كنوز| نماذج من البشر

د. احمد خالد توفيق
د. احمد خالد توفيق

بقلم: د. احمد خالد توفيق

أمقت الصوت العالى بشكل لا يُوصف ومن المؤسف أننا محاطون بأشخاص لا يملكون أى موهبة إلا أصواتهم العالية، ولا أعتبر الصوت العالى صفة عربية سائدة، فأنا قد تعاملت مع كثير من الأصدقاء الخليجيين والسودانيين، وقد وجدت أكثرهم أكثر ميلاً للصوت الخفيض، ولهذا اعتقد أن الصوت العالى يميز شعوب البحر المتوسط عامة .

أفقت من نومى فى السادسة صباحاً على صوت رجل يصرخ فى الشارع، وفهمت أنه يخبر صديقه بسر وهو يكرر قائلا «الكلام ده بينا يا فرج، لا أحد يعرف بما أقوله»، يبدو أنه يشك فى سلوك زوجته، وكرامته تأبى أن يعرف مخلوق بهذا، أى مخلوق خارج شارعنا طبعاً لأن كل سكان الشارع صحوا من نومهم ليتابعوا هذه القصة المثيرة، حاولت أن أعود للنوم، لولا أن صحوت على صوت طالبة تخبر صديقتها وهما ذاهبتان إلى المدرسة بأنها تميل إلى صلاح ولا تشعر بالراحة مع حسن، أوشكت على النوم لبضع لحظات ثم صحوت على صوت رجل يخبر صديقه بتفاصيل سرية عن القضية التى سيرفعها على مستأجرى العقار الذى يملكه ! فقط يجب أن أخبرك أننى أقيم فى الطابق الرابع، فليرحم الله سكان الطابق الأرضى والطابق الأول . 

وسمعت من يحكى لصاحبه نكتة من النكات إياها، وهو مصر على أن تسمع النكتة كل عذراء وكل طفلة وكل أم فى المنطقة، المشكلة أنه يخفض صوته عند ذروة النكتة فلا تعرف أبدا لحظة التنوير، وهذا يذكرنى بالرجل الذى كان يعود لداره ليلاً فيخلع حذاءه الأيمن، بوم ! فيهب الجيران مذعورين، ثم يخلع حذاءه الأيسر، بوم ! حتى صعد له جاره وتهدده بالويل لو استمر ينزع حذاءه بهذا العنف، وعاد الرجل إلى داره ليلاً فنزع حذاءه الأيمن.. بوم! ثم تذكر التهديد الذى تلقاه فنزع الحذاء الأيسر بلطف ورقة، والمشكلة أن الجيران فى الطابق الأسفل ظلوا ساهرين ينتظرون صوت «بوم» الثانية بلا جدوى! فصعد جاره وهو يصيح فيه «انزع الحذاء الأيسر أيها الوغد لينام الأطفال!».

وهناك هواة الصراخ فى الهاتف، كان الكاتب الصحفى الشهير مصطفى أمين لا يقدر على التركيز فى كتابة مقاله، لأن دار أخبار اليوم كلها كانت ترتج بصراخ أحد الموظفين وهو يتكلم، فسأل عن سبب هذا الصراخ فقيل له إن الموظف يكلم أسرته فى دمنهور، فقال فى غيظ «طيب ما يكلمهم بالتليفون يا أخى»!

وهناك نوع من البشر تهمس له بشيء فيكرر ما قلته بصوت يوقظ الموتى، وعندما تدنو من الموظف الجالس وسط فتيات وتقول له كلاما بصوت خفيض، يصيح بصوت يطيّرك فى الهواء وهو يقول: «تريد الذهاب إلى دورة المياه ؟ لماذا؟ ''، وهناك نوع من البشر يصرخ طيلة الوقت حتى يسبب لك الحرج، وأذكر أننى كنت أكلم أحد عمال المستشفى وكان يشكو لى صارخًا من أعراض تضايقه عند إفراغ المثانة، احتقن وجهه واحمرّ وتطاير اللعاب من فمه وأنا أحاول تهدئته، وعندما قابلت زملائى وجدتهم يسألوننى «لماذا كان ذلك العامل يصرخ فيك ؟

ولماذا وقفت عاجزاً عن اتخاذ إجراء صارم؟» حاولت إقناعهم بأن الأمر يتعلق بحماس مبالغ فيه، فهزوا رؤوسهم هزة العليم بكل شيء وهم يقولون ''نعم.. نعم.. بالطبع !''، لا مكان فى هذا العالم لخفيضى الصوت، ولهذا أبحث جدياً عن مكان يعطى دورات لتعليم الصراخ، ربما كان التمثيل المسرحى مفيداً فى هذا الصدد . 

من «صفحات ضـاد» 

كنوز : نعيد نشر هذا المقال بمناسبة الذكرى الـ 60 لميلاد الأب الروحى للشباب الدكتور احمد خالد توفيق.