على طريقة نجيب محفوظ

مصر القديمة من «بواقي» الخشب!

عم محمد عرفة وسط منحوتاته
عم محمد عرفة وسط منحوتاته

فى إحدى مغامرات كشف كنوزنا المخبوءة فى باطن الأرض، فزع العمال المدربون وفرّوا هاربين عند رؤية أحد التماثيل وظنوه حيًّا من دقة الصنعة وقالوا إنه «شيخ البلد»، أى يُشبه رجلًا حيًّا وقتها كان يعمل شيخًا للبلد؛ وهكذا سكنت الأسرار العلوية لفنّ النحت الجينات المصرية منتقلة عبر الزمن منذ الفراعنة حتى الآن.

أبنية مساجد تنتظر المُصلين، وفوانيس رمضانية ساكنة بلا نفسٍ تشتاق إلى الأطفال اللاعبين، ووجوه مصرية معافرة تكافح على صوت الناى الحزين.. إبداع متكامل لإنتاج الحياة من الخشب، لإعادة الواقع المنسى لكثير من المهن اليدوية البسيطة كما تصورها أديب نوبل في الحرافيش والثلاثية وأولاد حارتنا، تنطق بمعاناتها وتشتكى همومها في حركة فنية موارة رغم أنها تقبع ساكنة فوق رفوف دكان بسيط بحي العمرانية بالجيزة!


عم محمد عرفة، رجل فى أواخر الخمسينيات، ملابسه غير مهندمة مثل معظم الفنانين، منهمك فى مغازلة قطعة خشب بمهارة، عاشق تعرف يداه طريقهما جيدًا إلى التشكيل والبناء، مهووس بالنحت والتشكيل منذ ميلاده بإحدى قرى بنى سويف، حين كان يعبث بجهامة الأحجار ويُعيدها إلى الحياة مرة أخرى فى صورة حيوانات وأثاثات وبشر أسوياء تنقصهم الروح ليأكلوا الطعام ويمشوا فى الأسواق؛ ولمهارته تلك فقد عمل فى مصنع لتشكيل الفخار من الطين الأسوانى سنوات طويلة، حتى إذا ضمرت المهنة انتقل للعمل إداريا بأكاديمية الفنون بالجيزة، ثم استقرت هوايته فى الرسم على الورق وتحويل هذه الرسومات إلى قطع فنية خشبية تنطق مهارة وتتحدث إبداعا.


يقول عم محمد: رغم أننى أعمل فى أكاديمية الفنون وكل الأساتذة يعلمون مهارتى فى الرسم والنحت، فإن أحدًا منهم لم يُفكر فى مساعدتى لترى أعمالى النور، سواء فى إقامة معرض لى داخل الأكاديمية أو تدريسها للطلاب، أو حتى شرائها بثمن بخس، بدلا من موتها فوق تلك الأرفف هكذا يعلوها التراب؛ حتى إذا أكرمنى الله بمشتر كل شهر فإنه يقطع نفسى فصالًا فى قطعة أنفقت أسابيع فى تشكيلها ليأخذها بمائة جنيه؛ والحقيقة أننى أعيش فى حى شعبى آخر ما يُفكر فيه الناس شراء التحف والأنتيكات.


وعن التكلفة المادية لصناعة هذه التحف الخشبية، يقول عم محمد: التكلفة تنحصر فى إيجار المحل وفواتير الكهرباء وبعض علب الغراء والمصروفات الأخرى؛ أما الخشب فإننى اعتمد على «البواقي» التى يمدنى بها أصدقائى أصحاب الورش المجاورة لى ولا يأخذون مقابلا لها؛ لأنهم يعلمون الكساد الذى أعانيه من ناحية، كما أنهم لا يحتاجون إليها من ناحية أخرى؛ فضلا عن ماكينة صغيرة لقطع الخشب كان  قد اخترعها زميل لى بالأكاديمية وأهدانى إياها، وكانت هى التى شجعتنى على التحول من الرسم إلى النحت؛ ثم يأتى دورى بإعادة تدوير هذه البواقى لتستوى على الشكل الذى أريده وإلا رميتها وبدأت فى تشكيلها من جديد، وأمامك عشرات من التماثيل والأعمال المبتورة، فأنا لا أقبل إلا بقطعة فنية تخرج من روحى وأكون راضيًا عنها تمام الرضا.


ولاحظت أن معظم إبداعات عم محمد تنتمى إلى مصر القديمة وكأنها هربت من روايات نجيب محفوظ لتستقر فى ورشته، فتجد: الحمَّارين والحرفيين والقهوجية والعربجية وبائعى العرقسوس وغيرهم من أصحاب المهن الشعبية، فضلا عن أشكال الأرابيسك فى المساجد والقبب والفوانيس التى تنتمى إلى الحارات القديمة.


فى النهاية يبتسم عم محمد ويؤكد أنه يثق  في أن صوته سيصل من خلال» الأخبار» إلى وزيرة الثقافة ووزيرة التضامن حتى تحظى إبداعاته بالاهتمام الذى تستحقه.