أحمد الزناتى يكتب : خابيير مارياس يتحدّث عن نفسه: خلاصات عن الكتابة والعزلة والترجمة

أحمد الزناتى يكتب : خابيير مارياس يتحدّث عن نفسه: خلاصات عن الكتابة والعزلة والترجمة
أحمد الزناتى يكتب : خابيير مارياس يتحدّث عن نفسه: خلاصات عن الكتابة والعزلة والترجمة

هذا واحد من الكتب التى وددتُ لو أفردت له سلسلة مناقشات، مقتربًا من كل فصل على حده، وخاصة فى الفصل الخاص بأصدقاء الماضى مثلًا أو تأملاته عن السينما. هنا يقدّم الروائى والمترجم الإسبانى الكبير خابيير مارياس مجموعة من المقالات حول علاقته بالأدب والكتابة والقراءة والحياة، وعن علاقة الكاتب أو الفنان عمومًا مع عصره وأعماله. مارياس حاليًا واحد من أشهر الكُتاب الإسبان على قيد الحياة، وهو مرشح دائم لجائزة نوبل منذ سنوات، كما أنه مترجم قدير، وشخوص رواياته تعمل بالترجمة الفورية أحيانًا، وكاتب مقالات من طراز فريد. طالما كرّر مارياس فى لقاءاته الصحفية والتليفزيونية أنّه لا يبحث عن موضوعات لرواياته، فهو يكرّر البحث عن الموضوعات التى تؤرّق ذهنه. أصدر مارياس قبل سنوات قليلة كتابًا يضم مجموعة من المقالات والمراجعات الأدبية، صدرتْ الترجمة الإنجليزية تحت عنوان Between Eternities (طبعة بنجوين)، وهو عنوان إحدى مقالات الكتاب. 

فى المقدمة التى كتبها المحرر ألكسندر جروهمان يقول إن مقالات مارياس هى نتاج شخص يفكر ويحكم على نفسه، شخص غير مقيد بأفكار مسبقة، ونقطة انطلاقه هى مقولة مونتينى الشائعة: ماذا أعرف؟

وليس ما الذى من المفترض أن أعرفه؟ يعطينا مارياس ثمار قراءاته وتجربته للعالم وانعكاسات ذلك عليه، مُقاربًا  مثله مثل مونتينى أعمق الموضوعات بأدنى قدر من الحذلقة. تشترك مقالات مارياس مع مقالات مونتينى فى بحثها عن الحقيقة وحرصها على الملاحظة والتحلّى بروح الدعابة.

والنأى عن الطابع المتكلّف الرسمي. قيل إن مونتينى برغم ارتباطه العميق بالفلسفة الإغريقية والرومانية القديمة كان رجلًا نبيلًا (جنتلمان)، وليس ناقدًا أخلاقيًا؛ مارياس يكتب مقالاته أيضًا كجنتلمان وكمواطن عادى، لا كروائى أو أكاديمي.

وقع اختيارى على ترجمة فقرات بعينها من مقالتيْن استرعتا انتباهى، سأترجمها مُختتمًا بتعليق موجز. كان بورخيس يعلّم تلامذته التعلّق بصفحات بعينها وفقرات بعينها وسطورٍ بعينها، فهذا كل ما نحتاج.

أما المقالة الأولى (بحسب اختيارى، لا وفق ترتيب مقالات الكتاب) فتحمل عنوان: The Isolated Writer، وارتأيتُ أن أترجمها الكاتب والعزلة. يتكلم مارياس عن العزلة فى حياة الكُتاب وضرورتها.          

                  
نقرأ: «أعتقد أن معظم الكتاب يميلون إلى الشعور بالعزلة، أو فى واقع الأمر، ينشدون العزلة، ولا سيما بعد بلوغ سن معينة. ربما لم يكن هذا حالهم فى طور البداية، وعلى الأخص بين من شرعوا فى الكتابة والنشر فى سنّ مبكرة.

فى بواكير الشباب يتحمّس المرء إلى الانضواء تحت لواء جماعة أو جيل أدبى مُجدد و يُفترض أنه يقدم جديدًا. غالبًا ما نحمل شعورًا بالازدراء إزاء أسلافنا، وعلى الأخص من أبناء جلدتنا ومَن يكتبون بنفس لغتنا، فنتحيّز ضدهم.

ونعُدّهم مغرّدين خارج السرب، وأنهم «موضة قديمة»، فاقدين أى شعور بالتعاطف معهم، ومسارعين إلى إقصائهم. كما أننا غالبًا ننكر، فى ظلمٍ بيّن، أى قيمة لأعمالهم ونعدّها مجرد غلطة فى تاريخ الأدب مصيرها النسيان المحقق عما قريب. يقفز الكُتاب الشباب متجاوزين جيل الآباء، مستعيدين جيل «الأجداد» الذين يراهم الشباب ضعفاء لا يشكلون أى تهديد لهم، وفى حالة تراجع. ومع ذلك فإن هذا الشعور بالصداقة الحميمة والصراع، الناجم عن كونكَ جزءًا من موجة جديدة لا يدوم طويلاً.

وحالما يتوقف الكاتب عن النظر إلى الكُتاب الآخرين من حوله، ينقطع عنه الشعور بالقلق بشأن حالة الأدب أو مستقبل الأدب فى بلده وباللغة التى يكتب بها، مُدركًا أن هذا لا يعنيه كثيرًا، فضلًا عن أنها ليست مسؤوليته. بدلاً من ذلك يكرس نفسه لشىء واحد يتحتم عليه أن يكرس له نفسه، ألا وهو تأليف كتابه كما لو كان هو الكتاب الوحيد فى العالم.

عند هذه اللحظة يُطوِّقه شعور العزلة، وهو الشعور الذى يعود سببه جزئيًا إلى أنه اختياره الشخصى، ويعود فى جانب آخر إلى أنَّ الكاتب لا يملك خيارًا آخر لو أراد مواصلة طريقه فى الكتابة. [....]. لا شىء يثير انزعاج الكاتب الحقيقى أكثر من أولئك النُقاد والأساتذة والمعلقين الثقافيين الذين يصرون على تصنيفه أو وضعه فى سياقه أو إيجاد روابط بين عمله.

وبين عمل مجايليه من الكُتاب عبر ربط انتمائه باتجاهات أو حركات أو موضات سردية معينة، أو من خلال وصفه بأنه واقعى أو تاريخى، وما إلى ذلك من ألوان اللغو السخيف الذى ذاع وشاع فى عصرنا الأحمق، أو وصفِه بأنه يحرث فى حقل «التخييل الذاتى».

وهو مفهوم سخيف آخر رائج حاليًا، أو أنه «كاتب ما بعد حداثى»، ولم أعرف ما تعنيه هذه الصفة قط، لكنها، لحسن الحظ، باتت اليوم مهجورة. كل هذه الأشياء تزعج الكاتب، وهو مُحقٌ فى شعوره بالإنزعاج لأنه لن يتمكن من إنهاء كتابه إلا لو كان مسكونًا بإيمان مُصطنع مؤداه أن كتابَه هو الكتاب الوحيد فى العالم.

سيضيع الكاتب لا محالة لو رفع بصره من فوق الآلة الكاتبة أو جهاز الكمبيوتر - ما أزال حتى اليوم أستعمل الآلة الكاتبة- مستشرفًا المستقبل أو متأملًا الماضى ليرى عمله وقد اختُزل إلى مجرد اسم يُضاف إلى قائمة لا نهائية من الكُتب، أو لو نظَر إلى الحاضر مبددًا وقته فى التساؤل: كيف يحرز زملاء المهنة تقدمًا؟ وما الذى يخططون له؟ وما الذى حقّقوه وما مدى جودة إبداعهم ومدى عمقها؟ أو لو وضعَ أسلافه نصب عينيه، أو لو ترك نفسه فريسة لأن تمسك بتلابيبه أعمالُ الماضى الرائعة، فضلًا عن الأعمال التى ستُكتب بلا شك بعد مروره فى هذا العالم. لهذا السبب يحتاج الكاتب إلى عزل نفسه فى أثناء الكتابة.

وغنى عن القول أن نكرر: فى أثناء الكتابة وحدها، لعلمه أن إيمانه، الذى أشرتُ إليه آنفًا، هو مجرد إيمان مخادع مؤقت، ولعلمه أنه فى اللحظة التى يُنهى فيها تأليف كتابه، فيغادر الكتابُ الحجرة ليصير على مرأى ومسمع من الجميع ويُدفع به إلى المطابع سيختفى وسط غيره من آلاف الكتب المنشورة.

وسيرى كتابَه مجرد قطرة فى المحيط، قطرة تبذل قصارى جهدها، مثلها مثل غيرها، لأن تلفت انتباه الناس، وسينتاب الكاتب وقتها شعور أن كتابه مجرد شىء فائض لا لزوم له. يفكر المرء فى قرارة نفسه: أنا موجود فقط فى أثناء عملية الكتابة، أى طالما أن أحدًا لا يمكنه رؤيتى وطالما أن أحدًا لا يعرف ما أفعله. للمفارقة: أنا موجود فقط ما دمتُ أنا وعملى مختبئين، مادمنا غير موجودين حتى الآن للعالم.

وبمجرد ظهورنا سيختفى وجودنا وسنضيع وسط الحشود اللاهثة نافدة الصبر التى تلتهم وتهضم وتفرز كل شيء. كتبتْ إميلى ديكنسون: (النشر مزاد منصوب على عقل الإنسان).

وهى فكرة كثيرًا ما أعود إليها؛ فكرة التواصل التافه مع العالم الخارجى، مع الجماهير، مع ملايين الصفحات المشابهة للصفحات التى كتبناها، وكلها مولودة من رحم الدافع نفسه. إننا نجد أنفسنا محبوسين داخل إطار من التقاليد، سواء أكانت تقاليد متعلقة ببلدنا أم بلغتنا أم بتاريخ الأدب بأسره (كمجرد هامش على تاريخ الأدب من دون شك). 


وأما المقالة الثانية فتحمل عنوان «كتابى المفضّل. لنقرأ الفقرة التالية: «إن مطالبة كاتب باختيار كتابه المفضّل يغريه إما بالكذب وإما بالتباهى، لأنه لو كان صادقًا حقًا (ليس هناك أى سبب يدعوه إلى ذلك، سواء فى ذلك الوقت أو فى أى مناسبة أخرى)، فمن المؤكد أنه سيقول إن كتابه المفضّل هو الكتاب الذى كَتَبه بنفسِه.

لكن الأمر لم يكن هكذا على حد قول الراحل خوان رولفو وهو يتحدث مزهوًا بروايته «بيدرو بارامو»، حينما قال إن جميع الكُتاب إنما يكتبون العمل الذى يرغبون فى قراءته، وإلا فلن يكون هناك عمل جدير بالقراءة، لكن المؤكد أن كُتب المؤلف الشخصية هى تلك التى سيتحلّى فى أثناء قراءتها بأكبر قدرٍ من العناية والصبر والاهتمام والتفاهم والتسامح (وهو يفعل ذلك أحيانًا كما لو أن حياته مرهونة بذلك). وستكون كُتبه – حسبما أفترض - أشدّ ما ترضيه، وإن لم ترضِه فالأولى به الإحجام عن نشرها. 


الكتابة، بإيجاز، هى طريقة القراءة الأشد اكتمالًا والأكثر إثارة للشغف، وهو بلا شك ما يدفع المراهقين ممن يتمتعون بنعمة الوقت، إلى تدوين القصائد التى تروق لهم. ومن ثم فنسخ القصيدة ليس فقط وسيلة للاستحواذ على النص.

وتبنّيه وتكريسه، وإنما هو أيضًا الطريقة المثلى والأدق والأيقن والأكثر تحفيزًا للعقول. برغم ذلك أسعدنى الحظ لأجيب عن هذا السؤال دون الانغماس فى اختلاق الأكاذيب أو حتى فى ادعاء المجد الباطل لأنى ترجمتُ رواية تريسترام شاندى لِـلورينس ستيرن (أو لأنطق اسم الرواية كاملًا: حياة السيد النبيل تريسترام شاندى وآراؤه)، ومن ثمّ فإننى إذ كنت أقرؤها فإننى كنت أكتبها فى الآن نفسه.

وربما يكون هذا العمل هو أفضل أعمالى التى أنجزتُها قاطبة، وأقول «ربما» لأننى أفكر فى الترجمات الأخرى التى أنجزتُها (مرآة البحر لكونراد أو أعمال السير توماس براون)، أو الترجمات التى أفكّر يومًا فى إنجازها (بروفوك لإليوت، أو أشجار النخيل البرى لفوكنر).

والآن، عندما أقول إن تريسترام شاندى هو كتابى المفضل، فإنما أقول ذلك تحديدًا لأننى ترجمتُه، ولأن كل جملة من جمل الرواية، وكل كلمة من كلماتها (حتى الصفحات الفارغة والصفحات السوداء) لم تمرّ عبر عينى المتيقظة وحسب، وإنما مرّت عبر خلايا ذهنى المثابر، وأذنى المصغية، ولسانى (أقصد بلسانى اللغة الإسبانية، لا الشىء الرطب داخل فمى)، وصولًا فى النهاية إلى إعادة ترتيبها ووضعها على الورق مستخدمًا أصابعى المُجهَدة الكادحة. 


ولو لم أترجم تريسترام شاندى، لربما كان كتابى المفضل هو دون كيخوته أو مدام بوفارى أو قلب الظلام أو أدولفى «رواية كلاسيكية فرنسية» أو أشعار بودلير. على أننى لم أنفق ما يناهز سنتيْن من حياتى مع أى من تلك الكتب.

ولا غصتُ معها عميقًا مثلما غصتُ مع تريسترام شاندى، ربما أكون قد قرأتُ هذه الأعمال بعناية (تَحَتّم عليَّ قراءة دون كيخوته قراءة فاحصة لتدريسها للطلاب، وهى طريقة أخرى من أكثر الطرق مثالية لقراءة الكتاب.

وإن لم تكن الطريقة الأمتع). لذا أقول إن كتابى المفضّل هو رواية تريسترام شاندى، وأعنى نسختى الخاصة من تريسترام شاندى (وإن كانت بالضرورة هى نفسها، وهى إحدى المفارقات التى تنطوى عليها عملية الترجمة، كل ترجمة، جيّدة كانت أم رديئة)، مثلها مثل فصلى دون كيخوته اللّذين كتبهما بيير مينار [*الإشارة هنا إلى قصة بورخيس الشهيرة]، واللذين يختلفان عن فصلى دون كيخوته المكتوبين بيد ثيربانتس، برغم كونهما مثماثلين تمامًا كلمة بكلمة فضلًا عن كونهما مكتوبين باللغة نفسها.

إلا أن هذا لا يعنى أننى أرى نسختى من رواية ستيرن أفضل من رواية ستيرن الأصلية، لا، بل أقصد شيئًا أبسطَ وأقل تنافسية، فى نسختى من الرواية، أو في»نسخة ستيرن وفقًا لِـمارياس»، أعرف المنطق الكامن وراء اختيار كل سطر وكل كلمة، بينما لا أعرف ذلك المنطق فى نسخة «ستيرن وفقًا لستيرن».   

هنا تتجلّى رؤية الرجل الكُلية للأدب والحياة. فى المقالة الأولى مارياس كاتب عالَمى، تُترجم كتبه إلى اللغات كافة، لكن شيئًا ما يزال فى صدره. إنه مشغول بمعنى ما يفعل، لكنه غير مشغول بأثر المعنى. بعبارة أخرى: مارياس مشغول بألا يَظْهَر عمله كى يبقى عمله. وفق المؤلف لا يملك الكاتب/المبدع عمومًا فى العصر الراهن إلا أن يقول: أنا وعملى موجودان فقط فى أثناء فعل الكتابة وبمجرد ظهورنا على مرأى الجميع سينتهى وجودنا وسنضيع وسط مئات الألوف من الأعمال التى تقذفها المطابع والمنصات وفيديوهات يوتيوب كل ساعة.

فى عصر نافد الصبر يلتهم ويمضغ ويهضم كل شىء فى نَفَس واحد. فى أفضل الأحوال نشوة قوية حلوة، لكنها مؤقتة عابرة كرعشة الأورجازم، بل ربما بعد انقضاء تلك اللحظة المُشتهاة تتحول إلى نفور أو تُلقى بلا اكتراث إلى سلة النسيان. كل متعة المبدع فى العمل وكل عقوبته فى خروج العمل إلى النور. أفكر فى رغبة روبرت ڤالزر وسالنجر وتوماس بينشون وبيكيت وبلانشو، إلخ فى الاختفاء والغياب التام، وأنها ربما كانت رغبة أقوى فى إبقاء وجودهم الفعلى أطول فترة ممكنة. 


أما مسألة أن يكون كتابُ مارياس المفضل عملًا من ترجمته لا من تأليفه فذكّرنى برواية مركونة أمامى من سنوات لكاتب نمساوى (غير معروف هنا ولم يُترجم مسبقًا) كُتِبت فى مطلع القرن الماضى.

وهى عمل مذهل بكافة المقاييس (وربما نحت كُتاب أميركا اللاتينية منها كثيرًا). كافكا شخصيًا، وكان صديق المؤلف، أعجِب بها ومدحها. المهم أننى متردد فى ترجمتها متذرعًا بضيق الوقت، ثم أعود فأقول إنه سبب كاذب، فالسبب الحقيقى سخيف، التركيز فى إنهاء عمل قديم يطمح إلى إثبات شىء ما، لكنه طموح رومانسى يفتقد إلى الجدية، وإن لم يفتقد إلى المبرر.

الفكرة فى الغاية: هل هى تسويد الأوراق وألف مبروك وبالتوفيق يا فنان؟ لو ترجمتُ هذه الرواية (على طريقة مارياس فى صنع نسخته الخاصة من تريسترام شاندى)، سأعرف شيئًا كنت أودّ معرفته، لكنه سيكسر جزءًا من الأنا، من رغبة الكاتب فى خلق شىء مماثل. وما الضير؟


كان يظنُّ أن حبكة روايته القديمة مرهون بمعرفة مصير القط، ولما كان القط بألف هيئة ووراء كل هيئة ألف خدعة وفخّ أيقن أن حبكة روايته حبكة سماوية خالصة، قَـدر يُنتظر، أو كما قال ك.ج. يونج مرفوعًا بسند صحيح إلى فاوست: لا تحكم على ما لا تعلم. 


بعد إنهاء عمل روائى أخذ من روحى سنوات طويلة، بدأت أتنبّه مؤخراً إلى أن ترجمة أدب حقيقى، وأقصد بكلمة حقيقى فى ذوقى الشخصى، أنفع من محاولات كتابة الشكل البدائى للأدب الذى بدأت أشعر ناحيته بفتور مؤخرًا فأكتب اليوميات وأدوّن الأحلام.

طالما حلُمت بكتابة نوفيلا مثل «مولوي» بيكيت؛ رواية مقسومة إلى نصفين، شخص يغادر منزله محاولًا تسوية موضوعٍ ما لا يذكره بيكيت إلا مرة واحدة فقط وفى سطر واحد فقط دفنه الملعون وسط الركام.

ويخرج ثانٍ للتفتيش عنه، لكنها لا يلتقيان أبدًا. كتابة إيه يا أبو عمّو؟ الأدب نفسه انتهى هنا كما لمَّح هارولد بلوم مرّة وهو يتحدث عن بيكيت، وكل ما كُتب بعد ذلك أكل عيش أو طرقعة أصابع فى الويك إند. 


أفكّر لو لم أكتب شيئاً كهذا فربما أتقاعد عما قريب وأجلس على البحر، متفرغًا لترجمة كتاب Aion ليونج مثلًا أو رواية وولف سولينت لجون كوبر بويس أو الرواية السابقة، أو أى شىء عليه القيمة، ويا سلام لو سبقنى غيرى إلى ترجمتها واكتفيتُ بالقراءة.

وهو ما يعنى متعة أكثر وبيبسى أكثر. فى كلام مارياس إشارة إلى أن ثمة غايات خفية تتسكّع على دروب غابة الأدب الهيدجرية السوداء، أو الـHolzwege حيث كل الطرق لا تؤدى إلى مكان بعينه.

وحيث كل واحد منا يتبع طريقه الخاص. والغايات تأخذ ألوانًا: الفضول، دفع الضجر، مكافحة الاكتئاب، المتعة الشخصية، غايات تنأى دائمًا بنفسها عن المردود المباشر (نشر، مال، شهرة، إلخ). 


ماذا بعد؟ درسُ مارياس أنه جدير بالكاتب أن يجدّف برفق فى نهر الحياة، أن يعيش ما يكتب لا أن يعيش الدور، أن يواصل العمل دون أن ينتظر نتيجة، وألا يأخذ أثـر عمله على محمل الجد أبداً.

اقرأ أيضا | منصورة عز الدين تكتب: عن الكتابة