كنوز| عشاق النجم الأسمر يضيئون له الشمعة 73

أحمد زكى عشاق النجم الأسمر
أحمد زكى عشاق النجم الأسمر

في 18 نوفمبر 1949 أطلق طفل أسمر صرخته الأولى في بيت بسيط بمدينة الزقازيق بالشرقية، وما أكثر الصرخات التى سيطلقها هذا الطفل من معاناته مع الألم واليتم وفقدان الحنان، وما أكثر الصرخات التى حولها لشعاع من الإبداع الذى تسيد به عرش أمبراطورية السينما، بصرخاته غير ملامح وجهه المعجونة بطمى النيل كل مقاييس النجومية، عن عندليب السينما الأسمر أحمد زكى نتحدث فى ذكرى ميلاده الـ 73، لنتذكر ونذكر أن رحلة معاناته بدأت من لحظة ميلاده برحيل والده وهو مازال رضيعا، وامتدت بزواج أمه بعدها.

ولازمته المعاناة طوال فترة طفولته وصباه وشبابه، ولم تنته بجلوسه على عرش النجومية، كان المرض اللعين يترصده فى آخر سنواته، حاول أن يصارعه لكن الوحش المفترس الذى لا يرحم يتغلب دائما على الضعف البشرى فى معركة ينعدم فيها التكافؤ، رحل نجمنا الأسمر بعد 56 عاما عاشها على الأرض تاركا فى نفوسنا الحزن والأسى على نجم فوق العادة قال عنه العالمى عمر الشريف: «أحمد زكى أفضل ممثل عبقرى، لو كان يتقن الإنجليزية وساعدته الظروف التى ساعدتنى، لحصل على أوسكار السينما العالمية».

ونحن نضيء له الشمعة 73 فى ذكر ميلاده، نكرر ونكرر أن أحمد زكى شكل حالة استثنائية فى تاريخ السينما المصرية والعربية، وكان يحمل فى داخله حالة إنسانية فريدة لكل من عرفه عن قرب، والحالتان لم تنبعا من فراغ، فوراء كل منهما مشوار طويل من الألم والقهر واليتم والتيه والدموع، انصهرت جميعها فى بوتقة من الصدق فأفرزت لنا فنانا جميلا قلبا وقالبا، وإنسانا نقيا تلقى من الطعنات والحروب الخفية والمعلنة ما يهد الجبال، لكنه بالصبر والصدق أفرزعلى الشاشة فنا راقيا جعله يتربع على عرش النجومية رغم أنف الجميع، لم يكن مثل بقية الأدعياء الذين اتهموه بالغرور ووجهوا له السهام الطائشة غير عابئين بشفافية نفسيته المعجونة ببراءة الأطفال ونقاء أهل الريف البسطاء.

كان الأول فى كل سنوات دراسته بالمعهد العالى للفنون المسرحية الذى تخرج فيه عام 1973 بتقدير امتياز، قابلته أول مرة فى كواليس مسرحية «مدرسة المشاغبين»، شاب هادئ رزين خجول لكنه قارئ ومطلع، عيناه تشع ببريق يلفت النظر وابتسامته معجونة بالطيبة الريفية، قال لى: «أنا ابن الثقافة الجماهيرية بالزقازيق ولها فضل علي، فمن خلالها اشبعت رغبتى فى التعبيرعن نفسى كممثل، وعندما جئت للقاهرة لكى التحق بمعهد الفنون المسرحية كان فى داخلى زحام من الطموح والمعاناة التى عرفتها فى الوسط الفنى لصعوبة التجانس مع من يعملون به، فأنا إنسان بسيط قضيت سنوات عمرى وسط أناس بسطاء لم يتلوثوا بعقد العظمة أوهستيريا الشهرة بالزقازيق.

تعبت من الانتظار والوعود والأحلام والأفلام التى لا تأتي، توقفت مع نفسى يوم عيد ميلادى الثلاثين، نظرت للسنوات التى مرت من عمرى دون أن أنجز ما كنت أحلم به، احباطات القاهرة سرقت من حياتى عشر سنوات كاملة، وعندما يكبر «اليتيم» مثلى تختلط كل الأشياء فى نفسه، الابتسامة بالحزن، والحزن بالضحك، والضحك بالدموع، وأنا إنسان سريع البكاء، لا أبتسم، لا أمزح، أدخل السينما لأشاهد ميلودراما من الدرجة الثالثة فأجد دموعى تسيل، عندما أخرج من العرض وأبدأ فى تحليل الفيلم، قد أجده سخيفاً فأضحك من نفسي، لكنى أمام المآسى أبكى بشكل غير طبيعي، ومن لا يبكى هو إنسان يحبس أحاسيسه ويكبتها».

فى رأى الشخصى.. استطاع أحمد زكى المتفجر بالإبداع أن يهز الدنيا بالصدق الساكن فيه، فحطم مقاييس النجومية المألوفة وأثبت أنها لم تعد حكرا على الممثل الوسيم ذى الشعر الأصفر والعيون الزرقاء، أحمد زكى هو الوجه الآخر لعملة «عندليب الغناء» عبد الحليم حافظ، حياتهما تكاد تصل إلى حد التطابق، فهما أبناء محافظة واحدة، وكلاهما عانى من اليتم والحرمان العاطفي، كلاهما احتفظ بغربة الفلاح الفطرى بحثا عن قدم ومكان تحت الشمس فى غابة القاهرة الفسيحة، وسط غيلان من النجوم الكبار الذين تربعوا على القمة ولا يريدون لأحد أن يزاحمهم عليها، وكلاهما فرض نفسه بصدقه وتمرده وصبره لتغيير كل المعادلات الساكنة، فغير «حليم» من مفهوم الغناء الكلاسيكى، وغير أحمد زكى من مفهوم التشخيص السينمائى الذى جعلنا نصدق انه البيه البواب وطه حسين قاهر الظلام وضابط أمن الدولة والمواطن البسيط المطحون و... و... عشرات الشخصيات التى جعلتنا نصدق انه عبد الناصر والسادات والعندليب الأسمر الذى قدمه ولم يره على الشاشة وهو فى عز مرضه. 

وصف لى أحمد زكى حياته بأنها ميلودراما فاجعة خطها له القدر منذ ميلاده، حرم من الأب والأم التى قال إنها فلاحة صبية، لا يجوز أن تظل عزباء، فزوجوها، وتربى هو فى بيوت العائلة، بلا أخوة، رأى أمه للمرة الأولى وهو فى السابعة من عمره، رأها تنظر إليه بعينين حزينتين، قبلته دون أن تتكلم ثم ذهبت، نظرتها لم تفارقه أبدا، أدرك وهو فى السابعة أنه لا يعرف معنى كلمة أب أو أم، ويشعر بالحرج كلما مرت كلمة منهما على مسامعه فى عمل يجسده ويستعصى عليه نطق الكلمة بسهولة». 

صدق من قال إن العبقرية فى الإبداع تنبع من الألم، أحمد زكى تألم كثيرا، وأبدع كثيرا، واسعدنا كثيرا، كل سنة وأنت طيب يا نجمنا الأسمر وأنت فى جنة الخلد بإذن الله. 

اقرأ أيضاً | التلوين.. لإحياء تراث الفن المصرى «مدرسة المشاغبين» أول المسرحيات