هالة فؤاد تكتب: وصية مرفوضة

هالة فؤاد
هالة فؤاد

صورته لاتفارق عينى، ممدا كان بجسده الواهن ينظر إلىّ بين الحين والآخر، يطول صمته، بينما عيناه تشيان بأن هناك الكثير مما يود قوله، يغلبه التعب بفعل الأدوية، يجاهد قدر ما يستطيع فتخرج كلماته بطيئة، متعثرة، مشتتة، يدرك أنها ليست كافية للتعبير عن كل ما يجيش به صدره، لكنى أجيد دوما قراءة ما يريد قبل أن يترجمه لكلمات.

منذ أن تفتحت عينى على الدنيا وظله لم يفارقنى، لم يكن مجرد أب بل كان صديقا بدرجة أب، كم كنت محظوظا بتلك الأبوة، كان ملجئى فى كل مراحل حياتى، يعرف كل تفاصيلى، ما يفرحنى وما يكدرنى، همومى البسيطة وقتها وقصص حبى الساذجة، لم يكن يسخر منها ولا يستهين ولم يشعرنى يوما بتلك السذاجة، كان يشاركنى تلك الهموم كما كنت أراها فى تلك الفترة بصدر رحب يساعدنى دون استعلاء حتى أجتازها، ويشاركنى فرحة عبور تلك الأزمات كأننى حققت انتصارا عظيما.   

رغم حكمته ورجاحة عقله ورأيه الصائب دوما إلا أنه لم يمارس أى ضغط لفرض رأيه، بل كان يترك لى دوما حرية الاختيار، يكتفى بالنصيحة ويترك لى القرار، يشجعنى على تحمل تبعاته ولا يوبخنى فى حالة ما اكتشفت خطأ ذلك القرار.   

ظلت علاقتنا على هذا النحو حتى داهمه المرض، بدأ يلح علىّ بالزواج، كان يريد أن يرانى عريسا كما يقول، يخشى أن يموت فلا يشاركنى فرحتى بيوم عرسى، لم أحمل كلماته محمل الجد، فقط بدت غريبة عما تعودت من أبى خاصة فى تلك القرارات المصيرية، بدا علىّ عدم الاكتراث، ظننت أن الأمر سيكون عابرا ولن يتوقف أبى عنده ثانية، لكن العكس هو ما حدث، إصرار غريب من أبى على زواجى يزداد كلما اشتدت عليه وطأة المرض، ولم يكتفِ بمجرد الإلحاح برغبته تلك بل تجاوز ليرشح لى ابنة أخيه عروساً لى، أخذ يعدِّد فى خصالها وجمالها ورقتها وحسن أخلاقها وشطارتها فى كل حياتها، مهندسة ناجحة وست بيت شاطرة، بارعة فى تخصصها وأكثر روعة فى عمل أشهى الوجبات، لم يكف أبى عن ترديد تلك الصفات ولم يكف عن الإلحاح لقبول من رشحها زوجة لى.   

لم يكن من الصعب عليه قراءة عينى الواشية بالرفض رغم أنى آثرت عدم البوح بقرارى تقديرا لحالته ورغبتى فى تجنب أى إحساس بالحرج يمكن أن يسببه ذلك الرفض، لكن رد فعل أبى كان أقوى من الصمت، بدا غاضبا عصبيا مستنكرا عدم قبولى الذى لم أصرح به، برره بوجود أخرى ولم يقتنع عندما نفيت مؤكدا رغبتى فى تأجيل فكرة الارتباط حتى أجد من يدق لها قلبى، كنت أكذب لأول مرة عليه، لم أرغب فى تكديره، شعرت أن حالته لا تسمح بالجدال والمناقشة التى تعودنا عليها، حاولت أن أسوق له مبررات لكنها بدت واهية، كدت أعترف بحبى لأخرى لكن لم أفعل، خوفى على صحة أبى منعنى ولم تواتنى شجاعة الاعتراف بأن قلبى مشغول بأخرى.

لم يقتنع أبى بمبرراتى، ولم يكف عن الحديث عن عروسه المقترحة، حتى فى لحظاته الأخيرة، عام من الحزن مضى، خيم بثقله وكآبته على روحى، عشت وجع فقد الأب والصديق الذى كان لى السند والعون وطوق النجاة لكل أزمة مرت بى، كدت أنسى تغير حاله فى الفترة الأخيرة وإلحاحه علىّ بالزواج من ابنة عمى حتى فاجأتنى أمى به معتبرة ما قاله أبى وصية يجب علىّ تنفيذها وإلا تسببت فى عدم رضا أبى بيقين أن الأرواح تشعر بأحبائها تفرح لفرحهم وتحزن بحزنهم وتعرف أحوالهم.   

لم أمت بعد كى أتأكد من صدق ما تقوله، لكن من المؤكد أننى سأموت لو حققت لهم ما يرونه وصية أبى، لا أنكر تقديرى لابنة عمى لكنى لا أراها أكثر من أخت، فخور مثل كل عائلتى بها ومعجب بنجاحها وغير منكر لبراعتها وشطارتها كست بيت، لكن قلبى لم يدق يوما لها، ودق لغيرها وتعاهدنا على الزواج وتحملت معى الظروف التى أمر بها بصبر دون أن تلح علىّ بالتقدم لخطبتها كما تفعل غيرها من الفتيات، لكنها قدرت بحكمة ظرف مرض أبى ثم رحيله، وأدركت أننى لن أتقدم لخطبتها قبل عام من  رحيله.

ظننت أن أمى ستكون أكثر تفهما واقتناعا برأيى، لكن على العكس اعتبرت ما قاله أبى وصية علىّ تنفيذها، لم تفلح محاولاتى لإثنائها عما تفكر فيه، أعلنت راية العصيان فاتهمتنى بالجحود وعدم بر أبى رغم كل مافعله من أجلى.   

تدرك هى قبلى أنى لست جاحدا وأن برى لأبى فاق كل الحدود باعترافه دوما وباعترافها، ومع ذلك تمارس ضغطها علىّ لتنفيذ ما تراه وصية أبى واجبة التطبيق والنفاذ حتى لوكانت على حساب مشاعرى ورغبتى وأحلامى وحقى فى اختيار شريكة حياتى.

لصاحب هذه الكلمات أقول:
لا أستطيع أن أمنع نفسى من التعجب على ما يمكن أن يصيب شاب بالحيرة ويشعر بالعجز عن مواجهة ضغط أهله وإجباره على الزواج بفتاة بعينها، ففى زمننا الذى نعيشه لم يعد بمقدور الأهل ممارسة ذلك الضغط على الفتاة فما بالنا على الرجل، أدرك بالطبع أن شعورا بالذنب يمكن أن يتسلل بقدر ما إليك لعدم تنفيذك رغبة والدك، رغبة واقتراح وليس وصية كما تحاول أمك الضغط عليك لتنفيذها، ربما تكون حالة الحزن التى مرت بها وأقدر بالطبع ثقلها ووجعها هى من تزيد من قناعتها بتنفيذ ما تراه وصية، ومع الأيام من المؤكد أن وطأة الحزن ستخف لتفتح لها مجالا أوسع لسماع صوت العقل، وحينها يمكنك مناقشتها وتوضيح وجهة نظرك والتأكيد على رفضك والأهم التأكيد على أن ما قاله الأب ليس وصية، ففرض عروس بعينها على الابن لايمكن اعتباره بأى حال من الأحوال وصية، فمشاعرك وخفقات قلبك واختيارك لشريكة حياتك حق أصيل لك لا سلطان لأحد عليك بالإلحاح حيا أو بما نتوهمه وصية قبل الرحيل.