الخروج عن الصمت

خيوط الحرير

محمد عبدالواحد
محمد عبدالواحد

محمد عبدالواحد

فى بلدة كان يخيم عليها الهدوء فلا تسمع فيها صوتا يعلو إلا إذا ارتبط بمهنة صاحبها، فالفلاح فيها يميزه صوته وهو يقول لركوبته كلمته الشهيرة: (حاه ) والبناءون وبعض المهن المرتبطة بهم كانت لهم نغماتهم التى تميزوا بها وهى (هيلا  بيلا  صلى على النبى) وعمال الغزول والأنوال اليدوية كانوا يقضون يومهم فى المديح   والصيادون تميزهم كلمتهم الشهيرة التى كانوا يستفتحون بها فجر يومهم «بسم الله  توكلت على الله» ، أما عمال الشركة ومصانع النسيج فتضبط دقات ساعه الشركة خُطاهم.. وتسكن البلدة وتعود لهدوئها التام مع غروب  الشمس وعودة آخر فلاح من أرضه إلى بيته، وإذا كنت قد قرنت كل مهنة بما يميزها إلا أن هناك مهنة أجلت وصف ما يميزها لأنى أردت أن أميزها بالوصف  الدقيق من خلال تلك السطور.  


مع بزوغ الفجر كانت أقدامهم لها رطم تسمع صداه فى وحل الشتاء ليعلنوا بذلك ميلاد يوم جديد من مسيرة خيوط الحرير. وكلما حاولت أن تهرب بأذنك من سماع  ارتطام أقدامهم يأتيك همسهم وهم يحذرون بعضهم من المشى على الحافة خوفا من  الوقوع «بعدة» الشغل فلا يستطيع أحد وقتها إنقاذك من بطش المعلم عندما يعلم أنك عدت لزوجتك مرة أخرى لتقوم  بنقع الشلات فى أحواض المياه. وإذا كتبت لك السعادة بأن تكون بين يدى الله لتؤدى صلاة الفجر، فترى هذا السرب وهو يمشى وسط الوحل خلف بعضهم البعض ليؤازر كل منهم الآخر ويؤمن خطاه. كانت  خطاهم بالنسبة لنا محفورة وأسماؤهم أصبحنا نحفظها عن  ظهر قلب ولم لا وممرات سيرهم تبدأ يوميا من أمام منزلنا. وآه لو تأخر منهم أحد عن موعده  المحسوب على أصابع اليد. تسمع ألفاظا يندى لها الجبين فلم يكن جعران وكلاوزا  وكلاوى وغيرهم إلا أجسادا نحيلة تحمل على أكتافها المشمع المصنوع من   البلاستيك الملفوف بداخله شلات الحرير مع وضع خرقة من القماش من تحت تلك  اللفافة حتى يستطيعون حماية أجسادهم من  البلل فى برد الشتاء. وعندما تسمع  صرير صراخ  تعلم أن فتحى الشهير بـ»رزة» بدأ  ينادى على صبيانه لتأخرهم  عن الميعاد. كانت أعمدة الإنارة والتليفونات فى بلدنا المحلة الكبرى كباقى بلدان  القطر خشبية وعندما تلمحها تجد تجمعا لهؤلاء حولها.


وللحديث عن أسرار تلك الصناعة بقية.