عاجل

هالة فؤاد تكتب: انسحاق الـــروح

هالة فؤاد
هالة فؤاد

بقلم: هالة فؤاد

تهت عن نفسى، ضاعت روحى، لم أعد أنا، أين منى تلك الفتاة الشقية المرحة النابضة بالحياة، كيف رحلت عنى وسكنت بعدها تلك العجوز المتجهمة دوما المفتقدة للبهجة الشاردة بغير هدف والرافضة للحياة. 

لا أعرف تحديدا متى أصابتنى تلك الحالة، لا أذكر كيف بدأ التغيير، لكن من المؤكد أنه جاء بعد سنوات من الشقاء والتحمل لأحداث ومواقف جسام لم تتركنى دون أن يحفر كلٌ منها ندوبا فى روحى عصية على التجاوز والنسيان. 

تحملت فوق طاقتى أملا فى  الحفاظ على استقرار أسرتى وتجنب أولادى مشاكل الطلاق التى  يمكن أن تعصف بحياتهم وتعرضهم لمشاكل نفسية قاسية حاولت قدر استطاعتى حمايتهم منها. 

تحملت زوجا ضعيف الشخصية، لا كلمة له ولاموقف ولا قرار يتخذه بمفرده، فكل خطوة يخطوها لاتأتى إلا بقرار من أهله، هم أصحاب الكلمة العليا، من بيدهم مقدرات حياتى. 

ليس من حقى الخروج إلا بعدما يأذنون لى، ليس من حقى زيارة أمى إلا بعد موافقتهم، ليس من حقى شراء ملابس لأولادى أو اصطحابهم لنزهة، أو استقبال أهلى، أو صديقاتى إلا بعد تصريح منهم، بالطبع لا يتم كل ذلك بشكل مباشر وإنما بشكل غير مباشر يفتعله زوجى بالتلكؤ والمماطلة واختلاق الأعذار حتى يحصل على تصريح من أصحاب البيت الكبير الذى أقطن مع ابنهم إحدى شققه. 

يرون أنها جنة وأراها سجنا تخنقنى قضبانه يستنزف روحى وطاقتى، فقدت حياتى استقلالها وباتت مستباحة، طرق على بابى ليل نهار بحجج تافهة، رغبتهم ألا يتركونى لحظة دون أن يشاركونى فيه، حب استطلاعهم لما يدور فى بيتى وصل لحد تبجح الفضولية، كل كلمة أقولها، كل نفس أتنفسه كل حركة أتحركها يجب أن تكون تحت نظرهم ولا يتركونى إلا جثة تخلد لنوم أقرب للموت والهروب من قبضة أيديهم الضاغطة على روحى إلى حد الاختناق، 

لا أعرف كيف تحملت سنوات عشراً عجافاً وأنا على تلك الحال من الضعف والاستسلام، هل حدث ذلك بسبب رغبتى فى تجنب الفشل والإصرار على الحفاظ على بيتى؟ أم لطرد شبح الطلاق وما يتبعه من خلافات ومشاكل وأضرار على صحة أبنائى النفسية؟ أم لتقديرى أن مثل هؤلاء الذين لايتورعون فى تنغيص حياتى وأنا بينهم لن يدخروا وسعا فى مضاعفة تكديرى بعدما يحدث الطلاق؟ 

الخوف، هو آفتى، هو ما دفعنى لتحمل ما لاطاقة لبشر به، لم يكن صعبا عليهم اللعب على نقطة ضعفى، استغلالها لأقصى حد، أدركوا أننى سأبتلع كل ما يفعلونه فى صمت، لن أقوى على مواجهتهم، على رفض سيطرتهم أو حتى التمرد عليها، راهنوا على استسلامى، وكسبوا رهانهم وخسرت روحى بعدما انسحقت فى حياة بلا حياة. 

استمدوا من صمتى مزيدا من الجرأة ومزيدا من التجاوز وصل لحد الإهانة أمام أبنائى، وقتها لم أمنع من نفسى من الانفجار، استجمعت شجاعتى تغلبت على خوفى، صارحتهم بكل ما فعلوه بى، سردت بغضب المواقف والكلمات القاسية، واجهتهم بخصالهم البغيضة وحبهم للسيطرة والتحكم وفرض آرائهم على الجميع. 

انطلقت كلماتى بلا توقف، لم تمنعنى نظراتهم الحادة ولا أصواتهم المرتفعة ولا كلماتهم المستفزة الساخرة، لم يوقفنى أىٌ منها فى المواجهة والمكاشفة والاعتراف بكل ما ارتكبوه فى حقى من جرم، عاصفة من البوح لم تتوقف إلا بعدما أفرغت شحنة الغضب، بعدها حملت أولادى وتركت لهم جنتهم المزعومة ورجعت لبيت أهلى. 

شهر مضى أعرف تماما أنهم حسبوه بدقة ظنا منهم أنها مدة كافية لتأديبى واستعادة رشدى الذى اعتبروه مفقودا لفترة، أعرف طريقة تقديرهم وحساباتهم التى كرروها فى مواقف مشابهة لزيجات أخرى بعائلتهم. 

حاولوا تطبيق تجربتهم التى نجحت دوما فى إعادة الزوجة الغاضبة وتقليم أظافرها وإخضاعها ثانية لسيطرتهم. 
لكنى رفضت، رفضت ألاعيبهم، لم أستجب لمحاولات زوجى التى أعرف جيدا أنها لم تأتِ إلا بناء على توجيه من أهله، لم تقنعنى كلماته التى حاول أن تكون لطيفة حنونة، ولا تعهداته بطى صفحة الماضى وتلبية كل مطالبى بالحياة التى أنشدها لا التى يفرضها علىّ أهله، رفض عقلى الاقتناع ليقينى أنه لا يملك شيئا من أمره ولا قدرة له على تحقيق مايعدنى اليوم به،  أعرف أنه أداة طيعة فى يد أهله، وأن رجوعى إليه سيكون رجوعا لسجن لم يكن خروجى منه سهلا، لم يعد فى طاقتى تحمل مزيد من انسحاق الروح، لكنى أخشى على أولادى تبعات الطلاق؟

لصاحبة هذه الكلمات أقول:

لعن الله الضعف الذى يدمر حياتنا ويسحق روحنا ويحيلنا لأشباه أحياء، وضعت يدك على نقطة ضعفك التى قادتك لتحمل ما لاطاقة لأحد به كما قلتِ، ورغم قسوة التجربة إلا أن نجاحك فى وضع يدك على مكمن الداء سيجعلك أكثر قدرة على وضع ترياق النجاة. 

نبالغ أحيانا فى تقدير سطوة وقوة الآخرين ونستهين بقوتنا فنترك لهم الحبل على الغارب فى فرض سيطرتهم وتحكمهم فينا، أدرك أن العلاقات الزوجية ولا غيرها ليست حربا وأن الود والرحمة فيها هما الأساس، لكن لا يعنى ذلك قبول ما لا يمكن قبوله وغض الطرف عما لا يجب تغافله وتجاوزه، للود حدود، واستباحة الخصوصية وانتهاكها كفيلة بأن تدمر أى  حياة، 

استسلمت للتجاوزات التى ارتكبها أهل زوجك فتمادوا فيها، كان من الممكن تجنب نوبة الغضب وتلك النهاية غير السعيدة لو حاولتِ من البداية وضع حدود لتلك العلاقة، دفعك لذلك يقينك أن زوجك لن يؤازرك ولن يستجيب لمطالبك، لكن هذا لا يمنع أنك دفعت باستسهالك الاستسلام وعدم مقاومة ما ترفضينه فى الواقع إضعافا من طاقتك وجهدك وراحتك النفسية. 

وصلتِ رغما عنك لمفترق طرق، لا أرى من الصعب تجاوزه، بعدما أدركت حجم الخطأ الذى ارتكبتِه بصمتك فى حق نفسك وأولادك، تدركين أن كلمات زوجك جوفاء وأن تعهداته بضمان استقلال خصوصيتك واستقلالك فقط لتطييب الخاطر ولا يمكن أن تصبح أمرا واقعا. 

الأمر محسوم بمدى قدرتك على التحمل التى اعترفتِ أنك فقدت جزءا كبيرا منها، ويبقى أمل واحدا فى محاولة الابتعاد عن تلك الحياة المنتهكة والبحث عن شقة مستقلة ربما تنجحين فيها فى استعادة خصوصيتك واستقلالك، وإن كنت أشك فى أنك ستكونين بعيدة عن تدخل أهل زوجك، فالأمر لا يتوقف على المكان وإنما على طبيعة الشخصية، وإن كان قرب المكان يدفع لمزيد من الانتهاك والاستباحة، وفى رأيى أن الحل الحسام يأتى من قدرتك على وضع حدود بالذكاء واللباقة والأدب، لن يتم الأمر بين عشية وضحاها لكنه بالطبع يستلزم وقتا طويلا وصبرا أطول عليك أن تتحمليه إذا شئتِ تجنب تبعات الطلاق، وفقك الله للخير وأعانك عليه.