محمد عطية محمود يكتب: قصتان

محمد عطية محمود يكتب: قصتان
محمد عطية محمود يكتب: قصتان

النورس يعود وحيدًا
وحيدًا هبط النورس، فى لحظة تهاوى فيه جناحاه بفعل ثقل مباغت.. قارب السور الحجرى القديم لكورنيش البحر.. يتخاطفُ عينيه البياضُ الناصعُ لسربه المتباعد المتفرق فوق سطح البحر الهائج، يجهده لهاث غريب يشده إلى الأرض.. تقلقل ما بين علو وانخفاض، لكن جناحيه ظلَّا يجاهدان فى اتزانٍ قلق.. يتلاعب به الريح القادم مع المد القاسى الذى تحوَّل إلى عاصفة..  


لم يكن لونه أبيض شاهقًا، ولا غارقًا فى عتمة المسافات التى قطعها بجناحيه ورأسه غائصا فى سحابات ينهشها الحنين إلى ملح البحر الممزوج بوهج شمس دافئة، وانطلاق محفوف بالأمل، مدفوعًا بالرغبة فى اقتناص بهجة مغامرة.. بل كان ما يكسوه من ريش حنطى اللون ثقيل الوطأة، كثيفًا، مطوقًا عند رقبته كقلادة تهبط على الصدر، بنية اللون تندغم بين غامقه، والمنسحب منه نحو الأسود؛ تضفى عليه مسحة من شجن..!! 


لم يكن المشهد للرائى المستعصم من قسوة المطر، مستهجنًا، بل كان مشحونًا بما تأتى به لحظات استثنائية تداهم المخيلة والذاكرة العالقة دومًا على محطات الوصول من بعد رحيل مكدود.. كان الموج قد طغى، وأزبد، وارتطم بشدة بصدادات الأمواج المكعبة، وتخطى السور ليُغرق الرصيف.. يلتحم بنهر الشارع الغاص الممتد، ليكتمل المشهد، من بعد المباغتة، ليهرع من أمامه العابرون ويتخبطون.. يبحثون عن مأوى بعيد، ولا أثر يتبقى بعدُ للحالمين والقابضين على جمر الأماني!!.. والجدار الواطئ قد خلا حتى من بقايا نفايات اللابدين ملتصقين بأبدانهم - قبل لحظات - من هطول المطر والتحام بمائه بملح الأمواج...


سكن فى موقفه لحظة يعانق فيها الفضاء المتسع للحن الشتاء الصاخب.. يتباعد عنه – رويدًا رويدًا - سربه الذى كان غادر البقاع والشواطئ البعيدة معه.. كاد يختفى السرب بكامله عنه.. يتخطى مدى بصره القناص الحاد المتردد بين ما تحت الماء من صيد يهبط إليه، وبين نهايات السرب الذى لم يتبق منه غير طيف واحد عبر المدى.. يتأرجح.. ينجذب كمن يشده حنين مباغت لملامسة السور الحجرى والاستراحة إليه، فى ذات اللحظة التى كانت تقابله فيها عينان مشدوهتان، تبدوان وحيدتين منغمستين فى ذات المشهد من خلف زجاج نافذة الحافلة التى – حتمًا - أغرقها المطر، وحجبها عن الخارج!!


إيقاع
تستحيل الهمسات – عائدة من غيبتها – إلى خيالات.. إلى صور تتجسد.. تنداح فى الفضاء المعتق بسحب الحنين، معلقةً على قيد الانتظار والهطول... يصحو الحنين من غفوته.. ينزع القشرة المتصالبة؛ فتلقى الأشباه وكل الأشياء تلاشيها.. يتحول الهمس إلى حفيف هادئ.. يجترح سكون الروح.. يقيمها من شبه غفوة – ربما انتابتها. 


تطلين من إطارك المحفور بأغوار الصدر، محفوفًا بتكتم ووجل، يقبع فى عمق القلب.. يشعل نبضًا متجددًا.. يوقظ ما سكن واستكان، وما قارب أن يكون رمادًا، إلى حياة.. ينفخ فيه، فتنتعش حدائقه.. تتنسم عبق أنفاس ندية معطرة.. تنمو أعشابه من بعد مرات من اليباس العقيم.. ترفلين عليها بعدما تتحطم قيودك وأغلال قدميك وعنقك.

وتأبى روحك إلا أن تفك أسرها، فينتفض المارد منك فاردًا ذراعيه.. يحطم بهما الأسوار.. يتخطى الحدود.. يعتلى الأطلال التى تركناها يوما تعانى افتقادها لأنفاس كانت تتردد فيها.. تهبها جذوة وجود مغاير، ومذاقًا نادرا لبكارة الحس من جديد، لا تفقد النفس طقوس التصاقها به، ثم توحدها معه.. يتلفت فى الأجواء، فيطغى عبيره عما سواه.. يعانق المدى...


تنطلق عصافير البهجة فى الصدر.. يعبث فيه أمل مراوغ.. يعزف ذات اللحن الأثير موسيقاه.. لا تخطئها الروح.. تعربد فيها صاخبة راقصة بإيقاع مخملى يتصاعد، ثم يهدأ فى مرتبته، ثم يعاود الارتقاء حاملا الروح على محفات الحبور والانتشاء، حتى تتوسد حلمًا ممتدًا لا استفاقة منه.. ترتقى معه درجات أعلى من إيقاع اللحن.. تغرق فى طبقاته الموغلة فى العمق.. ينتظم إيقاع القلب طربًا، حتى يمتلئ ويفيض.. يسرى فيه خدر ممتد، فيدركه الوسن متنعمًا بالشذى، ويروح فى صمت شفيف...


تنسحب الهمسات رويدًا رويدًا.. تنسل.. يأخذها وشيش البحر.. يلفها وسط لجة أمواجه المرتحلة فى طريق عودتها من حيث أتت من جديد، وصوت انسحاب الماء من بين ذرات الرمال المتشبعة به يشق السكون بجزره الشديد.. يكشف عورة صخور موغلة فى قتامتها، لم يكن لها وجود وقت اصطخاب المد وعنفوانه.. ينفلت الإيقاع.. يرتحل الهمس من جديد نحو أفق بعيد، ملبد بالغيوم، وخيالات طيور النورس البيضاء تحلق، فوق لجة فضية تمتزج بالرمادى المشتبك بقرص الشمس الباهت.. تفترش المدى، وتوغل فيه..

 

إقرأ أيضا | منصورة عزالدين تكتب :«ما تبقى من الليل» محاولة لتقديم كفافيس الذى لا نعرفه!