محمد سليم شوشة يكتب: دلشاد: سرد ملحمي حافل بجماليات المفارقات والتحولات

محمد سليم شوشة يكتب: دلشاد: سرد ملحمى حافل بجماليات المفارقات والتحولات
محمد سليم شوشة يكتب: دلشاد: سرد ملحمى حافل بجماليات المفارقات والتحولات

الخطاب الروائي رسم للفقر صورا عديدة وليس الصورة المعتادة أو النمطية والمكررة للفقر، بل هناك أنماط وأنواع للفقر فى هذه الرواية هى بذاتها تحتاج إلى دراسة

تمثل رواية دلشاد للروائية العمانية بشرى خلفان واحدة من الروايات العربية المهمة والثرية الصادرة فى 2021 عن منشورات تكوين، وهى من الروايات التى يمكن وصفها بأنها ذات طابع ملحمى إذ هى تأخذ سمتا أو شكلا جماعيا فى التعبير عن المراحل التاريخية لحياة مدينة أو حياة مجتمع كامل ولكن عبر حكاية قد تبدو فردية لكنها فى جوهرها تبدو عامة جدا، وتتجه نحو العام والجماعى أو الجمعى بقدر ما قد يتصور المتلقى أنه حكاية خاصة لدلشاد وابنته، وهذا الطابع الجماعى وكذلك البعد البطولى فى الصمود والثبات الإنسانى وقدرة الإنسان على أن يكون متمسكا بالحياة ومؤمنا بها برغم كل هذه الصعاب، كل هذا يجعل شكل الملحمة مكتملة بها، فبحسب تعريف موسوعات المصطلحات الأدبية الغربية والأجنبية فإن الملحمة وإن كانت فى جذورها غنائية أو شعرية فإن الأساسى فيها من المكونات هو الطابع الجماعى والبطولى وكثرة التفاصيل والحكايات وكثرة الشخصيات ونماذج الأبطال، وهكذا تبدو رواية دلشاد التى يبدو من النظرة الأولى أو مع الأجزاء الافتتاحية أن أبطالها كثر وأنها تقوم على تمجيد الإنسان بصورة عامة وصموده فى وجه الموت والجوع والأوبئة والفقر والعرى والمرض وقلة المأوى والعجز أمام قلة المعرفة أو العلم وقلة الزاد وكذلك تمجيد الإنسان فى صموده أمام اليتم والفقد والاضطرار للسفر أو مواجهة آثار الحرب والاضطرابات والأزمات الإنسانية.

بالبحث والفحص فى المكونات البنائية والقيم المتكررة أو الوحدات المهيمنة على خطاب الرواية أو تحديدا الوحدات التى تحدد هوية النوع الأدبى وتفرز خصوصيته نجد أنها بالفعل رواية عن حكاية المكان وحكايات المدن وصمود البشر والجماعات الإنسانية فيها وكيف يمرون عبر كل ما يحيط بهم ويهددهم من الآلام والخسارة والمخاطر. حكايات عن مسقط المدينة بوجهها الإنسانى والمتغلغل فى الزمن وعلاقتها بالبحر والميناء والتجارة والحرب والسياسة والأوبئة والحرب العالمية.

وتنازع القوى الكبرى على مناطق النفوذ وممرات التجارة ومعابرها، كيف تكون مجموعات البشر والناس صدى لكل هذه اللوحة الإنسانية الشاملة الحافلة بالحركة والحيوية، وكيف يتبدى الوجه النابض والحيوى لمدينتى مسقط ومطرح وكيف شكلتهما محددات كثيرة مرت بهما.

وكيف تكون الجغرافيا موجهة للبشر وصانعة للتاريخ ولو بدون وعى واضح وحاسم من البشر، كيف يكون تاريخ البشر فى المدينة محكوما بحركة التجارة والعلاقة بالمناطق المجاورة وبلدان توريد السلع وكيف حالها مع الصيد والبحر والسفر والرحيل وفترات الازدهار أو التبادل التجارى الواسع.

ونقيضها الآخر من فترات الحصار والجفاف وقلة الزاد أو التنوع السكانى على أكثر من مستوى، بين أحياء فقيرة وأخرى غنية، أو تنوع على أساس عرقى ولغوى وكيف يكون التعايش مع كل هذا التنوع وكيف تكون فى ظله وظلاله حركة البشر وأنماطهم. 


ليس من الدقة فى شىء أن نحصر - من منظور القراءة النقدية - رواية دلشاد فى حكاية دلشاد وعائلته أو امتداده، أن نراها فقط فى محدودة بشخصية دلشاد اليتيم أو (الغبن) أو نتاج الاغتصاب، أو ذلك الإنسان الفقير الذى عاش أغلب حياته بلا أم أو أب بيولوجيين وشاع وانداح بين أحضان الفقراء ليكون ابنا للجميع، أو ليكون مزيجا من تراكب واندماج هذه الطبقات الفقيرة من العرب والبلوش ليعبر عن الروح الجماعية أو عن الانصهار التام، ليس من الدقة أن نكون محصورين فى تلقينا للحكاية فى شكلها وحدودها الفردية.

وأن ننظر لها على أنها حكاية دلشاد وابنته مريم والحفيدة فريدة، فهذا مما يجعلنا نغفل الكثير من جوانب الرواية على المستويين الجمالى والدلالى أو الرسائلى، فهى حكاية عامة وجماعية وملحمة بطولية للإنسان وبخاصة الطبقات الفقيرة فى صمودها وثباتها وآلامها وما شكل نسيجها وثقافتها من المعارف الموروثة.

ولكن المعادلة الجمالية الأهم لهذه الرواية أنها تمكنت من قول العام عبر هذه الحكاية الخاصة أو التى تبدو خاصة أو عبر التركيز على هذا الخيط الخاص المتمثل فى دلشاد ونسله البسيط أو غير المتشعب.

والحقيقة أن هذا التركيز على الخط أو الخيط الدرامى الخاص يجعلها أكثر تماسكا وأكثر حميمية وأقرب إلى نموذج البطولة الفردية التى فى ملاحم اليونان، لأن التشعب الكثير كان سيفرق ويشتت هذه البطولة ويجعلها موزعة على أكثر من شخصية أخرى من الأبناء والأحفاد، أما أن يكون نسل دلشاد محدودا بمريم فقط التى شابهته أو كانت مثيلا له فى اليتم والفقد وأنها تغذت على لبن أمهات كثيرات فى حيها الفقير وتربيتها على يد (ما حليمة) التى هى بدرجة ما أقرب إلى روح جماعية ورمزية لحماية اليتم وربما يكون فيها امتداد أو جذور لحليمة السعدية مرضعة النبى عليه الصلاة والسلام ولو بشكل غير واع.

لكنها نموذج إنسانى يبدو متجاوزا لأبعاده الفردية لأن يصير درعا حامية ضد اليتم وتمثل وقاية لكل هؤلاء اليتامى وهى كذلك دالة على أن هذه المجتمعات إنما كان الدور الأبرز فى حفظها للمرأة، فهى دالة على نموذج أقرب لأن يكون أسطوريا من المرأة التى حفظت المجتمع ومدت روحه بأسباب البقاء والاستمرار.


ومن القيم الجمالية المهمة لهذا النوع من السرد الملحمى ما يمكن وصفه بالأثر التطهيرى Catharsis Effect وهو المعروف فى المفاهيم الأدبية منذ أرسطو والحقيقة أنه يبدو قويا فى تجليه فى مثل هذه الخطابات السردية الممتدة أو الملحمية ذات التنوع الإنسانى الكبير التى تقارب حالات من المعاناة والألم أو المآسى وتبرز فى مقابلها حالات الصمود والثبات أو المقاومة.

فهذه الحالات الاستثنائية من الألم نتيجة الفقر والجوع والعرى أو اليتم والفقد إنما تترك أثرا تطهيريا لدى المتلقى الذى يشعر حتما بقيمة ما يملك أو يدرك من حجم معاناة الشخصيات حجم ما لديه من المزايا والنعيم أو يشعر بكثير من السلوى، وربما كذلك يشعر بالراحة حين يتضامن مع هذه الشخصيات أو يتحد معها عاطفيا، وكلها آثار أو تبعات نفسية لا يمكن إغفال انعكاسها على المتلقى. 

فى الرواية كذلك تمثيل بارع لحالات عدة التصوير الإنسانى، حالات ترتبط بالعمل والكفاح أو حالات من المرض أو التجارة أو السفر، أو ما يرتبط بالبحث عن العلم أو نماذج التعليم والمعرفة والطموح العلمى لدى بعض الشخصيات مثل الماستر على وابنه قاسم وحالة فريدة، كما فيها كذلك تمثيل لحالات من الأمومة أو لنماذج إنسانية أخرى مثل الصداقة أو الإخلاص فى العمل، وكذلك حالات من العشق والحب، وكذلك التدين أو الانشغال بالوطن والسياسة أو غيرها الكثير.

وهى كلها دالة على اتساع عالم الرواية وأنها قاربت أشكالا عديدة من النماذج الحياتية، حالات من الاستعباد أو التأثر بالحرب العالمية وكذلك التفوق المعرفى للمحتل الأجنبى أو للاستعمار، وما يمثل شكلا من أدب الاستعمار post-colonial literature ذلك لأن الفصل الخاص بصوت خلف بن سويلم عقيد العمال أو الأنفار الذين عملوا على مراحل تمهيد وإنشاء مطار عسكرى للإنجليز فى مطرح وقت الحرب العالمية الثانية هو من أهم الفصول فى الرواية لأنه يرتبط أولا بالسياق العام سياسيا وثقافيا واجتماعيا.

ويجعل لوحة عالم الرواية وتفاصيلها مرتبطة بعالم أوسع أو مشكلة فى إطار بنية كونية أشمل وهو ما يجعلها أكثر دلالة على ذاتها أى تبدو أكثر وضوحا، لأن الانحصار داخل حدود الخاص أو الدولة فقط يقلل من فرص استيعاب طبيعة هذه الحياة العمانية التى قاربتها الرواية، فيمكن القول بعبارة أخرى أن هذا التاريخ الخاص بعمان.

ومدنها وبشرها إنما يكون أكثر وضوحا فى إطار الصورة العامة والتاريخ العام وتقاطع هذا مع ما يحدث فى العالم الخارجى، ولهذا فإن رصد ظلال الحرب بصورة غير مباشرة أو مباشرة أحيانا هو من المكونات والوحدات السردية التى تشكل أهمية خطاب هذه الرواية.

وقد كانت هناك ظلال غير مباشرة رأيناها فى الكساد التجارى وفى تضاعف حالات الفقد واليتم والخسارة، فقد تجلت ظلال الحرب العالمية الثانية تحديدا فى الرواية عبر أثرها فى عائلة لوماه، لكن عمق الصدمة أو ذروة الأثر السلبى تجلت فى مقتل عبد اللطيف لوماه فوق سفينة القار التى كانت واقفة فى ميناء مسقط ليخلف الفقد واليتم لفريدة.

ويعيد مريم دلشاد إلى فقرها ومعاناتها المتجذرة ويضاعف عليها إحساس الخسارة وينبهها إلى كل ما سبق من فقد فى حياتها، والأمر ذاته بالنسبة لناصر الذى صار وحيدا بلا أب بموت أبيه فى الحادثة نفسها مع عبد اللطيف لوماه، لكن الأثر الأهم فى الرواية هو ذلك الذى جاء عبر صوت خلف بن سويلم وهو يصف حال العمل والعمال العمانيين فى تمهيد أرض المطار فى مصيرة لسنتين من العمل الشاق الذى يبدو قريبا من أثر شق قناة السويس على العمال المصريين فى مصر، حيث فقدوا بعضهم من العطش.

والنقطة الأهم وهى المشكل للأثر الجمالى الأبرز فى هذا الفصل تتمثل فى تشكيل صورة الرجل الغربى المتفوق بآلاته وأسلحته وطائراته وحتى لغته، فهو الذى يعتز بلغته وينعت الآخر بالجهل ويراه بلا قيمة كبيرة.

ومشهد العمال تحديدا وهم يفرون فى اتجاهات متفرقة بعشوائية من الطائرات الحربية الإنجليزية أو من بعض التدريبات أو شكل الطائرة وإحساسهم تجاه هذه الآلات والمعدات الحربية وصورة الرجل الإنجليزى الذى يأكل الشوكولاتة ويأكل وجبات منتظمة ويعيش فى مساكن آدمية كلها تشكل صورة المفارقة مع العمال الذين يعيشون فى عرى ويقتاتون على أقل القليل من التمر ويموت بعضهم أحيانا من العطش أو قتلا فى ظروف غامضة مثل شخصية خالد محمود الذى ألمحت خطاب الرواية إلى كون الرصاصة جاءته من الخلف.

وألمحت إلى أشياء أخرى عن علاقته بالضباط الإنجليز واحتمالية استغلالهم له جنسيا فى نوع من البراعة التى صنعت تعاضدا دلاليا يتجاوز المباشرة إلى التلميح وأن يكون المتلقى شريكا فى إنتاج الدلالة. لكن التفوق والاستغلال وغيرها من العلامات الثرية التى جاءت فى هذا الفصل رسمت وشكلت ملامح الحرب.

وآثارها على الإنسان العمانى بدرجة كبيرة من البراعة وجعلت الرواية متنوعة فى جوانب عالمها ومتكاملة فى أبعادها ويفسر بعضها بعضا. يقول خلف: تعلمت الـ(يس سير، نو سير)، وأنا أسوق الأنفار ليعملوا تحت الشمس الحارقة وإمرة الضباط الذين يتحدثون من طرف أنوفهم.

ويأمرون فيقع الخوف فى القلب من نظرتهم، دون أن يرفعوا أصواتهم بالزعيق. ونجد أن السرد هنا يعمد إلى لغة تكثيفية تتعاضد وتتعاون الصور البلاغية والأساليب البيانية الناعمة أو البسيطة فى تكثيف هذه الحالة من القهر والغلبة والشعور العميق بتغلب الرجل الغربى.

فقد ساوت اللغة بين الشمس الحارة والعمل تحت إمرة الضباط، فجعلت الاثنين مرتبطين بفعل واحد وأثر واحد، ثم جاءت الكناية فى يتحدثون من طرف أنوفهم وقدر ما يقع فى قلوب العمال من الخوف من نظرتهم لتؤكد هذه الحالة وتعمقها، ورصدها من زاوية عقيد الأنفار أو قائدهم يعمق من بلاغة التصوير.

ولغة الخطاب السردى الذى يصبح كل عنصر فيه مترابطا ومتناغما مع الآخر من حيث الوظيفة أو من حيث الأثران الجمالى والدلالى. واعتمد الخطاب فى هذا الفصل ربما مثل كثير من الفصول الأخرى على المفارقة ليشكل حالا كاملة من التباين أو التعارض الإنسانى بين عالمين فى أقصى درجات التناقض أو الاختلاف بينهما.

وذلك حين يقول الخطاب على لسان خلف: كان لكل واحد منهم شارة ورتبة، ولكل واحد منا إزار وخرقة على رأسه وفى يديه قفيره وفأسه. 
وكذلك فى هذا الجزء حين يقول: كان السيح مشاعا للذئاب والحصينيات والأفاعى، ولم يكن يخيفنا شىء مثل هدير الطائرات التى كانت تحلق قريبة من رؤوسنا أحيانا، حتى أننا كنا نظن أن الإنجليز سيستخدموننا كأهداف يتمرنون عليها، وعندما يحدث ذلك كنا نركض فى المكان غير مدركين الاتجاهات.

بينما كان الضباط الإنجليز يضحكون من خوفنا ويتسلون بنا. ليعمق هذا المقطع حالة الهلع والخوف من تفوق المحتل، وليكشف عن أن الفقر المعرفى وغياب الوعى أو قلة العلم بالأمور والإحاطة بالأشياء كان من أبرز مظاهر الضعف الإنسانى التى عانى منها هؤلاء العمال.

وهى حالة دالة على عمق المأساة وعمق الأثر النفسى للمحتل ليتشكل عبر كل هذه الأدوات والأبعاد التى رسمها الخطاب الروائى فى عالمه حالات من الضعف الإنسانى التى تستفز مشاعر التعاطف والشفقة والانحياز لدى المتلقى.

وتعمق أبعاد اللوحة التاريخية لأن التاريخ حينها لا يكون مجرد حدث كلى أو كبير أو أزمة عالمية أو جائحة أو حرب عالمية، بل يكون التاريخ بصورته الحقيقية متجليا فى مرآة الإنسان أو فى أثر الندبة التى صنعها أو خلفها فى وجه الإنسان أو طبعها على قلبه.   


من المواطن المهمة جماليا وذات القيمة الكبيرة إنسانيا والمشكلة لقدر كبير من خصوصية هذه الرواية وتسهم فى صناعة تفردها أو تميزها الأدبى تلك النقطة الخاصة بتنامى وعى الشخصيات عبر الزمن أو عبر ما مروا به من التجارب الإنسانية.

ومثال ذلك واضح بقوة فى النسق المشكل لوعى شخصية مريم وتحولاتها المعرفية، فهى تبدو مثل من يستكشف الكون ويعرف معانى الأشياء وأسماءها وتتسع مداركها تدريجيا حين تترك حارتها الفقيرة وتبدأ فى العيش داخل بيت عبد اللطيف لوماه، وهنا تتشكل مفارقة شفيفة.

وغير مباشرة وعلى قدر كبير من البراعة والعبقرية فى خطاب الرواية وهى الماثلة فى علاقة التناقض بين عالم الحارة وعالم بيت عبد اللطيف لوماه، فقد كان عالمها فى الحارة الفقيرة وسط خيام أهل حيها من الفقراء مع أبيها دلشاد كان عالما مفتوحا وتنطلق فيها فى كل مكان وتتحرك ومع ذلك لم تكن تعرف أسماء الأشياء ولا تدرك من العالم الكثير لدرجة أنها كانت قادرة بعد ذلك على إحصاء ما عرفت من أسماء الأشياء أو موجودات الكون، فهى لا تعرف من الطعام أو البهارات أو حتى المفاهيم المعنوية غير القليل جدا.

فكأننا هنا أمام حالة متكاملة من الفقر المادى الذى يرتبط حتميا بفقر معنوى وفقر لغوى وإدراكى، على النقيض من ذلك فى بيت عبد اللطيف لوماه المغلق عليها دائما ولا تغادره أبدا عرفت كل شىءوأدركت أسماء الأشياء وعرفت البدر وأسماء البهارات والأكلات وعرفت أسماء عديدة للنار وعرفت الدين أو أمورا كثيرة من خبرات البشر فى العبادة والدين والأمثال والثقافة الشعبية والتعبير عن الحب والكراهية وغيرها الكثير من المدارك التى تفتحت كلها فى بيت مغلق عليها ولا تغادره.


ومن هذه النقطة ننتقل إلى قيمة جمالية أخرى فقد جسد الخطاب الروائى ورسم للفقر صورا عديدة وليس الصورة المعتادة أو النمطية والمكررة للفقر، بل هناك أنماط وأنواع للفقر فى هذه الرواية هى بذاتها تحتاج إلى دراسة.

وأتصور أن هذا شكل من البلاغة والبراعة السردية لأن الخطاب صار بإمكانه أن يقارب مظاهر عميقة ومتعددة للفقر فى الحياة أو الوجود وأن يتتبعها كلها، أو أن يجعل منها زادا لتنويع نسيجه أو تلوينه وجعله يتجاوز الشكل الأحادى أو النمط الواحد، فهناك الفقر المعرفى والفقر العاطفى والفقر إلى العزوة والسند وقلة الحيلة كما نراه فى حالة الأيتام الكثيرين الذين قاربت الرواية أحوالهم.

والطريف أن تكون كل هذه الشخصيات والأنماط الفقيرة هى نفسها قادرة على أن تمنح بعضها أو تكون قادرة على العطاء برغم ما لديها جميعا من الفقر أو الحاجة والمعاناة، فشخصية ما حليمة نفسها كانت فى أزمة أو إشكالية وفى فقر ليس ماديا فقط ولكن فقر إلى الزوج والحبيب الذى هاجر.

وتركهم أو تعلل بزيارة أمه وذهب ولم يعد مرة أخرى تاركا وراءه ثلاثة أبناء وزوجا تعيش مع أمها العجوز، وبرغم ذلك كانت قادرة على استيعاب دلشاد وتربيته وتحمله، ومريم دلشاد نفسها برغم فقرها العاطفى ويتمها كانت قادرة على منح الأمومة والحب لناصر الطفل اليتيم الذى رافق ابنتها.

وهناك مشهد فى غاية البراعة والجمال عن ناصر الذى لم يكن يعرف اسم أمه وكيف قارب خطاب الرواية هذه اللمحة أو الإشكالية النفسية لديه حين سألته مريم عن اسم أمه ويفاجأ بأنه لا يعرف ثم بعد ذلك حين تحتويه فى حضنها وتضمه إليها يدرك وهو فى هذه اللحظة من الحنان لماذا لم يكن يعرف اسم أمه.  

ليكون الخطاب السردى قادرا على سبر حالات إنسانية متنوعة ويغوص عميقا وراءها ويرسم ملامحها بدقة وبلغة تنضح بالعاطفة وتجاوز الجمود أو الرتابة، وهى أمور تجعل ماء الحياة تسرى فى روح الخطاب السردى وتجعل عالم الرواية فى أقرب صورة إلى الحياة بحقيقتها وعمقها وهى متبلورة فى مرآة الوجدان الإنسانى أو وهى ماثلة فى مشاعر البشر وأحاسيسهم، فلا تكون مجرد أحداث أو تحولات أو طابع ديناميكى وحركى خال من النبض، بل يكون هذا الرصد الإنسانى العميق هو الغاية الأهم للخطاب السردى.


والحقيقة أنها رواية ثرية وفيها جوانب أخرى كثيرة يمكن مقاربتها وتحتاج إلى رصد وقراءة نقدية عميقة ومتأنية خاصة ما يرتبط بالأثر الجمالى لتعدد الأصوات ووجهات النظر والشكل البانورامى لعالم الرواية الذى نتج عن هذا التنوع.

وكذلك أمور ترتبط بالإيقاع السردى والتشويق أو ملامح المكان وأشيائه وتوظيف التفاصيل الصغيرة وغيرها من الأمور الكثيرة مثل توظيف الأساطير والموروث الشعبى لدى ثقافة البلوش (هانى وشاه مريد) وغيرها من الحكايات والأساطير وقصص الحب فى الشعر العربى والتراث العربى القديم.

وكذلك اللغة البيانية أو الاستعارية والانزياحات وجدل البلاغى والتداولى فى لغة الرواية مثلما نلمح من بعض التعبيرات المجازية مثل قول دلشاد: قاس هو الجوع.. قاس وقبيح، ومثلى يقف عاريا بلا أب).

وهى تعبيرات شكلت نسقا من التبئير الداخلى أو الذاتى الذى يجعل الأشياء متبلورة فى وجدان البشر ومشاعرهم فتكون صورة الفقر أو الجوع أو المعاناة أبرز وأوضح فى قسماتها وملامحها وكأن مشاعر البشر ولغتهم صارت عدسة أو تلسكوبا ترى فيه الأشياء أو تتضح بصورة مختلفة. أو قول مريم مثلا عن القمر. وكنت أرى القمر القمر مثل خبزة فى منتصف الشهر فأشتهيه.

اقرأ أيضا | أحمد الزناتى يكتب : خابيير مارياس يتحدّث عن نفسه: خلاصات عن الكتابة والعزلة والترجمة