كنوز| الإمام محمد عبده يوجه سهام انتقاداته إلى محمد علي باشا

محمد على باشا الكبير * غلاف مذكرات الإمام محمد عبده
محمد على باشا الكبير * غلاف مذكرات الإمام محمد عبده

هل يختلف أحد على أن محمد على باشا هو بانى مصر الحديثة؟، نعم هناك من يراه كذلك وهناك من يراه عكس ذلك لأنه كان مستبدا وحرم الأمة من تحديد توجُّهاتها وكتابة مصيرها، وسيحفظ التاريخ الحديث للإمام محمد عبده أنه أول من فتح النارعلى محمد على فى مذكراته التى حققها الكاتب والشاعرالكبير طاهر الطناحى التى صدرت عن دار الهلال ودور نشر أخرى، وعندما يكون الرأى من الإمام محمد عبده يكون للرأى ثقله باعتباره أهم أبرز المجددين فى الفقه الإسلامى، وأحد أهم أعلام النهضة العربية الإسلامية. 

وُلد الإمام محمد عبده فى قرية «محلة نصر» بمركز شبراخيت بمديرية البحيرة عام 1849 فى ذات السنة التى توفى فيها محمد على، وكان من المؤيدين للثورة العرابية وأصبح واحدا من قادتها، وأُلقى القبض عليه بعد فشلها، وأودع السجن ثلاثة أشهر، ثم حُكم عليه بالنفى ثلاث سنوات، انتقل بعدها إلى بيروت، ودعاه أستاذه جمال الدين الأفغانى للسفر إليه فى منفاه بباريس، فاستجاب له واشترك معه فى إصدار مجلة «العروة الوثقى» التى أزعجت الإنجليزوأثارت هواجس الفرنسيين لأن مقالاته كانت تدعو إلى مناهضة الاحتلال، واستطاع الإنجليز إخماد صوت «العروة الوثقى».

وعُيِّن الإمام محمد عبده قاضيا ثم مفتيا للديار المصرية بعد عودته، ومما سبق نتلمس تكوينه الفكرى والدينى، وتجربته السياسية التى عاشها منذ1871، وسوف نتفهم الأسباب التى دعته إلى فتح النار على محمد على باشا فى مذكراته التى يقول فيها: «خرجت عساكر نابليون وظهر محمد علي بالوسائل التى هيأها له القدر، كانت البلاد تنتظر أن يشرق نور مدنية يضيء لرؤساء الأحزاب طرقهم فى سيرهم لبلوغ آمالهم، أو كانت البلاد تنتظر أن يأتى أمير عالم بصير فيضم العناصر الحية بعضها إلى بعض ويؤلف منها أمة تحكمها حكومة منها، فما الذى صنعه محمد على؟ 

يجيب الإمام على سؤاله: «لم يستطع أن يُحيي ولكن استطاع أن يميت، استعان بالجيش وبمن يستميله من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه ثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر على من كان معه أولا وأعانه على الخصم الزائل فيمحقه، وهكذا حتى إذا سحقت الأحزاب القوية وجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة فلم يدع منها رأسا يستتر فيه ضمير، وأجهز على ما بقى فى البلاد من حياة أنفس بعض أفرادها، فلم يبق فى البلاد رأسا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه، أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه، أخذ يرفع الأسافل ويعليهم فى البلاد والقرى.. حتى انحط الكرام وساد اللئام ولم يبق فى البلاد إلا آلات له يستعملها فى جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة وعلى أى وجه فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأى وعزيمة واستقلال نفسى ليصيّر البلاد المصرية جميعها إقطاعا واحدا له ولأولاده، على أثر إقطاعات كثيرة كانت لأمراء عدة.

وماذا صنع بعد ذلك؟ إشرأبت نفسه لأن يكون ملكا غير تابع للسلطان العثمانى فجعل من العدة لذلك أن يستعين بالأجانب من الأوروبيين فأوسع لهم من المجاملة وزاد فى الإمتياز، خارجا عن حدود المعاهدات المنعقدة بينهم وبين الدولة العثمانية، حتى صار كل صعلوك منهم، لم يكن يملك قوت يومه، ملكا من الملوك فى بلادنا يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل، وصغرت نفوس الأهالى بين أيدى الأجانب بقوة الحاكم وتمتع الأجنبى بحقوق الوطنى التى حرم منها وانقلب الوطنى غريبا فى داره غير مطمئن فى قراره فاجتمع على سلطان البلاد المصرية ذلان: ذل ضربته الحكومة الإستبدادية المطلقة، وذل سامه الأجنبى إياه إلى ما يريده منهم غير واقف عند حد أو مردود إلى شريعة، نعم عنى محمد على بالطب؛ لأجل الجيش والكشف على المجنى عليهم فى بعض الأحيان عندما يراد إيقاع الظلم بمتهم! وعنى بالهندسة لأجل الرى حتى يدبر مياه النيل بعض التدبير ليستغل إقطاعه الكبير!

هل فكر يوما فى إصلاح اللغة: عربية أو تركية أو أوردية ؟ وهل فكر فى بناء التربية على قاعدة من الدين أو الأدب؟ وهل خطر فى باله أن يجعل للأهالى رأيا فى الحكومة فى عاصمة البلاد أو أمهات الأقاليم؟ وهل توجهت نفسه لوضع حكومة قانونية منظمة يقام بها الشرع ويستقر العدل؟ أين البيوت المصرية التى أقيمت فى عهده على قواعد التربية الحسنة؟ وأين البيوت المصرية التى كان لها القدم السابقة فى إدارة حكومة أو سياستها أو سياسة جندها، مع كثرة ما كان فى مصر من البيوت رفيعة العماد ثابتة الأوتاد؟ لقد أرسل جماعة من طلاب العلم إلى أوروبا ليتعلموا فيها فهل أطلق لهم الحرية أن يبثوا فى البلاد ما استفادوا؟ كلا! اتخذهم آلات تصنع له ما يريد وليس لها إرادة فيما تصنع، وظهر بعض الأطباء الممتازين، وهم قليل، وظهر بعض المهندسين الماهرين، وهم ليسوا بكثير، والسبب فى ذلك أن محمد على ومن معه لم يكن فيهم طبيب ولا مهندس فاحتاجوا إلى بعض المصريين، وكان ذلك مما لا تخشى عاقبته على المستبدين! ترجمت كتب كثيرة فى التاريخ والفلسفة والأدب ولكنها أودعت فى المخازن من يوم طبعت وأغلقت عليها الأبواب إلى أواخر عهد إسماعيل وهذا يدلنا على أنها ترجمت برغبة بعض الرؤساء من الأوروبيين الذين أرادوا نشر آدابهم فى البلاد.

هل كانت له مدرسة لتعليم الفنون الحربية؟ أين هى؟ وهل علّم المصريين حب التجنيد؟ لا! بل علمهم الهرب منها بعد أن كانوا ينتظمون فى أحزاب الأمراء ويحاربون لا يبالون بالموت أيام حكم المماليك، وليقل لنا أنصار الإستبداد كم كان فى الجيش من المصريين الذين بلغوا فى رتب الجندية إلى رتبة البكباشى على الأقل؟ وما أثر ذلك فى حياة المصريين؟ أثر كله شر فى شر ظهرحينما جاء الإنجليز لإخماد ثورة عرابى دخل الإنجليز مصر بأسهل الطرق ولم توجد فى البلاد قوة تثبت لهم أن فى البلاد من يحامى على استقلالها، وهو ضد ما رأيناه عند دخول الفرنسيين إلى مصر وبهذا رأينا الفرق بين الحياة الأولى والموت الأخير.

أى دين كان دعامة لسلطان محمد على؟ دين تحصيل الضرائب بالقوة والظلم؟ دين الكرباج؟ دين من لا دين له إلا ما يهواه ويريده؟ فليقل لنا أحد من الناس أى عمل من أعماله ظهرت فيه رائحة للدين الإسلامى الجليل؟

أخذ ما كان للمساجد من الرزق وأبدلها بشيء من النقد يسمى «رزنامة» لا يساوى جزءا من الألف من إيرادها، وأخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما لو بقى له اليوم لكانت غلته لا تقل عن نصف مليون فى السنة وقرر له بدل ذلك ما يساوى نحو أربعة آلاف جنيه فى السنة، وقصارى أمره فى الدين أنه كان يستميل بعض العلماء بالخُلَعْ أو إجلاسهم على الموائد لينفى من يريد منهم إذا اقتضت الحال، وأفاضل العلماء كانوا عليه فى سخط ماتوا عليه، والخلاصة..

كان محمد على مستبدا ماهرا، لمصر قاهرا، ولحياتها الحقيقية مُعدِما، وكل ما نراه فيها مما يسمى حياة فهو من أثر غيره!».

وبعد.. هل كان الإمام محمد عبده منصفاً فيما وجه من انتقادات لمحمد على باشا، أم أن رأيه الحاد يحتمل شبهة تحامل وغلو؟!

من مذكرات «الإمام محمد عبده»

إقرأ أيضاً| فقهاء الأمة l الشيخ محمد عبده.. إمام الإصلاح والتجديد