صباح الخميس

أحمد عباس يكتب: إلى كيجالي عبر المانش

الكاتب الصجفي أحمد عباس
الكاتب الصجفي أحمد عباس

٦٠ كيلو متر خارج العاصمة الرواندية كيجالي فقط تقول أنك أخيرًا وصلت الي أرض اللاهوية، حيث لا أحد هنا يمكنه الاحتفاظ بلغته ولا الحفاظ عليها، بالطبع أيضًا ولا دينه ولا شيء يملكه سوى أيام يعيشها منزوع المعنى بمصير مبهم وغد لا يعلم في أي أرض سيطلع نهاره.

هنا مستودع الأشباح البشرية حيث معسكر أممي لا علم واضح له، أرض مستأجرة من صاحبها ومستقطعة من نظامه، تسير بمعطيات أخرى وتسري عليها قوانين لا يعرفها أحد.

المستعمرة مجهولة الاسم حتى الآن، فربما هي على الدفاتر وفي الملفات مجرد رقم "نمرة" لتعريف العنوان والرقم الكودي وطبيعة المستعمرة وتركيبتها البشرية. الموقع في رواندا بقارة افريقيا التي تعبت من كل شيء، لا أعلام مرفوعة على الأسوار ولا ترفرف أعلى العنابر. 


تعرف الـ"كيبوتس" الصهيوني.. هو مثلها تمامًا، مستودعات بشرية لتخزين الناس رأسيا أو أفقيًا لا يهم، أما السعة التخزينية المتوقعة له فيبدو أنها ضخمة تستوعب الآف البشر الذين حاولوا الفكاك من فقراء أوروبا عبر بحر المانش والاتون من افريقيا ومناطق أخرى ووصلوا انجلترا أخيرا بعد رحلة شاقة - لا ينجو منها الكثير- على متن سفن وقطارات وطائرات ومشيًا على الأقدام استعدادا لمستقبل يقبلهم ويعترف بحقوق انسانيتهم.. وهذا فقط كل ما اقترفوه. 

الناجون منهم أخيرا وصلوا الأراضي الانجليزية، المملكة المتحدة.. بريطانيا العظمى، تعرف!
يقولون أنها أرض الحريات والديموقراطيات العريقة، والأمينة على حقوق الانسان والمؤتمنة على مستقبل ومصير الشعوب.. هم يقولون ذلك وأنا أتفهم تلك "النعرة" وأمارسها أحيانًا.

صحى الناجون على قرار غشيم يقضي بشحن هؤلاء الناس ربما وقوفًا على متن جسر جوي يمتد بين لندن ورواندا لنقل هؤلاء إلى ملاذهم الأخير حيث معسكر رمادي بأسلاك شائكة تحظر المغادرة، وأنا أسأل أليس هذا ترحيل قسري وتجريد انسان حتى من تقرير مصيره.

وزيرة الداخلية الانجليزية امرأة جميلة، أنثى كأي أنثى لها شعر اسود فاحم ونبرة حاسمة جدا، قالت علنًا ان شيئا واحدا لن يثني الحكومة الانجليزية عن قرارها بابعاد المهاجرين بالطرق السالفة ونفت الوزيرة أي شبهة انتهاك لحقوق الانسان، وأضافت: انها الخطوة الضرورية لضمان تأهيل هؤلاء واشراكهم في الحياة وتعليمهم اللغات الأجنبية، وان المملكة المتحدة ستتخذ كل ما تراه نافعا لأمنها حتى اذا اضطرت الحكومة لارجاء أول رحلة نزولا على "عقبات قانونية" لكننا ماضون في خطتنا.

لم أفهم أي تأهيل تعنيه الوزيرة وأدعوها لحوار صحفي وربما كوب شاي انجليزي مزروع في الهند، أسألها خلاله بلا نزعات لا عربية ولا افريقية أو ما شابه، أو حاول أنت أن تتجرد معي قليلًا.. ماذا اذا نزعت مخلوق -أي مخلوق- من نظامه الذي يدور فيه فجأة، ثم أبعدته الي أرض جديدة مع جماعة مختلفة عنه في كل شيء، في الطبيعة والبيئة والسن وربما التكوين، كيف لجماعة مثل هذه أن تتسق بل وتتأهل وتتعايش فيما بينها، الي أي مدى يمكن لانسان أن يمارس طقوسه وعقيدته، أو حتى يخلو الي روحه!

تخيل سلوك هذه المخلوقات.. وحوش بشرية كأنها ماتت ثم عادت للحياة مرة جديدة. الخارجون من هذه المستعمرة اذا خرجوا هم مسوخ بشر، فأنت تؤسس مجتمع الأصل فيه هو عدم التكافؤ كأنك اخترت كل ما لايمكن وضعه في مكان واحد ثم صممت على خلطه رغما عنه.. وكذلك المسألة بالضبط.

أن تؤجر رواندا أراضيها لمستعمرات مشابهة نظير جنيه انجليزي فهذا شأن داخلي تقرره وحدها بلا تدخل أو ذنب وللدول أن تفعل ماتشاء كيفما ترتضي ووقتما تناسب اللحظة.

لكنني لست أراه الا سوق نخاسة علني يا بكوات أو حظيرة، ولا أفهم لماذا أشتم رائحة "جوانتانمو" جديد و"أبو غريب" آخر، وأعتقد ذلك غير بعيد، وأسأل هنا..

كيف سيعاملون هؤلاء الناس فمثلا هل ستتولى تعليمهم فرق من المدرسة الملكية البريطانية ويوكل نادي مانشيستر يونايتد بتدريبهم لضمان لياقتهم الجسدية، أم هي مرحلة لانتقاء النوع وتطهير الجنس، أم ستجرى عليهم اختبارات الأمصال والأدوية والعقاقير ويكونوا فئران تجارب لبشر أوفر منهم حظا!

لماذا تصمم أوروبا على جعل افريقيا حظيرتها الخلفية لا لمخلفات صحية بيئية، لكن هذه المرة النفايات بشرية يُعرف فيها كل انسان برقم، الرقم وحده هو اسم صاحبه ولا حاجة لأسماء هنا. 

ثم انني أسأل سؤال لايبدو أنه الأخير.. ماذا لو قرر رقم من هؤلاء العدول عن اختياره للسفر وقرر التراجع والعودة لبلده، هل ستسمح له سلطات المستعمرة.. أظن لا، لا لشيء الا لانه سجين أو أسير طوعي على أحسن وصف.