مجيد طوبيا قصة حب بنكهة البيتزا الإيطالية والبتاو الصعيدى

مجيد طوبيا
مجيد طوبيا

كتب : فتحى سليمان

 كان عزيز النفس قليل الكلمات، الاقتراب منه عملية معقدة لكن ما إن تتم بناء على اقتناع منه بجدوى المحاولة، يصير وديعًا وكريمًا ومعلمًا. كان الأصدقاء يعلمون عنه قشور حياته ولا يسمح لأحد بالغوص أعمق من ذلك.

منذ عودته من المستشفى التابع لمشروع العلاج الجماعى لأعضاء نقابة اتحاد الكتاب، وهو يبحث بعينيه عن اليمامة!
أفتح باب الشقة وأنا أناديه: «يا ميجو» فيجاوبنى: «صباح الخير يا كبير الرحيمية بحرى». يصر على أنه «الكبير قِبْلى» وأنا «بحرى»، فأضحك وأقول له: «ازاى بحرى وأنا بالسمار ده؟!».

يساعدنى حارس العقار فى نقل الأستاذ إلى الكرسى المدولب. ننتقل إلى بلكونة الشقة، التى تطل على الشارع الهادئ بحى «تريومف».

نتناول الإفطار ومن ثم حبّات الدواء المُر، ونبدأ فى بعض الحركات الإحمائية على دكة بدلاء الحياة.

على آخر الممر الذى يحيط بالشقة الصغيرة، وينام فى كنف شجرة بانسيه شابة، تظهر اليمامة، بهديلها الذى يشبه تمتمات مرنّم أجرودى، تقترب وتبتعد فى وقار وعيناها تنظران ناحيتنا. يشير «مجيد» لها بالاقتراب فتنظر متوجسة من القطة الصغيرة التى تشرب من المسقى.

يقول «مجيد» إن تلك اليمامة هى روح عمته «آجيه» التى ترعاه منذ وفاة والدته المبكر، ويقول أيضاً إنه ليس عدواً للمرأة كما تلاسن بعض الصحفيين وأرفقوه بمعسكر «توفيق الحكيم».

المرأة فى حياة مجيد موجودة وغائبة فى آن واحد. موجودة بحبها وكينونتها المستقلة وموجودة أيضًا بقسوتها وغيرتها وأنانيتها، وهو قرر أن يتعامل معها بعيداً عن الأوراق الرسمية.

ذات شتاء حكى لى مجيد أنه كانت هناك عروسة مقترحة من أحد الأباء بالكنيسة، وبدأت الإجراءات الأولية فى توفيق رأسين بالحلال وقبل أن تبدأ مراسم نصف الإكليل، كان العازب المتمرد على الطريق لمدينة العريش هاربًا من القفص الذهبى.

تمر الأيام وتضىء شاشة هاتفى المحمول باسم العروسة، السيدة الفاضلة المثقفة التى تتكلم أكثر من لغة، فى كلمات حانية وسؤال حميمى تعرض خدماتها المالية وترسل سائقها الخاص، وهو يحمل مشاية معدنية تساعد على سهولة الحركة داخل المنزل.

صباح الخميس الماضى السابع من أبريل لم يجاوبنى النائم الذى تركته فى العاشرة من الليلة الفائتة. صارت خطواتى من باب الشقة حتى الصالة بطيئة ثقيلة. كان ينظر لسقف الغرفة ولم تكن هناك أنفاس حياة، أسبلت عينيه وتمتمت بما أعرفه من كلمات الله، الله الذى خلق كل البشر قبل التصنيف الدينى والعرقى والاقتصادى والفكرى.

تمت إجراءات الأوراق الرسمية فى سلاسة والدينية فى حياء ووقار وودعنا آخر أبناء الصمت وصاحب «حكاية من بلدنا»، ودعناه ولم تكن هناك جرائد خمس ملقاة أمام باب شقته.

«مجيد» عاش فى القاهرة وحيدًا مستقلًا قويًا وكانت جلسته شبه دائمة فى مقهى «الأمفتريون» بمصر الجديدة. ترك انطباعاً جميلاً لدى كل من عرفه، كان عزيز النفس قليل الكلمات، الاقتراب منه عملية معقدة لكن ما إن تتم بناء على اقتناع منه بجدوى المحاولة، يصير وديعًا وكريمًا ومعلمًا. كان الأصدقاء يعلمون عنه قشور حياته ولا يسمح لأحد بالغوص أعمق من ذلك.

واحدة فقط اقتربت ودكّت حصون ذلك الصعيد المتوجّس، نجحت فى دغدغة أحاسيسه بمنسوب قليل للغاية من الحب، كانت الأيام بينهما مقسمة على عدد اثنين، ورحلات الطيران لها وجهتان، القاهرة ورومــــا، شوارع حى تريومف الهادئ وحوارى روما التى تتلوى مثل الغوازى من بياصة لأخرى، لم يتقن «مجيد» الإيطالية بسبب لغة «فريال» التى تقترب من العامية المصرية!

كانت «كونشيتّا باريزى» إيطالية بقلب مصرى وذكريات تتذكر منها أن والدها كبير بستانجية قصر عابدين أطلق عليها اسم «فريال» لكى يستلم الجنيهات الذهبية هدية القصر للمواليد البنات اللاتى جئن للدنيا مع ابنته «فريال» أخت فاروق.

«فريال» حضرت للقاهرة فى بعثة من جامعة فلورنسا للغات الشرقية، وجاءت قسمتها مع «مجيد». ترجمت له رائعته الخالدة «تغريبة بنى حتحوت» لتكون على محمل الشمال المتوسطى بعنوانOdissea nei paesi del Nilo. باقى زميلاتها أنجزت أعمالهن بدون مشاكل مثل «أنتونيلا سترافاسى» التى ترجمت للراحل جمال الغيطانى رائعته «شطف النار»، والآنسة أدا باربارو التى ترجمت لعبد الإله عبد القادر رواية «الوجه الآخر».

تم فض الاشتباك فى يسر وسلام، ما عدا حالة واحدة. ارتبطت فريال بالشاب الوسيم مواليد منية بنى خصيب، وقررت أن تربط حياتها بسن قلمه.

ومن جديد وبشكل غير تقليدى جاءت كليوباترا من شمال المتوسط وأنطونيو هذه المرة من مقاعد كلية دار المعلمين قسم رياضة حديثة وعائد لتوه من مدينة «مليج» بمحافظة المنوفية ومنقول على الدرجة الخامسة لوزارة الثقافة والإرشاد.

وشهدت مرابع السهر بوسط القاهرة وروما دويتو متوسطى بنكهة أعشاب الأوريجانوا على بيتزا بعيش البتاو الصعيدى.

أجمل ما فى مصر الجديدة الخصوصية ورقّى سكانها، لم يعترض أحد من السكان على الأجنبية التى أصبحت شبه مقيمة بين جنباتهم.

وجدوا فيها أملاً -وإن كان يبدوا شاحبًا- فى توريط الشاب صاحب القمصان المفتوحة على صدر مزروع بخصلات شعر غجرية، فى مشروع الزواج التقليدى.

أكثر من مرة ينبِّه الأستاذ «مجدى» صاحب مطعم ومقهى «أمفتريون» مجيد إلى مزايا الزواج من أجنبية ودخول نادى الشنجل الذهبى. لكن المصرى الطوباوى لا يرى فى الباسبور الإيطالى فرقاً يُذكر عن المصرى الذى يعتز ويفتخر به.

فى الأفلام العربية ذات النهايات السعيدة دائمًا ما تسبق كلمة النهاية، حبكة ومشكلة الدراما. هذا ما حدث ولكن لا يمتلك أحد من أصدقاء الحبيبيْن تفاصيل المشكلة. مثلما بدأت قصة الحب انتهت فى ظروف غامضة واختفت فريال.

حاولت أنا ومعى الكثيرون الوصول لها، بحثنا فى صفحات العالم الافتراضى وهاتفنا أصدقاءنا وكتبنا اسمها بالحروف «الفرط» والمتشابكة، لكن بلا نهاية سعيدة.

جاءت ثورة يناير وانطلقت فئران الغيطان فى شوارع الحى الهادئ، تسرق ماركات السيارات ومواتير المياه والعدادات الصدئة وتخلع حديد أسوار البلكونات الوديعة فى جو من الانفلات التام، وقتها كنت أخرج من منزلى بحى النزهة الجديدة لأقضى بضع ساعات فى ضيافة الرجل الذى تقدم فى السن بأعوام أكثر من المكتوب فى شهادة ميلاده، وكانت مكالمات الأستاذ مصطفى عبدالله والدكتور عبد الله سرور والكاتب القدير محمد جبريل وزوجته الكاتبة زينب العسال أطواق النجاة اللاتى أنقذت المركب الطوباوى من توابع زلزال يناير.

عادت الأمور فى الحى الهادئ الى طبيعتها وتخلص عمال مجلس المدينة من الحشائش السامة والأعشاب الضارة. منها من ألقوا به فى السجون ومنها من هرب إلى استانبول وعادت ابتسامة الشاب الذى صار عجوزاً، وعاد مرة ثانية للحكى والخروج للتمشية فى ميدان سانت فاتيما وسفير، وبدأت القنوات الفضائية تتنبه لهذا الكاتب الكبير وازدحمت أمام العمارة التى يقنطها سيارات البث الخارجى ولمبات الإضاءة جعلت من غرفة معيشته مسرحاً مبهراً.

عاد يتكلم عن أصدقاء الزمن الجميل وأقلام العصر الجديد وكيف يراهم موهوبين يستحقون كل التقدير. تذكَّر أرقام هواتف منازل أحبائه المقربين مثل المخرج الكبير محمد راضى، وصديق الثانوية فكرى لبيب دويق، وطبيب الأسنان صفوت شفيق، وطلب منى مصاحبته إلى مطعم «أستوريل» ليلقى التحية على صديقه د.نبيل عبد الفتاح، والمحاسب فهمى فؤاد، وصاحبة المطعم السيدة «ماريتسا». 

فى الشهور الأولى من هذا العام فبراير بالتحديد قال لى وهو يضحك:
«سوف أغادر الدنيا دون الحصول على جرعة الكورونا، هل تظن أنهم سيوقعون علىَّ جزاء مالياً؟!».

اقرأ ايضا | محاضرات ثقافية وورش أدبية بفرع ثقافة الفيوم