منال الروينى |علبة قطيفة

منال الروينى |علبة قطيفة
منال الروينى |علبة قطيفة

ساحة سيدنا الدسوقى منطقة حية، تزدحم بالبائعين الذين ينصبون فرشهم كل صباح، فيعرضون بضاعتهم الشهيرة.. عندك الحمص والحلاوة، البخور، الترمس، اللعب البلاستيكية كالحصان والعروسة والعجلة الفرارة، وكذلك الخواتم والغوايش القشرة التى يجتذب بريقها أعين البنات صغيرات كنَّ أو كبيرات.
إذا حدث ومررت بالساحة فلا بد أن تسمع النداء الشهير: «تعالى خد نفحة من سيدنا إبراهيم الدسوقى». فيما تتصاعد من حولك رائحة البخور فى دوائر تتبدد فى الأعالى لتولد فى المناقد من جديد. 


يأتى الزوار من الريف والبنادر المجاورة فيقومون بالتبضع من كافة المحال، أو يقصدون محلات الصاغة المنتشرة فى محيط الساحة وبالمرة يعرجون لزيارة الضريح والتبرك به.


جئت اليوم لشراء خاتم من الذهب من أحد المحلات المجاورة للمقام، لم أكن أعرف أننى قد جئت لأمر آخر تماماً. أمام فاترينة العرض الداخلية كنت أقلب النظر فى مجموعة من الخواتم عندما أطَّل من الباب ذلك العجوز، ماداً رأسه على استحياء، كأنه يستطلع شيئاً ثم أخذ يستحث الخطى نحو صاحب المحل على الرغم من التعب البادى على وجهه.


 وقف يلتقط أنفاسه، واضعاً يده على قلبه كأنه بذلك يساعده كى يهدأ وتنتظم ضرباته التى كانت تعلو وتهبط خلف صدره. تلفت حوله، قال بصوت خافت: «و النبى يا بنى ما ترد طلبي».
أومأ إليه الصائغ بالإيجاب،  كأنه يعرف ما يريده ثم تحسس جيب قميصه وأخرج ما فيه النصيب من النقود،  مدَّ يده إليه قائلاً : «كل سنة وأنت طيب. الله يسهلك. ادع لنا». 


تقلَّصت أسارير العجوز اعتراضاً على ما حدث، مما زاد من تغضنات وجهه، دفع بيد الصائغ بعيدا: «يا بنى، أنت فهمتنى غلط».


كنت أعرف أن أهل البلد يحتفلون هذه الأيام بـ«الرجيية» وهى احتفال مصغَّر يسبق المولد الكبير بعدة أشهر، تٌقام فيه حلقات الذكر والإنشاد حيث يقوم أهل الخير بإطعام أهل الله فى الخيام المنصوبة خلف المسجد، يقدمون لحماً، فتة، خضروات..

خير ربنا كثير. وبالطبع يكثر الشحاذون الذين يتحينون تلك المناسبات فيطرقون أبواب محلات الصاغة لجمع الصدقات. أغلب الظن أنَّ هذا ما دار بخلد الصائغ عند دخول العجوز عليه فى ثوبه الرث وعمامته الخضراء كسائر البهاليل والمجاذيب.


ابتلع العجوز ريقه وكرر:
«يا بنى، أنت فهمت غلط ..أنا عايز علبة قطيفة للأبلة نور».
ـ «علبة ايه وأبلة نور مين؟» وباستهزاء قال: «مش تشترى الدهب الأول وبعدين نجيب لك علبة قطيفة.. الله يسهلك،  ماتشغلناش، ورانا شغل».
ـ «صبرك يا بنى والنبى اسمعنى»!
قالها وهو يُخرج من سيالة جلبابه شيئاً. قال: «ده خاتم قشرة اسمه.. اسمه.. دهب صينى، اشتريته من على الفرش الليلة للأبلة نور،  نفسى أقدمه لها فى علبة قطيفة لأجل تحافظ عليه ويكون عليه القيمة».


بتأفف وضجر: «نور مين؟ .. الله يهديك، الواحد روحه بقت فى مناخيره».


ـ «نور بنتى هناك . أهى عند المدخل يا سيدى». 
تحولت عيوننا نحو الباب فإذا بفتاة نحيفة، يطل من عينيها خجل، قروية تحت العشرين، ترتدى فستاناً بسيطاً غير أنه نظيف، ومهندم، وعلى ذراعها تستند امرأة عجوز تخب فى عباءة سوداء كعادة عجائز الريف.


انصرف الصائغ إلى زبونة التى نادت عليه، كأنما وجد الخلاص، وبدورى كنت قد انصرفت عن المفاضلة بين الخواتم وبقيت وحدى فى مواجهة ذلك الرجل الغريب، ربما بدافع الشفقة أو الفضول، أو ممارسة هوايتى القديمة فى تأمل نماذج البشر، لم يجد غيرى يوجه إليه شكواه: 


ـ «الناس خلقها ضاق يا بنتى، مفيش صبر» .
وافقته الرأى، وفى نفسى قلت: ماذا يضير الصائغ إذا لبى طلب الرجل من باب جبر الخواطر وانتهى الأمر؟ ذلك أن تكلفة تلك العلبة الصغيرة لا تتعدى بضعة جنيهات، لكن الناس صدرها يضيق بسرعة هذه الأيام. فى الوقت نفسه كنت أتعجب من هذا العجوز. ماذا يفيده إذا وضع خاتم قشرة فى علبة قطيفة، هل سيستحيل ذهباً خالصاً؟.. أياً كان فلا يعلم سرائر الناس غير الله وربنا حليم ستار.


انزوى العجوز فى ركن بحوار الباب كطفل ينتظر إما عقاب والديه أو عفوهم عنه. طمأنته أننى سأحضر له طلبه، فأنا زبونة قديمة ولن يرد الصائغ طلبى ولو على سبيل المجاملة. انتظرت حتى فرغ من الزبونة التى أمامه ثم اقتربت منه وطلبت منه بصوت خفيض أن يعطينى العلبة القطيفة وسوف أدفع له ثمنها، قليلاً كان أو كثيراً!


ردَّ بأن المسألة بسيطة لكنه يقابل مثل هذه الأشكال والألوان من المجاذيب والشحاذين، وقد ضاق بهم ذرعاً فإلحاحهم مثير للضيق وطلباتهم لا تنتهى. 


من أحد الأدراج المعلقة على الحائط خلفه سحب علبة حمراء صغيرة وأعطانى إياها: «اتفضلى يا ست. لله فى خلقه شئون»!


تهللت أسارير العجوز إذ رآنى أحمل إليه مطلبه. كان أشبه بطفل قد حاز لعبته المفضلة. وضع الخاتم فيها وأغلقها على بريقها الزائف ثم أعاد فتحتها، وأخذ يتأملها بإعجاب وحبور.
 فجأة انطلق لسانه بالحديث وهو يحكى لى قصة ميلاد ابنته: «أصل الأبلة نور جات على كبر.

أمها ولدتها هنا على عتبة سيدنا إبراهيم وكنت نادر ندر، فوزعت فول نابت على الشارع كله ومن ساعتها لا بد نزور المقام، ونوصل الود بأهل البيت . أُمال ايه؟ وأهى الأبلة نور كبرت ودخلت دبلوم المعلمين ـ يقصد كلية التربيةـ وهتبقى مدرسة الكفر كله . كان نفسى أهديها بالدهب بس العين بصيرة واليد قصيرة».


 كان صوته يأخذ فى الارتفاع رويدا رويدا، مما أثار حفيظة الصائغ فنهره بصوت خانق :«أنت مش أخدت اللى أنت عايزه. ربنا يسهلك بقا دا مكان أكل عيش، مش مسرح»!
فى نفس الوقت نادته زوجته من الخارج بعصبية :«يا راجل انت هتضيع علينا الأكل والحضرة. إنت بتعمل إيه بس؟ كل ما تشوف حد تحكى له قصة حياتك»؟!


خرج وهو يشكرنى ويحدجنى بنظرة عرفان، ثم راح يدعو لى بالستر فهو عنده «ولايا» مثلى ولأنى بنت حلال.تابعته من خلف الباب الزجاجى وهو يقبل رأس ابنته، ثم يقدم لها الخاتم بزهو. تلاقت عينى بعين الابنة فتبادلنا الابتسامة. 


 فجأة تذكرت شيئاً مهماً، خرجت على إثره لألحق بهم قبل أن ينصرفوا من أمام المحل: «لحظة من فضلك يا نور»!


أخرجت من حقيبتى ورقة وقلما. كتبت اسم مادة شفافة،  تباع فى الصيدليات، يمكن أن يطلى بها الخاتم، فيبقى بريقه لمدة أطول دون أن يصدأ، شريطة الحفاظ عليه بعيداً عن الماء.
 نظرت الفتاة إلىَّ بامتنان وأشرق وجه الأب: «الله ينور عليك يا أبلة. العلم نور برضه». شملنى بنظرة ود، تمتمت : «ربنا يفرحك بها عقبال دهب خطوبتها». 
هنا ولأول مرة ضحكت الأم ضحكة عالية: «ربنا يسمع منك يا غالية وندر عليا نيجى نزور المقام ونزغرد فى قلبه طول النهار»!
 سألنى الأب كمن يرغب فى مد حبل الود: 
- «أنت من هنا يا أبلة»؟
- «أيوة يا حاج».
- «حصلت البركة».
- «احنا من البر التانى،  نركب الفلوكة الصغيرة فنكون هنا، بعد عشر دقائق. لو وقفت على شط النيل حتشوفى دارنا. لازم تزورينا ونعمل معاك الواجب».
ـ «الله.. بيتكم على النيل»؟   

ـ «بيت صغير يا بنتى، مسقوف بالخشب، مش قد المقام لكن أهو ساترنا، الشمس تدخل من الشباك تدفينا، وبحر النيل يطرى الجو علينا والحمد لله».
قاطعت استرساله فى الكلام هذه المرة ابنته الأبلة نور، وكان على وجهها ما يشبه البشارة :«أبا.. الزفة»!


كانت تشير إلى موكب إحدى الطرق الصوفية التى تقترب من الساحة. يتقدَّم الموكب صفان من الرجال، يضربون الدفوف ويتمايلون يمنة ويسرة، وهم ينشدون: «يا دسوقى، أتيناك.. قد دخلنا فى حماك.. بالحسن ثم الحسين.. خذ بيد من أتاك». 


 فى الخلف آخرون يحملون الرايات الخضراء، يتوسطهم ثلاثة شيوخ يرفلون فى جلاليب بيضاء، يشدون أوشحة خضراء بين أكتافهم وكشوحهم، على وجوههم السماحة والهيبة معاً،  تتدلى لحاهم البيضاء، لتصل إلى صدورهم. 


كنا مأخوذين جميعاً بالمشهد. ما إن دنوا منا حتى انضم العجوز وأسرته إليهم ناسين كل شىء. شعرت أننى جئت اليوم خصيصا لأجلهم، عشت معهم فى بيتهم البدائى، وعايشت حياتهم البسيطة التى تنطوى على مسرات قليلة رغم الفقر والعوز. 


كانت عيناى تتبعهم كخط وهمى يتعرج تارة، ويستقيم تارة حتى غاب ثلاثتهم فى زحام الموكب، فلم أعد أتبينهم. 

اقرأ ايضا | محمد عطية محمود يكتب: قصتان