محمد سليم شوشة يكتب: د. يوسف نوفل.. مسيرة ممتدة وحافلة بالعطاء فى الدرس الأدبى

محمد سليم شوشة يكتب: د. يوسف نوفل.. مسيرة ممتدة  وحافلة من العطاء فى الدرس الأدبى
محمد سليم شوشة يكتب: د. يوسف نوفل.. مسيرة ممتدة وحافلة من العطاء فى الدرس الأدبى

> تتويج الناقد الكبير بجائزة الدولة التقديرية مكسب للجائزة المرموقة وإعادة تأكيد لمعياريتها ومن قبيل إعادة التأكيد على مكانتها المرموقة وقيمتها من جديد

> فى كتاب تجليات الخطاب الأدبى نجد الدكتور يوسف نوفل مشغولا بالمناطق المجهولة أو الأسئلة التى ربما يهملها أكثر الباحثين .

هو إلى جانب هذه الشمولية والجمع بين القديم والجديد يبقى دائما على صلة قوية بالإبداع المعاصر فقد كان جزءا من هذا المشروع الضخم متابعة الأدب الحديث والمعاصر ووصل المراحل المختلفة للأدب العربى ببعضها، وكذلك الاتصال بالإبداع الراهن ومتابعة الجديد منه ليس على سبيل غاية التأريخ وحسب.

بل كذلك من باب الاستمتاع والمتابعة ومقاربة التجدد المستمر لنهر الإبداع الأدبى العربى فى الشعر والسرد، ومن هنا نستكشف سمة مهمة أخرى فى هذا المشروع النقدى الذى رأى الجمال وتابع وتتبع الأدبية فى الأجناس المختلفة.

فلم يكن هناك انحياز للون دون آخر أو تقليل من بعضها كما يمكن أن نصادف أحيانا لدى بعض الأكاديميين فى بعض الكليات التى قد تتجاهل أنواعا معينة أو تركز على أدب بعينه أو تنحصر فى الشعر الكلاسيكى فقط، فليس هذا حاصلا على الإطلاق، فثمة اشتغال شامل وتقدير متوازن ومتواز للسرد أو الأدب القصصى وللشعر كذلك.

السمة الأخرى التى هى على درجة كبيرة من الأهمية هى الجمع بين التأريخ ودراسة النص، بين التنظير والتطبيق، فبقدر ما كتب وأنجز بعض الكتابة المهمة فى مستوى تاريخ الأدب أو مراقبة الظواهر الأدبية وتناميها وتحولاتها كما نجد فى كتابه «الصورة والرمز اللونى»أو فى كتابه «الفن القصصى بين جيلى طه حسين ونجيب محفوظ» نجده بالدرجة ذاتها مهتما بمقاربة النص الأدبى وجعله المنطلق الأساسى وتصبح هذه المقاربات على قدر كبير من الفنية، فالكتابان السابقان ذاتهما فيهما هذان الخطان..


فإذا كانت الدراسة فى الصورة الشعرية والرمز اللونى تقارب هذا النسق عبر ثلاثة شعراء من أجيال مختلفة فإنها تصبح كاشفة للتحولات فى الشعرية العربية وفى السياقات الثقافية والمنطلقات أو المرجعيات التى شكلت هذه الأصوات الشعرية لدى كل من البارودى ونزار قبانى وصلاح عبد الصبور مثلا.

والتأريخ يبدو حاصلا لديه فى كافة المراحل أو أغلب دراساته، فهو واحد من أبرز من تناولوا تحولات الأدب العربى فى العصر الحديث فى الشعر والسرد معا، وفى هذا الكتاب المهم تناول لم يكن مسبوقا حول علاقة الصورة الشعرية باللون أو تلوينها أو الألوان.

ويقارب فيها الناقد الكبير المرجعيات المعرفية النفسية والفلسفية للون أو الألوان فى الأدب والإبداع والأحلام والرمز أو الرمزية فى اللغة ومنظومتها الدالة أو المعبرة، كما يقارب كذلك مرجعيات اللون فى الثقافات والأمم الأخرى.

وكذلك الألوان لدى الشعوب القديمة وفى الدراسات الحديثة، والألوان فى المعاجم العربية، وكل هذا بوصفه مدخلا معرفيا مهما يتسم بالتكثيف والدقة والشمولية، ثم لا يكون تناول اللون أو الألوان بعيدا عن الغاية الأساسية وهى الصورة الشعرية، فنجد أن الكتاب يمثل مقاربة نموذجية لجوهر تلوين الصورة أو تكوينها وتركيبها وتوظيف اللون فيها أو انعكاسه بشكل لاواع أو بعفوية وبصورة طبيعية.


وهكذا يكون درس اللون جزءا من غاية أساسية وهى مقاربة الخطاب الشعرى وإدراك تكوينه أو موقع الصورة فيه وبالتالى أثر اللون ورموزه فى النص الشعرى أو لدى الشاعر فى خطابه كله عبر مقاربة أكثر من ديوان لكل شاعر، ليكون مجموع ما تم درسه من دواوين كبيرا.

ولكن برغم ذلك تطرح الدراسة خلاصات مكثفة ومؤسسة على أسس علمية منها الاستقصاء والإحصاء والقياس والمقابلة أو المقارنة سواء بين الشاعر نفسه فى دواوينه وتجاربه المختلفة أو بين شاعر وآخر، أو بين مرحلة وأخرى من مراحل الشعر العربى الحديث، إذ يصبح البارودى فى توظيفه للون أو انعكاس اللون عليه تصويره الشعرى أو مختلفا عنه لدى نزار قبانى

ومختلفا لدى كليهما عنه لدى صلاح عبد الصبور، ولهذا فإن هناك ربطا فى غاية الذكاء والطرافة والتقدم النقدى بين اللون أو تجليات اللون فى الصورة الشعرية وبين النزعة الصوتية أو الظاهرة الإيقاعية وفكرة التقليد للشعر القديم لدى البارودى وأحيانا لدى نزار قبانى وهو ما يصنع اختلافا جوهريا بين تجارب الشعراء وانعكاس اللون أو حضوره فى خطابهم الشعرى.

ونجد أن هناك مقابلات بين الصورة والحركة أو اللون والتشكيل البصرى وبين الحركة أو الإيقاع أى أن الكتاب بشكل دائم يصبح واعيا بجوهر فن الشعر فلا يفصل عناصره عن بعضها أو يفككها، بل ينظر للون فى إطار بقية المكونات الأخرى.

وبخاصة الدلالة الكلية التى ينتجها النص الشعرى أو الحالة الشعرية عموما وبين التجريد والأفكار والموضوعات التى تشيع لدى الشاعر أو تشغله فى سياق بعينه، ولهذا فإن من الخلاصات البارزة والمهمة فى هذا السياق ما وصل إليه الكتاب من لمحة فريدة حول شيوع اللون الأسود أو غلبته فى ديوان قصائد لنزار قبانى وهو الديوان الذى يختلف عن بقية شعر نزار من حيث الانشغال بهموم وطنية وقومية وغلبة الموضوعات السياسية.

وهو ما يختلف بشكل كلى حسب ما تشير دراسة الدكتور يوسف نوفل عن بقية دواوين نزار قبانى الأخرى التى ينشغل فيها بدرجة أكبر بالمرأة أو بنقدها، ففى القصائد ذات الطابع الرومانى أحيانا ما تصبح الغلبة للون الأحمر أو الأبيض الذى يصف به المرأة.

وهو ما يكشف عن أنساق فاعلة ممتدة فى خطاب نزار قبانى الشعرى كشفتها هذه المقاربة العميقة القائمة على الإحصاء والوعى بجوهر الشعر ومقاربة ذهنية الشاعر وعاطفته وسياقاته الثقافية أو تحولاتها، ومنها ما يرتبط بجوهر العقل الشعرى وطبيعة نزار قبانى فيما يتصل بالطبيعة الحسية ومحدودية المعجم الشعرى أحيانا.

وهكذا فإن هذه الأمثلة لتدل على عمق المقاربة التى يطرحها كتاب الصورة الشعرية والرمز اللونى وطبيعتها الكاشفة عن الظواهر الشعرية المختلفة عبر العصور أو الأجيال والمراحل ومن شكل شعرى إلى آخر ومن غرض إلى آخر.

وهى دراسة تعد حتى اللحظة على أهمية كبيرة وسابقة وبخاصة بعد استقرار الدراسات الإدراكية وتوسع دورها فى دراسة الخطابات الأدبية أو مقاربة نصوص الأدب واللغة، فهو بحث ينتمى لهذا الحقل ويوظفه مع تركيز على جوهر المهمة النقدية وليس لاستعراض نظرى، وهى من ناحية أخرى تتصل بقوة بدراسة السيميولوجيا أو علم العلامات..


وهو كتاب مهم لأمور أخرى منها تقاطعه مع الأسطورة أو لما يتحقق فيه بشكل ضمنى من نموذج للنقد الثقافى الذى يجمع بين مقاربة النسق التاريخى بامتداد الرأسى وتحولاته. فهو أقرب لما كان يقوم به بعض رواد التاريخانية الجديدة فى فرنسا من التركيز على فكرة بعينها واستقصاء سيرورتها أو فاعليتها فى الثقافة أو تجلياتها فى فن بعينه أو داخل خطاب معين من الخطابات السائدة أو الرائجة، لأن مقاربة هذه الفكرة (دراسة اللون) تصبح كاشفة لأنساق أخرى منها ما يتصل بالتخييل أو بجوهر الشعر أو ما يتصل بتحولات الشعرية العربية أو عبر تقاطعها مع مكونات اجتماعية أو لغوية بعينها.

وهذا الكتاب فيه السمت الأساسى الثابت لدراسات الدكتور يوسف نوفل من الإحاطة بكافة المصادر والأقلام التى تناولت الموضوع ذاته من قبل ثم التحاور معها أو مناقشتها، ولا يكون هذا محصورا بعصر معين أو بنوع معين من المصادر، فنجد أن كتب اللغة ومعاجمها العربية القديمة وكتب الفلسفة وعلم النفس والأسطورة وغيرها كلها حاضرة لتخدم الفكرة نفسها أو تمنح إضاءات مهمة حولها.

يتضح التناول التأريخى المختلف فى منهجيته ودقته واستقصائه الشامل فى التأريخ لبدايات الفن القصصى عند العرب فى كتاب الفن القصصى بين جيلى طه حسين ونجيب محفوظ، والاختلاف يأتى من كون الناقد الكبير قد تتبع فيه البدايات فى الدول العربية كلها.

وربط ذلك بالصحافة والمجلات والسياقات الثقافية والاجتماعية والصالونات الأدبية والعائلات الكبرى والثرية وتأثير بعض الدول العربية فى بعضها.حالة من الاستقصاء الشمولى جغرافيا وتتبع أبرز وأهم الشخصيات ثم المفاضلة بين هذه الكتابات ومقاربة قيمتها الفنية ومقدار تأسيسها أو ترسيخها لتقاليد الفن القصصى.

وفرز ما غلب المضمون عليها أو كانت ذات طابع وعظى أو نبرة إصلاحية مباشرة أو متأثرة بالتراث على نحو كامل أو شبه مغرق فى التقليد للقديم دون ارتباط بالفن القصصى الحديث عند الغرب سواء فى القصة القصيرة أو الرواية، وكذلك الأمر ما كان منها مقلدا بشكل كامل للغرب مثل المدرسة الحديثة ونزعتها الغربية شبه الكاملة والتى كانت نتاج سياق ثقافى دفع إلى تلمس الطريق نحو أدب مصرى خالص. 


كما أن الكتاب لم يقف عند هذه الحدود التأريخية بل قارب كثيرا من النصوص أو الوحدات السردية المركزية فى تاريخنا القصصى وقارن بين بعضها وقدم تقييما فنيا لمنجزها أو الاختلاف فيها أو مدى تطور السرد القصصى فيها، فيكون قد تناولها شكلا ومضمونا بما يوضع موقع أبرز هذه الأعمال فى خريطة الإبداع القصصى عند العرب.

وظهر التأثر كبيرا بين الصحافة والطباعة والصالونات الأدبية والتأثير والتأثر بين بعض الدول العربية التى كانت متقدمة، وكذلك كشف عن تجارب قديمة كتبها أصحابها وهو فى دول أخرى غير دولهم أو خارج مجتمعاتهم.

وقدم فيه مقاربة عميقة للعلاقة بين الأجيال وبخاصة جيل طه حسين وتوفيق الحكيم والدكتور محمد حسين هيكل والمازنى من جانب وجيل نجيبمحفوظ من جانب آخر، وترجم لعدد وفير من الأدباء المؤثرين ترجمة وافية وبخاصة المدرسة المصرية الحديثة فى الأدب التى كانت ترتاد مقهى وكان لها نزوع نحو تقليد الثقافة الغربية وإنتاج أدب مصرى يعبر عن واقع الحياة المصرية.

وترجم لأهم أعضائها ومؤسسيها وأبرز إسهاماتهم وأعمالهم المهمة وتصوراتهم عن اللغة والإبداع وعن فن القصة فى المراحل الأولى، ولهذا فإن فى هذا الكتاب حالة استقصائية نادرة جعلته مرجعا مهما لغالبية الباحثين فى هذا الجانب ومازال كذلك برغم مرور عقود على إصدار الطبعة الأولى منه.

وفى كتاب تجليات الخطاب الأدبى نجد الدكتور يوسف نوفل مشغولا بالمناطق المجهولة أو الأسئلة التى ربما يهملها أكثر الباحثين أو تبدو أنها أسئلة الظل، على نحو ما بحث فى شاعرية طه حسين وقارب هذه المرحلة المبكرة من تاريخ عميد الأدب العربى وتتبع كثيرا من إنتاجه وتقييم شاعريته فى سياق مرحلته أو شعراء عصره.

وكذلك أبرز آراء العميد فى الشعر وفى تحولاته أو تركيزه على النقد أو السرد القصصى والروائى، والأهم فى تصورى هو مقاربته لعلاقة نجيب محفوظ بطه حسين وعلاقات التأثر بينهما ورأى كليهما فى الآخر عبر استقصاء وتتبع أحيانا لحواراتهما أو تصريحاتهما أو بعض الآراء الواردة فى الكتب لكليهما. 


والأمر ذاته فى مقاربته لحياة كل من محمود طاهر لاشين ومحمود طاهر حقى، وتوفيق الحكيم، ويحيى حقى أو إحسان عبد القدوس والوقوف على أبرز منجزاتهم وأهم محطاتهم وعلاقات التأثير والتأثر لهم بالتراث أو الغرب أو علاقات التأثير فيما بينهم.

ومثال ذلك ما نجد ربما من إشارة سابقة للربط بين بعض منجز الحكيم وبخاصة فى روايته الرباط المقدس وبين منجز إحسان عبد القدوس والخط الذى التزمه فى إبداعه وجلب له كثيرا من المشاكل أو المواجهات لكنه كان مؤمنا به.

وكشف عن السياق الثقافى والحالة القرائية الواسعة والذيوع الذى كان نصيرا لإحسان عبد القدوس فلم يكن بحاجة إلى إنصاف النقاد، واستقصى وقارب آراءهم فى بعضهم على نحو ما نرى من رأى توفيق الحكيم فى إبداع إحسان عبد القدوس ونجوميته.

ولم يكن الناقد الكبير الدكتور يوسف نوفل مشغولا بالماضى فقط أو محصورا فيه، بل هو إلى جانب دراسة الراسخين من الأدباء الرواد والكبار درس كثيرا من الأصوات الجديدة من الروائيين والشعراء وكتاب القصة القصيرة، والحقيقة كذلك أن الناقد الكبير لم يكن محصورا بالإبداع المصرى فقط، بل درس كثيرا من الأصوات الأخرى البارزة والمهمة فى الدول العربية الأخرى فى السعودية والكويت واهتم بإبداعهم من وقت مبكر ومنهم الشعراء ومنهم الروائيون.

والحقيقة أن كتب الدكتور يوسف نوفل كثيرة فهو واحد من أوفر نقادنا من حيث الكم فما بالنا إذا كان هذا الإنتاج بهذه الجودة والطابع المنهجى والسمت الطليعى السبَّاق وهذا التطور المستمر؟ ولهذا فإن تتويج الناقد الكبير بجائزة الدولة التقديرية مكسب للجائزة المرموقة وإعادة تأكيد لمعياريتها ومن قبيل إعادة التأكيد على مكانتها المرموقة وقيمتها من جديد.

اقرأ ايضا | عادل الغنام يكتب: حلقَات من الخوف