكثر بكونها صاحبة القصر الشهير بالزمالك، الذى أوصت به قبل وفاتها عام 1984، وأصبح مكتبة القاهرة الكبرى منذ التسعينيات.

الفنانة تحتاج لإعادة اكتشاف، ودراسة لأعمالها، فهى على الأغلب أول نحاتة مصرية، وكانت مواكبة لبدايات الفن المصرى الحديث، ومن جيل محمود مختار، وبالتالى فالاهتمام بها يمثل حضورا مبكرا للنساء ضمن تاريخ الفن المصرى المعاصر.