رئيس التحرير يكتب: عشرية الاستقرار.. بعد مذابح الربيع.. أمريكا للخلف در 

الكاتب الصحفي جمال الشناوي
الكاتب الصحفي جمال الشناوي

عندما بدأت مصر في بناء السد العالي.. راهن الأمريكان على فشل المشروع، ليس لأسباب سياسية أو اقتصادية.. لكن الأسباب كما حددها روبرت ميرفى مساعد وزير الخارجية في الخمسينات.. «المصريون كما درسناهم لن يتحملوا الإنفاق الكبير دون عائد سريع .. سوف يختنقون ولن يتحملوا ذلك».

 وراهن الأمريكان على عصابات الإرهاب والتطرف في الشرق الأوسط ..وسالت الدماء أنهارا تسرى في دول المنطقة لتروى الكراهية والعنف ليستمر طوال العقدين الماضيين.. وهدمت مدن وسحقت قرى وتشرد الملايين بفعل الاقتتال الأهلى ..بل وطال لهيب الإرهاب أمريكا نفسها .. ولم تصبح دول مثل العراق واحة للديمقراطية والرفاهية .. كما قال حاكمها الأمريكي بعد الاحتلال .
والحال ينطبق على الأشقاء في اليمن وسوريا وليبيا .. وحتى لبنان وصل إلى طريق مسدود بفعل استخدام بعض الفصائل للديمقراطية لتسليم البلد الشقيق لقوى خارجية تتحكم في مساره السياسى.
ليس الدم والفوضى ما نشرته الديمقراطية الأمريكية في المنطقة فقط.. ولكن من نتائج ربيع واشنطن.. معاناة المجتمعات من التفكك ونبتت بها بذور الفتنة ويبدو أن نشر المخدرات كان أحد ضمانات نجاح الفوضى الخلاقة التي بشرتنا بها السيدة كونداليزا رايس .. وفى أحد أكثر التقارير مصداقية من منظمة دولية.. فإن تجارة نوع واحد من المخدرات وهى أقراص الكبتاجون المخدّرة في الشرق الأوسط قد ازدهرت الى حد كبير لتتجاوز قيمتها خمسة مليارات دولار، خلال العام 2021 ما يرتّب مخاطر صحية وأمنية متزايدة في المنطقة .

أمريكا راهنت على جماعات الإسلام السياسي في المنطقة والتي ورثتها من بريطانيا العظمى.. وكادت تنجح في زرعها في قصور الحكم مستغله ديمقراطية الغوغاء.. وليس هناك من دليل حديث أكثر وضوحا من تسريب مسلسل الاختيار لمهندس الخراب خيرت الشاطر.. إننا لسنا في حرب مع إسرائيل.. عكس صراخهم اليومى لشحن البسطاء واستغلالهم للسير بالملايين إلى القدس لتحريرها.
الآن وبعد كل هذه الدماء.. خرجت من الولايات المتحدة ما يشبه المراجعات لسياسات نصف قرن ويزيد.. ولا أحد يستطيع الجزم هل هى مناورة جديدة من مراكز التفكير بها.. لكن تلميحات وزير الخارجية الأمريكي أن بلاده تعكف على عشرية الاستقرار في ليبيا وعدد من الدول للوصل إلى الاستقرار المنشود بعد عشرية الفوضى فيما يعرف بالربيع العربى، لتركيز اهتمامها على الصراع مع روسيا والصين.
ما طرحه وزير الخارجية الأمريكي من أفكار ..ربما هو صدى ما توصلت إليه بحوث ودراسات تعكف عليه مراكز التفكير في البلد الأقوى ..

ولفهم مستقبل السياسات الأمريكية.. أطل علينا أحد أهم الصحفيين والمفكرين "الأفضل" كما صنفته مجلة فورين بوليسي عام ٢٠١٧.. وهو روبرت دي كابلان.. والذى استعان به وزير الدفاع الأمريكي في مجلس سياسات الدفاع.

 روبرت دي كابلان قال ل بلومبيرج مؤخراً: لإنقاذ الديمقراطية، نحتاج إلى الإيمان بالدول القوية بايدن مخطئ: الشعوب في الدول النامية والشرق الأوسط يريدون الاستقرار والحكومات التي تحقق الإنجازات والحريات الشخصية أكثر من حق التصويت كل بضع سنوات.

يتحدث الرئيس جو بايدن عن حرب روسيا في أوكرانيا كجزء من "معركة بين الديمقراطية والاستبداد". لكننا في الواقع هو ليس صراع من أجل الديمقراطية مهما حاولنا أن نتصور ذلك أوكرانيا نفسها كانت لسنوات عديدة بلد ضعيفة و وينتشر بها الفساد ومتخلفة مؤسسياً عن الديمقراطية .


علينا أن نكون واقعيين.. الصراع هنا من أجل شيء أشمل وأكثر جوهرية.. حق الشعوب في جميع أنحاء العالم في تقرير مستقبلهم والتحرر من العدوان السافر. هذا يتطلب عالماً منظماً حتى نعطل قانون الغابة. وبالتالي، ينبغي أن نرحب بعدد من الأنظمة القوية في هذا الصراع

يضيف دي كابلان.. كمراسل أجنبي لمدة أربعة عقود في أوروبا الشرقية والعالم النامي، وصلت الى قناعة ان تفسيرنا لمفهوم الاستبداد في مناطق كثيرة، يتشكل من العديد من النقاط الرمادية، وليس شرًا مطلقًا - باستثناء أماكن معينة مثل رومانيا نيكولاي تشاوشيسكو وعراق صدام حسين.

حقيقة أن الأنظمة غير الديمقراطية كانت منتشرة على نطاق واسع (وتزايد عددها) ليس لأن الشر يحكم العالم، ولكن لأنه في العديد من الدول، فإن الظروف ببساطة ليست ناضجة للديمقراطية المستقرة


أخطر ما قاله المفكر المخضرم روبرت دي كابلان .. هو أن الظروف غير ناضجة للديمقراطية المستقرة.. وأذكر أن هذا ما قالته القيادات الوطنية المصرية في أحداث يناير.. ووقتها انطلقت آلة الدعاية الأمريكية.. ووكلاؤها في المنطقة.. وبعض المخدوعين من مصر للهجوم الشرس علي تلك القيادات.
لكن الآن عادت تحذيرات المفكرين من إضعاف الدول بدعوى نشر الديمقراطية ..


واستعان روبرت دى كابلان بما قاله معلم أجيال الباحثين في أمريكا ..
 صموئيل هنتنجتون: "الاختلافات بين الديمقراطية والديكتاتورية أقل أهمية من الاختلافات بين الدول ذات المؤسسات القوية وتلك التي لديها مؤسسات ضعيفة. لا يمكن صناعة مجتمعات ليبرالية إلا في الدول القوية .." 


ويعترف المفكر الأمريكي “ أثناء سفري حول العالم ، لا سيما في الشرق الأوسط ، كان معظم الأشخاص الذين قابلتهم يتوقون إلى الحكم التكنوقراطي الكفء والحريات الشخصية والجدارة والشعور بالعدالة ، ليس لأنهم يعارضون الديمقراطية في حد ذاتها. الأمر ببساطة هو أن الحريات الشخصية - حماية الأقليات، وحرية السفر أو طلب أي كتاب من الخارج، وما إلى ذلك – والتخلص من الفساد يهمهم أكثر من القدرة على التصويت كل بضع سنوات. قد يبدو هذا غريبًا بالنسبة للنخب الغربية التي تعتبر الحريات الشخصية العادية أمرًا مفروغًا منه ، وبالتالي تنشغل بالسياسة - وبالتالي تفترض أن كل شخص آخر يجب أن يكون كذلك."

مصر نموذجا.. محاولة أمريكا الآن اتخاذ "يوتيرن" لسياستها في العالم بات مسارا إجباريا.. فمصر التي عانت لفترات طويلة من اتهامات لأنظمة الحكم المتتابعة بالضعف في توفير حقوق المواطنة للأقباط.. ايقنت الآن أن مصر قطعت شوطا كبيرا في تلك القضية.. وباتت دعاوى المتطرفين غير ذي صدى في المجتمع المصري.. وغاب الأنصار لتلك السياسات البغيضة.

حقوق المرأة في مصر.. أظنها محل إشادة من الداخل والخارج.. فلدينا نساء في كافة المواقع القيادية للدولة وزراء ونائبات، وليست بإعداد.. وليس ببعيد احتفال السلطة القضائية.

الدول التي ضعفت مؤسساتها بعفل ألاعيب الديمقراطية على الطريقة الأمريكية.. التطبيق “الآن وفورا "..تلك الدول تجمدت أو غرقت في فوضى الطائفية ..و لا تستطيع حتى تشكيل حكومات لإدارتها ..إلا كيانات ضعيفة تتفكك مع أول اختبار .

الآن ..هل آمنت الإدارة الأمريكية بما توصل إليه مفكروها سابقا والآن ..أن الدولة القوية، ومؤسساتها القادرة هى الوحيدة التي يمكنها الإقدام على تطبيق الديمقراطية المستقرة.

أما الإصرار على تصدير الديمقراطية الغربية ومحاولة إلباسها لمجتمعات ضعيفة فالمؤكد أنها ستنتج أنظمة فاشلة. 

أخيرا لا يوجد إنسان طبيعي لا يتمنى لبلاده أن تكون حرة وديمقراطية وقوية ..دعونا نبنى بلادنا.