الروائية والشاعرة إرسى ستيروبولوس فى حوار خاص لأخبار الأدب:

منصورة عزالدين تكتب :«ما تبقى من الليل» محاولة لتقديم كفافيس الذى لا نعرفه!

منصورة عزالدين
منصورة عزالدين

هذه ليست رواية تاريخية ولا بيوجرافيا تخييلية

عام 1897 كان نقطة تحول فى حياة كفافيس

كنت مشغولة بسؤال: من أين ينبع الفن؟

الثقافة اليونانية مُحاصَرة بالصور النمطية!
الشِّعر حبيب لا يمكن التنبؤ بتصرفاته! أكتب وأحلم اليونانية وأجد حريتى فيها! 

عن الكتب خان للنشر التوزيع صدرت مؤخرًا رواية «ما تبقى من الليل» للروائية والشاعرة اليونانية إرسى ستيروبولوس، بترجمة الروائى السورى نزار آغرى. وفيها تشييد لثلاثة أيام مجهولة فى حياة كفافيس، قضاها فى باريس بصحبة أخيه جون فى يونيو 1897، ضمن رحلة زار خلالها لندن أيضًا.
اختارت ستيروبولوس أن تركز على أيام باريس الثلاثة تحديدًا متخيلة جولاته فى المدينة التى كانت فى قمة مجدها وقتذاك، ونجحت فى تحويل باريس القرن التاسع عشر إلى بطل موازٍ لروايتها، فى مفارقة روائية ذكية، إذ لطالما تم الربط بين بطلها وبين الإسكندرية؛ مدينة ميلاده وإقامته معظم حياته، وأتت هى لتخرجه منها وتقتفى أثره فى مدينة أخرى، كأنما أرادت أن تختبر ما كتبه لاحقًا فى قصيدته الشهيرة «المدينة» عن أن حياتنا إن خربت فى ركننا الضيق الأليف ستخرب فى كل مكان آخر، وستطاردنا المدينة وستحكم علينا بألا نغادرها حتى وإن فصلت بيننا وبينها آلاف الأميال.
فى «ما تبقى من الليل» تلاحق الإسكندرية كفافيس فيستعيد لمحات من ذكرياته فيها، ومن حياته العائلية، كما يستعيد شظايا ذكريات عابرة من مدن أخرى عاش فيها مع عائلته لبعض الوقت خلال طفولته وصباه. يبدو ضجرًا من ماضيه متشككًا فى موهبته ومهجوسًا بالإبداع وبالطريق إلى بلوغ العظمة فيه.
يمكن للقارئ أن يشعر على مدار الرواية بأن ستيروبولوس تبدو كأنما امتلكت ذاكرة كفافيس وتسللت إلى عقله ومخاوفه وشكوكه وخيالاته الإيروتيكية المؤرقة، لكنها لم تقدمه كما يعرفه قراؤه ومحبوه، بل ابتكرت كفافيس آخر متخيلًا، وفضّلت أن تعبر من خلاله عن مشاعر وهواجس أى مبدع فى بداية طريقه مع الكتابة: تساؤلاته عن كيف تكون الكتابة جيدة، وكيف يلهم الفنُ الفنَ، وهل من الممكن أن ينتج فن عظيم عن حياة عادية ومنغلقة؟
يتحرك كفافيس بصحبة أخيه ومارداراس فى شوارع باريس وميادينها، فيعيدون إلى ذهن القارئ صورة بودلير المتسكع كما صوره فالتر بنيامين، وثمة إشارات فى الرواية نفسها إلى أعلام الشعر والأدب الفرنسى خلال القرن التاسع عشر باعتبارهم نماذج يتأملها كفافيس ويسير على خطاها.
ولا تفوّت إرسى ستيروبولوس على نفسها فرصة استحضار باريس ذاك الزمن بكل صخبها وأصواتها وصراعاتها ومعاركها الثقافية وخرافاتها الحضرية. تحضر كميونة باريس مثلًا فى الحوارات بين الشخصيات بوصفها ماضيًا قريبًا، وتتجسد قضية دريفوس باعتبارها حدثًا آنيًا أدى إلى انقسام المجتمع الفرنسى وفرّق بين الأصدقاء والأزواج.
ويمكن للقارئ بسهولة أن يستشف الجهد البحثى الكبير الذى بذلته ستيروبولوس سواء فى ما يخص كفافيس وتفاصيل حياته الخفية ورؤاه الفنية والإبداعية وباريس والإسكندرية فى تلك الحقبة وما قبلها، وأن يُعجَب بقدرتها على تحويل تلك المادة إلى فن فى رواية يمتزج فيها السرد بالشعر وتطرح أسئلة حياتية وإبداعية مهمة.

لإرسى ستيروبولوس أكثر من عشرين كتابًا بين الشعر والرواية والقصة، وتُرجِمت أعمالها إلى لغات عديدة وفازت مرتين بجائزة الكتاب الوطنى اليونانية وبجائزة النقاد فى اليونان، وحصلت هذه الرواية على العديد من الجوائز من بينها Prix Mediterranee Etranger الفرنسية عام 2017.

وهى الجائزة التى فاز بها أمثال أمبرتو إيكو وأورهان باموق وإسماعيل كاداريه، وفازت ترجمتها الإنجليزية بالجائزة القومية للترجمة بالولايات المتحدة الأمريكية عام 2019. 

عملت ستيربوبولس أيضًا فى السلك الدبلوماسى وشغلت العديد من المناصب الدبلوماسية من بينها الملحق الثقافى فى سفارة اليونان بروما، كما درّست الكتابة الإبداعية فى عدد من الجامعات الأمريكية.

كنتُ قد التقيت بها لأول مرة فى شنغهاى، إذ كانت بين المشاركين فى برنامج الإقامة الأدبية الذى شاركتُ فيه هناك لمدة شهرين عام 2018. وخلال هذه الفترة لمست اهتمامها بالثقافة العربية وعرفت منها أنها زارت مصر أكثر من مرة وتعرفها جيدًا.

لم تشارك ستيروبولوس فى معرض القاهرة الفائت، والذى كانت اليونان ضيفة الشرف فيه، لذا أجريت معها هذا الحوار عن روايتها عبر البريد الإلكترونى، وكان سؤالى الأول لها عن الدوافع التى أغرتها بكتابة رواية عن قسطنطين كفافيس، ففاجأتنى بقولها:

بدأ كل شىء قبل سنوات عديدة، عام 1984. كنتُ وقتذاك الملحق الثقافى لسفارة اليونان فى إيطاليا وأقمت معرضًا مخصصًا لكفافيس فى قصر فينسيا بروما. بينما أفتش فى الأرشيف، عثرت بالصدفة على إشارات لهذه الرحلة التى قام بها لباريس ولندن عام 1897؛ أول وآخر رحلة عطلة فى حياته. كان هناك قليل جدًا من المعلومات عنها، كفافيس نفسه لم يترك أى أثر مدون عنها، ولا ملاحظة خاصة. ماذا فعل كفافيس فى باريس؟ مَن قابل؟ هذا الفراغ فى المعلومات هو ما حفزنى.

بدأتُ التفكير فى هذا الشاب (الذى نعرف جميعًا مساره المستقبلى جيدًا)، رحلته القصيرة لباريس فى لحظة خاصة جدًا فى الزمن، شغفه بالشعر، توقه الشديد وانشغاله بالعثور على صوته الخاص.

وكيف كان معذبًا برغباته الجنسية المحرمة فى ذاك الوقت. بدأتُ فى تخيله فى مفترق الطرق الفريد هذا: الإسكندرية فى الخلفية، نائية وكوزموبوليتانية معًا، واليونان أبعد حتى من الإسكندرية محطمة ومهانة مرة أخرى (وقعت حرب الثلاثين يومًا قبل شهر واحد)، وأخيرًا باريس، مشعة، فى قمة مجدها.

كتبت لاحقًا فيلمًا وثائقيًا عن كفافيس للتلفزيون الفرنسى لبرنامج «قرن من الكُتَّاب»، وظل هذا السؤال يعاودنى. كانت باريس، فى السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، قِبلة الطليعيين، المكان حيث يقيم ويبدع أمثال مارسيل بروست وإريك ساتى وإدجار ديجا، حيث وُلِدت الحداثة. ما أثارنى كان لقاء كفافيس؛ الخجول والمرتبك والمقموع فى حياته الخاصة والمعذب بالتناقضات والشكوك، بهذا العالم البراق.

أفهم من هذا أن تركيزك فى الرواية على هذه الرحلة تحديدًا نبع من رغبة فى ملء هذا الفراغ وهذه الثغرة عبر الخيال؟ 
اختيار التاريخ كان تعسفيًا اعتباطيًا لكن فى النهاية، كما يحدث دائمًا فى حالة الكتب، كان هذا هو الخيار الجيد. بالعمل على هذه الرواية وصلت إلى خلاصتين، لهما ذات علاقة بأهمية سنة 1897 بالنسبة لكفافيس كشاعر وكشخص. أولًا، فقط بعد هذا العام أصبح هو الشاعر الذى نعرفه ونعجب به. هجر الغنائية نفض عنه تأثير الرومانتيكية.

وطوّر صوته الخاص المميز، الذى فيه يُعبَّر عن المعانى المركبة بأسلوب عارٍ وواضح. كشاعر، نضج كفافيس ببطء شديد. كان مهووسًا بالكمال الشكلى. تخيلى فقط أن قصيدة «المدينة»، المذكورة فى الرواية، أخذت منه عشر سنوات لإكمالها.
الشاغل الثانى هو حياته الخاصة. بحلول عام 1897، كان كفافيس قد تقبل مثليته، مع أنه من الناحية الاجتماعية كان تقليديًا  وقديم الطراز. برغم كونه ربما معذبًا وكتومًا بشأن رغباته الإيروتيكية، كان كفافيس فى طريق الوصول إلى نقطة على مسار تطوره كشاعر، حيث كان قادرًا على الكتابة عن هذه الرغبة بانفتاح وبطريقة مباشرة وغير اعتذارية. موحدًا بين شغفه بالحضارة الهللينية الماضية وشغفه بالرجال فى قصائد تواءمت مع مقاييسه الفنية الصارمة للنشر.

 قراء كفافيس سوف يلاحظون أن قصائده كانت مصدرًا أساسيًا لك خلال كتابة روايتك. بخلاف القصائد التى ذكرتيها صراحة مثل «المدينة» و«عندما تخلت الآلهة عن أنطونيو»، تذكرت قصائد أخرى خلال قراءتى لمشاهد معينة من الرواية.

وشعرت بالفضول لمعرفة مصادرك الأخرى إضافة إلى شِّعر كفافيس، ماذا كانت هذه المصادر؟ وهل كانت مهمة إعادة تشييد هذه الأيام الثلاثة المنسية فى حياة كفافيس صعبة بالنظر إلى أنه لم يكتب أى شىء عن زيارته لباريس؟
لم تقتصر مصادرى على أرشيف كفافيس فقط، لكن امتدت لكل أنواع المعلومات والكتب والخطابات والسرديات الخاصة والصور والوثائق: روايات من القرن التاسع عشر، كتب عن التاريخ السياسى والاقتصادى لمصر، والمجتمع اليونانى فى الإسكندرية، عن الحياة الفنية فى باريس، والتحول المدينى للمدينة فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وعن قضية دريفوس، وعن الحرب اليونانية التركية عام 1897، الخ. وبالطبع زرت الإسكندرية وباريس مرات عديدة.

لأسباب كثيرة، شعرتُ خلال القراءة أن بطلك ليس كفافيس الواقعى، وإنما شاعر مُخترَع يشترك مع كفافيس فى العديد من الأشياء، لكنه يختلف عنه فى غيرها. هل تتفقين معى إن قلت إن الرواية بالأساس هى صورة للفنان (عمومًا) فى شبابه؟
  أنت على حق. أنا سعيدة لأنكِ لاحظتِ هذا. هذه ليست رواية تاريخية ولا بيوجرافيا تخييلية. إنها بالأساس عن تكوين الفنان. على المرء قراءة الكتاب كثلاثة أيام قضاها فى باريس فى شهر يونيو من عام 1897 شاعر شاب طموح من الإسكندرية: إنها رحلة قصيرة للمتعة.

وفى نفس الوقت عملية استهلال سيتابعها القارئ إلى جانب الرجل الذى سيصبح لاحقًا الشاعر قسطنطين كفافيس. إذا قرأنا قصائد كفافيس قبل 1897، تاريخ الرحلة، فهى فقيرة ومتوسطة القيمة وخرقاء باستثناءات معدودة. ثم، بعد سنوات قليلة، توجد قفزة هائلة للأمام فى كتابته. ما يفتننى، كيف لفنان، لشاعر لا يزال غير مكتمل حتى سن الرابعة والثلاثين، لشخص محافظ وغير مغامر، لكنه مهووس بشغف الكتابة.

ومعذَّب باشتهائه للرجال فى وقت لم يكن فيه الإعلان عن هذا مقبولًا ولا متخيلًا: كيف له أن يقوم بهذه القفزة الهائلة للأمام؟ كيف أصبح كفافيس الذى نعرفه الآن؟ هذه الإنجازات لا تحدث فى الفراغ. بل تجر خلفها العديد من المحاولات المجهضة والإخفاقات واليأس والبؤس.

شعرت بأن هناك نوعًا من التهميش المتعمد لدور الإسكندرية فى حياة كفافيس وتأثيرها على كتابته لصالح باريس. أيمكن أن تكون زيارة مدتها ثلاثة أيام لمدينة ما نقطة تحول فى حياة وكتابة شاعر، وخاصة شاعر مثل كفافيس الذى جعل من الإسكندرية مكانًا أسطوريًا وقدَّرها هى وكل المدن الهللينية القديمة أكثر من تقديره لأى مدينة حديثة بما فى ذلك باريس؟

لا أعرف كيف نُقِلت الرواية فى الترجمة العربية، لكن الإسكندرية حضورها بارز فى الكتاب. الأماكن والمتنزهات وبيوت العائلة وسرديات الجالية اليونانية، مشاهد من طفولته حتى العام الذى تدور فيه الرواية، يوجد الكثير منها فى الكتاب. لكن بالطبع، ليس بطريقة تعليمية (أقصد ليس بطريقة أو فى ضوء القصائد التى ستُكتب لاحقًا) لأن هذا سيكون غير مقبول لى ككاتبة. ولا تنسى أن حاضر الرواية هو يونيو 1897. أى تنبؤ بكفافيس المعيارى أو النموذجى كانت خارج هذا. الصورة السائدة لدينا عنه هى عن شاعر خلال مرحلة نضجه، شخص عجوز بالفعل، وناءٍ. كنت مهتمة بكفافيس قبل أن يصير كفافيس، مرحلة العبور من الشاعر الشاب إلى الشاعر الناضج.

بالنسبة لباريس، يظل كفافيس نقديًا لها ولأجوائها بدرجة كبيرة على مدار الرواية. «ما تبقى من الليل» تتمحور حول صراع، تنقيب شخصى. واحد من الأسئلة المطروحة فى الرواية: كيف يمكن للمرء أن يكون شاعرًا حديثًا، مجددًا فى شِّعره، حينما يشعر بسبب شخصيته وتعليمه بأنه مُهيمَن عليه ومتحكم به من محيطه العائلي؟ رؤية هذا على نطاق أوسع، يثير أسئلة أبعد: كيف يصبح المرء شاعرًا، فنانًا؟ أو ربما أبعد حتى: من أين ينبع الفن؟ ما مصادره؟

توجد قصيدة من تلك المرحلة بعنوان «نصف ساعة»، واحدة من «القصائدة المخبوءة» التى رفض كفافيس نشرها خلال حياته، ظلت برفقتى دائمًا، خاصة هذه السطور: 
«لكن نحن الذين يخدمون الفن.
أحيانًا بقوة العقل نستطيع أن نخلق، لكن طبعًا لفترة قصيرة فقط،متعة تكاد تبدو جسدية.»
الرغبة يتم تحويلها والإعلاء منها لتصبح قوة محركة فى قصائد كفافيس. ما أثار اهتمامى من البداية كان أن ألتقط تلك اللحظة الاستثنائية التى تتحول فيها الرغبة الجسدية إلى قوة دفع إبداعية. غالبا، بطريقة غير واضحة أو عمدية، كان كفافيس فى هذه اللحظة الانتقالية عام 1897 بالنسبة لى، ذريعة وفرصة معًا لاستكشاف وتفحص العلاقة بين الرغبة الجسدية والإبداعية الأدبية. هذا طبعًا افتراض لاحق.


ما قصدته بتهميش الإسكندرية، مختلف عما وصلك. حضور الإسكندرية بارز بالطبع فى الرواية كما يفترض به أن يكون فى ما يخص كفافيس، لكن ما قصدته تهميش صورتها فى عينيه بروايتك، وهو ما بدا لى مختلفًا عن صورتها فى قصائده، خاصة تلك القصائد التى تركز على ماضى المدينة المجيد.


  فهمت قصدك، لكن هذه القصائد لم تكن قد كُتِبَت بعد، كما لم يكن تصور كفافيس الخاص للإسكندرية قد تشكَّل فى 1897. سيكون رهانًا سهلًا للرواية أن تستبق وتتنبأ وتفرض رؤى كفافيس الناضج على الشاعر المرتبك الناشئ الذى كانه عام 1897. تركز اهتمامى بالضبط على لحظة الانتقال. هل لديك فكرة عن قصائده قبل 1897؟ باستثناءات قليلة (الحوائط وعدة قصائد أخرى) كانت قصائد بدائية، مدرسية ومتوسطة القيمة عن قطة أو أم... الخ. المشهد عن الشرارة الأولى التى نتج عنها لاحقًا قصيدة «عندما تخلت الآلهة عن أنطونيو» كان أقصى ما سمحت لنفسى بالذهاب إليه فى ما يخص مستقبل كفافيس.


الرواية شعرية بدرجة ملحوظة فى بعض مواضعها، شعرتُ بأننى أقرأ قصيدة. فى رأيك، كيف تأثرت كتابتك كروائية بكونك شاعرة؟ ما الذى أضافه الشعر لكِ؟ وما الذى يمكنه إضافته إلى فن الرواية عمومًا؟


  حين أعمل على كتابة قصيدة، أدرك أن هذا دائمًا مسار باتجاه التجريد والدقة، يتمحور الأمر هنا حول الاستبعاد والحذف أكثر من تمحوره حول الإضافة. غالبًا ما أضبط نفسى أحاول كتابة سرد  بمتطلبات الشِّعر وفى هذا نوع من الاستشهاد والعذاب. 

لقد أحببت القراءة منذ كنتُ صغيرة جدًا، وتمثلت محاولتى الأولى للكتابة فى السرد وليس الشِّعر. كنتُ فى الثامنة أو التاسعة، وخلال عطلة عيد الميلاد، وكنت فى الغالب أشعر بالضجر فى البيت، بدأت بكتابة قصة بوليسية على ظهر ورق تغليف. لا أتذكر إن كنت أنهيتها أم لا، لكن ما أتذكره هو ما شعرت به خلال الكتابة: كان شعورًا بالوفرة والاكتمال، ما يقارب مذاق السلطة وعزلة رائعة.

بعد هذه المحاولة الأولى، كتبت قصائد فى الغالب. كنت مراهقة خلال سنوات الحكم العسكرى فى اليونان، كانت الكتب مهمة جدًا ومن الصعب العثور عليها، معظمها كان ممنوعًا، كل كتاب حصلت عليه كان نِعمة حقيقية. كان الشعر آنذاك أهم بكثير مما هو اليوم. 

لقد كرهت المدرسة، كرهت تلك الساعات اللانهائية المملة فى الفصل حيث كنت أشعر بأن العالم يغرق فى ضوء عفن موحل ويمتصنى بداخله. فى الرابعة عشرة أُهدِيت لى «الأرض الخراب» لـ ت. إس. إليوت فى طبعتها الأصلية. أتذكر قراءتى للكتاب على الكنبة فيما آكل الكعك. بعدها قرأت «أناشيد» عزرا باوند، وقرأت كفافيس وجورج سيفيريس و إى. إى. كامينجز. عالم جديد كان ينفتح أمامى. كان الشعر فِعْلًا، بدا هذا جليًا لى. كان حليفًا، وسلاحًا ودِرعًا.

لكن الشعر أيضًا حبيب لا يمكن التنبؤ بتصرفاته. بعد سنوات طويلة من كتابة الشعر وحده، كانت هناك انقطاعة، انقطاعة أشبه بالمونتاج فى فيلم. أتى عليّ وقت كتبت فيه روايات وقصصًا قصيرة فى معظم الأحوال.

وعلى الرغم من قراءتى دائمًا لشعراء آخرين، ومن أننى غالبًا ما كنت أدمج على نحو مرهف سطورًا شعرية أو حتى قصائد كاملة فى ما أكتبه من سرد، كنت أكتب شعرًا أقل فأقل. شعرت بأن الشعر قد هجرنى. ثم فجأة، بعد وفاة أمى، ركض الشعر عائدًا إلى باندفاع. كتابى الأحدث “Man Overboard” كان ديوانًا، مرة أخرى. كتابى القادم «نهاية العالم»، سيصدر فى الخريف، مجموعة قصصية. لا أعرف إن كان الشعر سيعود مجددًا أم لا! أو متى سيحدث هذا!

فى 2018، حين كنا معًا فى شنغهاى، قال الروائى اليونانى ديمتريس سوتاكيس فى واحدة من الندوت التى جمعت بيننا إن من الصعب أن يكون المرء كاتبًا يونانيًا معاصرًا، لأن الكتاب اليونانيين سيبقون دومًا فى ظل أسلافهم العظام. 

ما الذى يمكن أن يكتبه كاتب يونانى بعد هوميروس؟ هل تتفقين معه؟ وفى حالة مخالفتك له، ما التحديات الأساسية التى تواجه كتاب اليونان اليوم؟
  يوجد جزء من الحقيقة فى ما قاله ديمتريس. لكن لا أظن أن علينا إلقاء اللوم على الظل الهائل لأسلافنا العظام. تكمن المشكلة فى ما أسميه «إكراهات الإغريقية»، وهى مسألة صور نمطية. حتى اليوم تُحاصَر صورة اليونان فى نوعين من الصور النمطية: من جهة، أسطورة الحضارة القديمة، تماثيل الرخام، قليل من يوربيدوس وإسخيلوس ومن جهة أخرى.

ثقافة الشمس والشواطئ ودجاج السوفلاكى. إضافة إلى هذا، الصور النمطية ذاتها يُبحَث عنها فى رواياتنا وحينما لا يجدونها، تُرفض الكتب باعتبارها غير ممثلة للثقافة اليونانية. حدث هذا لى مرات عديدة. اليونان الحديثة بلد حيوى،  دائب الحركة، عارم، مرهِق ومتعدد الثقافات، ويستحق أدبًا على نفس القدر من القوة والحيوية، ولماذا لا يكون مناقضًا وفى صراع مع الماضى، وليس بأى حال أدبًا تقليديًا!

هل ترين نفسك فى سياق هوميروس وسوفوكليس وغيرهما من أسلاف عظماء؟ أم تفضلين أن تضعى نفسك فى سياق مغاير، لا يعتمد بالضرورة على الجنسية أو اللغة الأم؟
لم يخطر هذا ببالى من قبل! المهم بالنسبة لى استمرارية اللغة. أكتب باليونانية، أحلم باليونانية. عالمى، ووجودى الجسدى شُيِّدا بهذه اللغة. فيها أعثر على حريتى.
 

اقرأ أيضا | محمد يادم يكتب :التضحية بالأبناء.. بين أجاممنون وإبراهيم (عليه السلام)