كنوز| رسالة مواساة من يوسف إدريس إلى نزار قباني

 د.يوسف إدريس  --  نزار قبانى يحتسى القهوة مع حبيبته وزوجته بلقيس
د.يوسف إدريس -- نزار قبانى يحتسى القهوة مع حبيبته وزوجته بلقيس

فى الخامس عشر من ديسمبر عام 1981 هز انفجار عنيف وسط العاصمة اللبنانية بيروت، أهتز معه قلب شاعرنا الموجوع نزار قبانى، سيارة مفخخة استهدفت مبنى السفارة العراقية وسوته بالأرض، وكانت زوجته وحبيبته «بلقيس» ضمن 60 شهيدا على الأقل تحت أنقاض السفارة، من القلب النازف كتب نزار قبانى يقول: «بلقيس.. يا وجعى.. ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل.. هل يا ترى.. من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل؟».

هذا ما كتبه نزار الموجوع، أما ما كتبه صديقه د. يوسف إدريس فيعتبر أجمل وأرق رسالة مواساة أدبية من صديق يشعر بوجع الصديق فكتب يقول: 
عفوك يا نزار؛ فأنا لا أريد بكتابتى أن أؤلمك، ولكن ماذا أفعل حين تصبح المواساة نفسها مؤلمة، ماذا يفعل الصديق إذا ألمَّت بصديقه كارثة ما كان يتوقعها له أشد أعدائه خبثًا وخِسة؟ ماذا أفعل يا نزار وأنا حتى لا أعرف عنوانك فى بيروت لأرسل لك، وإذا عرفته فأنا لا أعرف إن كان لايزال قائمًا أو أن كل صناديق البريد فى بيروت قد انفجرت هى الأخرى وتلاشت؟ 

أنا حائر غاضب مفجوع لا أدرى ماذا أفعل، نفس جلستك يا نزار أمام السفارة العراقية المدمَّرة تنتظر بمعجزة أن تعيد لك الأسطورة التى سحقها الأشرار، جلستك العاجزة الغاضبة ذلك الغضب الجنونى الذى لابد أن يجتاح المرء حين يرى الشر بكل قيمه رأى العين، يراه حرًّا طليقًا بينما أنت الحرُّ مقيد مرغم عاجز حتى أن تفتح فمك، نفس جلستك كانت نفس حبستى مع شعورى تجاهك، العجز الغاضب المجنون، ويدى مكبلة وفمى مكبل، وطائرتى مكبلة، وأنا لا أعرف أيهما أشد وطأة، حزنى على بلقيسك أم حزنى عليك، أم حزنى على حياتك كلها التى اشتبكت مع مأساتنا العربية حتى صرنا جميعًا نغوص فى طينها ونغوص حتى غطَّى الطين طاقات الأنوف، ولم نعد نستطيع؟».

ويقول يوسف إدريس فى مقطع آخر: « لقد رأيتها فى شعرك كثيرًا، ولكنك أبدًا لم تصل إلى تصوير عُشر معشار ما كنت أحسُّ أنا أو غيرى، وكأنك تتحدث عن بلقيس أخرى، تتعمد أن تخفى نورها ودورها عن أعين الناس؛ فأعين الناس دائمًا حسادة، وإلا ففسِّر لى بربك، بأى قانون علمى تعتنقه أن يحدث لك هذا؟ اكذب حتى وحاول أن تفسر فأنا قابل، حتى الكذب الواضح أقبله. أن تموت منك بلقيس هكذا، ميتة كالحالة التى لا تحدث إلا مرة فى كل مليون مرة، أن تكون موظفة فى سفارة والسفارات مفروض أنها أشد الأمكنة أمانًا وأمنًا، أن تدك السفارة دكًا بقنابل المدافع وفى وضح النهار، لا ديناميت مخبأ أو طائرة برقت فى السماء وألقت حملها واختفت قبل أن تلمحها أو تدركها عين، لا، هذه المرة قنابل مدافع حتمًا استغرقت لتعمل وقتًا كان كفيلًا أن يوقف الهجوم فورًا، أى تفسير، أى شيء هذا الذى يحدث لنا وفينا وبنا ؟».

ويستطرد قائلاً: «إن هذا ليس موتًا حتى لو كان الميت حبيبًا ونادرًا ندرة بلقيس، ليس موتًا حتى يجد الإنسان لنفسه سلوكًا تجاهه، يعزى أو يواسى أو يذرف الدمع عجزًا، أبدًا ليس موتًا. وإن تكن ضحيته واحدة من غلاة ضحاياه، بلقيس بالذات، ملهمتك، أنت الشاعر المرهف الذى تبكيه فعلًا ميتة نحلة، لكى يجسد القبح بأشد ما يكون التجسيد قبحًا، والغدر بأشد ما يكون الغدر خساسة، والفجيعة بأبشع ما تكون الفواجع عُهرًا، ليس موتًا وإنما هو إشارة إلهية، ضحيتها صحيح بلقيسك، وإنما كان لابد أن تكون الضحية فى مثل براءتها وطهرها وعفتها، كعروس النيل، كلحظة الصلاة، كأول بسمة لطفل، علامة قادرة من عند الله سبحانه، لقد أراد أن يرينا أين وصلنا، وكيف أصبحنا وكم أصبحت وحشيتنا كما ذكرت فى قصيدتك وحشية ترتعد لها وحشية الوحوش ويصيبها الذعر وتتوب عن وحشيتها وترتعب وتهرب، إنها أبدًا ليست صدفة، فلا شيء فى الكون يحدث صدفة، إنها الألم الحقيقى الذى يوجع ولا يرحم، لم يعد سوى الألم الموجع، الألم الجلدى والنخزى المدبب وسيلة ينبِّهنا بها الله سبحانه إلى أننا كلنا قد صرنا غلاظًا شدادًا، بحيث لم يعد يكفى أن يتوعدنا الله بجهنم وإنما لابد يُقيم فى حياتنا الأرضية نفسها جحيمًا أكبر، جحيمًا لا يمكن أن يفلت من الإحساس به أبجة الوحوش حتى لو كانت مثلنا بشرًا».  

ويستطرد يوسف إدريس فى مواساته بسن قلم الوجع فيقول: «لقد أوقعتنى، بقصيدتك عن بلقيس يا نزار، فى حيرة كبرى، فهى قصيدة لا يمكن أن يكتبها سواك، ولا يمكن لك أن تكتبها إلا إذا اختطفت منك بلقيسك وعلى تلك الصورة المخيفة الشوهاء، فلقد أفزعتنى وأنت تصور لنا حقيقة ما أدت إليه خلافاتنا، حقيقة صورتنا فى مرآة أى مفجوع منا، وكم من فواجع دارت وتدور لنا، ولكنَّ أحدًا لا يمسها أو يدرك وجودها، عبَّرت بفجيعتك عن أغلبية مفجوعة صامتة لا تجد من يعبِّرون عنها، فأغلب المصريين يحبون حياة المرتاحين البعيدين تمامًا عن الخطر، وأنت وحدك اخترت ليطعنك الخطر فتصرخ، وويل لأمة يستحيل شعراؤها إلى صرخات ولعنات تنصبُّ عليها، ويا له من جحيم ذلك الذى يعاديك فيه أعداؤك ويطعنك فيه أصدقاؤك! ما أروع المشعر والأحاسيس والكلمات عندما يكتب يوسف إدريس قائلا: «أرعبتنى قصيدتك.

أرعبنى كل ما قيل فيها، وأرعبنى أكثر رؤيتى للمستقبل، مستقبل أمتنا من خلالها، اللهم اجعل ما نراه وما نحياه كابوسًا حتمًا سنفيق منه ونكتشف أنه كان مجرد كابوس، واجعل ما عشناه وقرأناه قصيدة شاعر طُعن فى أحصن مكان للحب وللحياة فيه وليس واقعًا ظللنا نتجاهله حتى جسدته لنا قصيدة شاعر، أما أنت يا نزار، فأى كلام لك أو معك يكشف تمامًا عبث أى كلام أصبحنا نقوله، إن لك أن تزأر مجروحًا على مدى مائتين وخمسين بيتًا من حزن فولاذى إذا به لهيب الغضب و«تدلقه» على أمة تحجر قلبها فى التكرار المتعمد للفجيعة والفواجع حتى أصبحت لا تستنكر ما حدث للسفارة العراقية ولبلقيسك، وكل بلقيس وكل بريء أو طفل أو عجوز، أن لا تتحرك أمة يحدث لها كل يوم ما يحدث لنا كل لحظة لدليل إما على أنها ماتت فعلًا، أو تحجرت قلوبها، أفلح الأعداء فى تحجير قلوبها على أنفسها حتى أصبح وجودها وعدمها سواء. 

ويختتم يوسف إدريس مواساته لنزار قبانى قائلا: «ولأنى أعرف، وأنت أيضًا أيها الطفل الحبيب الكبير تعرف أنها ليست هكذا أبدًا وإنما هكذا أرادوا لنا أن نصير، وهكذا أرادوا لنا أن نرى أنفسنا عاجزين مكبَّلين لا نملك لحركتنا حرية أو قدرة على التعبير، نتعذب ونتعذب صامتين لدرجة أننا فى النهاية نتحجر، والإنسان إذا تحجر توحَّش وأصبح أغلظ الوحوش جميعها، وبعقلية المتوحش هذا لا يعود يهمه أن يؤلم أو يتألم، نجح الدهاة أن يشوِّهوا وجه أمة، حتى فى عين شاعرها، وويل لأمة لا يعود شاعرها يحس إلا بمدى بشاعتها وقبحها، بلقيس لا يمكن أن تكون قد تركتك إلى الخواء الأكبر، إلى أمة رحمها من شوك وديناميت، إنها فقط إرادة الله الأكبر، إن يضغط على قلبك يا نزار، فالكل يُفجع ويبكى ولكن الشعر وحده هو القادر على أن يُفجع ويزأر، فالزئير بكاء القادر مثلما الدموع وسيلة العاجز، جرحك يا نزار، جرحنا، يا كل نزار ازأر، فمادام الموت قد أصبح قدرنا الذى لا نهرب منه، فلنمت ونحن نزأر، إذ ما أخيب أن نموت ونحن نعوى! 

د.يو سف إدريس من كتاب «أهمية أن نتثقف»

إقرأ أيضاً| كنوز | حوار إذاعي نادر بين يوسف إدريس و«سيدة القصر»