قراءة فى «هايكو عذاب الركابى»

قراءة فى «هايكو عذاب الركابى»
قراءة فى «هايكو عذاب الركابى»

كتب : د. شريف عابدين

تحرر الركابى من القيود الصارمة ضد التخييل، لأن الارتكاز على التلقى الحدسى وردود الفعل التلقائية أو العقل البديهى، يهدف إلى البرمجة الذهنية للإنسان فى سياق قبول التعايش مع الكائنات بالحد اﻷدنى من الملكات العقلية
عذاب الركابى هو  «تكنو- هايكيست» واللفظة مشتقة من «التكنو- بويت» وتعنى من يُوظف خبرته الشعرية فى استنباط تقنيات سردية متطورة، وقد ابتكر مختبره التجريبى للتأسيس ﻹصدار عربى من قصيدة الهايكو، وهو يعتبر الإبداعُ تجريباً دائماً ويرى أن  الهايكو العربى« جزء من هذهِ المغامرة المقدّسة فهو يعيش «زمن اللغة الكونيّة» الذى تنبّأ، أو خلق عالماً مخملياً جديداً، دستورهُ جمال الإيحاء والخيال المنتج المبتكر، يمارس الشعر كأنه يمارس الحياة، مخصبةً قريحته بطاقة وجدانية متدفقة أثمرت لنا ثلاثة إصدارات، شكلت إضافة لشعرنا المعاصر وثقافتنا وهى: «ما يقولهُ الربيع»، «رسائل المطر»، و«العصافير ليسَت من سُلالةِ الرياح»، والتجارب الثلاث ترصد مراحل ولادة نموذجه المتفرد فى «الهايكو العربى» وتمثل حصاد تطوير تقنياته اﻹبداعية فى مختبر- تجربة الهايكو، الذى أسسه للاشتغال على النمط اليابانى. لقد تجاوز الحواجز التى حرص النموذج الكلاسيكى اليابانى عبر القرون على تقديسها، للتحرر نحو آفاق أرحب للتجربة الحياتية، فيها الهم اﻹنسانى، عبرَ لغةٍ يطغى عليها المتخيل، واللهو بالاستعارات مع حرصه على الحفاظ على روح الهايكو.

من غربة الوطن إلى وطن الغربة، يتلمظ مقولة- ليركه: «من لا يبنى بيتا الآن، لن يبنى بيتا فيما بعد. من هو وحيد الآن، هكذا، طويلا سيبقى». فلا يجد ما يحتويه سوى بيت القصيد، يأوى إليه، بعيداً عن اﻷنظار، يلملم به شتات روحه، ويضمد نزف جراحه، مردداً مقولة بورخيس: «للأسلاف من دمى، وللأسلاف من روحى، قربت ذبائح من أشعار».

فضل العيش وحيداً ونائياً فى عزلته، يغزل قصائدَ من البوح، والحلم. وحين لم يسعفه وطن القصيدة، اتجه إلى الشعر الكونى، حيث وجد ضالته المنشودة، كان عليه الخروج من الأجواء السلبية الملاصقة إلى الأجواء الإيجابية الكونية، فى أحضان الطبيعة، يمتح من سحرها الخلاب، مقتفيا الآثار المتلاشية ﻷسرارها. هناك حيث تكتشف أن للأشياء قلب أرق من البشر.


منحته قصيدة الهايكو فضاءً للفرح والتفاؤل. فضاء جديد تستقبل الحياة من خلاله بنافذة تنفتح على جمال الطبيعة بمشاهد تتجلى فيها مظاهر ذلك الجمال تعبر عنها بما يليق بها من جمل شعرية تكتنز العديد من الصور المبتكرة. تلك التجربة أسهمت فى انفتاح تجربة الشاعر على عالم التأمل والجمال بعيداً عن الحزن والآلام.

تتساءل حين تقرأ لعذاب الركابى: هل هى قصيدة النثر بنكهة الهايكو؟ أم الهايكو بملامح قصيدة النثر؟
فهو يستلهم الطبيعة لكنه يستبدل الطبيعة أحياناً بالإنسان على غرار قصيدة السِنْرْيو​، مرتكزاً على مفرداتها الواقعية لكنه يجنح أيضاً إلى التخييل، وهو يؤنسنها فى كثير من الأحيان، اقتراباً من جنس أدبى آخر ينتمى إلى السحرية الخيالية.«​وتميل صياغته اللغوية نحو البساطة والوضوح لكنه ينزع أحياناً للإضمار والغموض، الأكثر من ذلك أنه يتحرر من البنية الكلاسيكية للهايكو، البيت الشعرى الذى يتكون من الشطرات الثلاث بنيوياً، والمقطعين سيمانتيكياً. مقطعان ينفصل أحدهما عن الآخر كتابياً ويلتقيان ليكتمل المعنى. 


لقد تحرر الركابى من القيود الصارمة ضد التخييل، لأن الارتكاز على التلقى الحدسى وردود الفعل التلقائية أو العقل البديهى، يهدف إلى البرمجة الذهنية للإنسان فى سياق قبول التعايش مع الكائنات بالحد اﻷدنى من الملكات العقلية. 


على الجانب الآخر فإن تغييب التخييل يعد انتقاصاً من القدرات لصالح الطرح المذهبى ويؤدى إلى إعاقة الابتكار واﻹبداع والفن، وقد تحرر الركابى من القيود الصارمة ضد الأنسنة. إن إصرار الهايكو على التلقى الحدسى يستند إلى أنه أكثر نفاذاً إلى الروح ومدعاةً للإيمان. وهناك منظور دينى لعدم الأنسنة، فالطقوس البوذية لا تعتبر الإنسان مركزاً بل هو خيط فى شبكة كلية، وكذلك بقية الموجودات من تراب ونبات وحيوان ونجوم وسديم. إن كلّ زهرة وفراشة، وكل حبة رمل، وكل شجرة تمثل صورة مصغرة للحياة التى نعيشها، وللعالم المعاصر الذى يمور بالوقائع.


لكن فى النهاية، الهايكو فن، والفن إدراك جمالى يخضع لنظرية التلقى، ومنظومة التواصل البشرى هى اﻷرقى واﻷكثر تطوراً بين الكائنات. إذن الفن يراهن على اﻹنسان كمحور للإدراك بينما الهايكو التقليدى يقلل من شأن اﻹنسان لصالح الكائنات اﻷخرى.



تحرر الركابى أيضاً من القيود الصارمة ضد البنية الثنائية، بما أن الهايكو رسائل موجهة إلى الحدس لتحديث اللا وعى الجمعى. إذن لا بد أن تخرج من الذاتية إلى العمومية لتدركها الجموع، بمعادل موضوعى على طريقة «إليوت«، أو معادلة رياضية على طريقة «إزرا باوند«، وأن توجه بعناصر مادية واقعية مألوفة من الطبيعة، كى يتلقاها الحدس مباشرة دون تفكير ولا تحتاج إلى تأويل، وقد اعتمدت آلية الإرسال على ترجمة الانفعال الذاتى للكاتب إلى معادل سهل التلقى، من تماس حالتين (التجاور غير المألوف لعناصر مألوفة) مما يؤدى إلى تشكيل الصورة الفنية/ الجمالية التى تقدح شرارة الدهشة فيما يطلق عليه اللقطة الطازجة، التى تهدف إلى إثارة الشعور الفورى التلقائى العفوى.


اعتمد الركابى البنية المتعددة، ولا بد لنا من الإشارة إلى المناخ الروحى الذى تنبع منه ثقافة أهم شعراء الهايكو الكلاسيكيين ومعظمهم من الرهبان.
الهايكو مشتق من الديانة البوذية رسمت ملامحه فلسفة الزن، وحددت أركانه الأساسية لخدمة طرحها العقائدى، لكن الشاعر العربى لا يحتاج لمرجعيات الهايكو اليابانى ولا فلسفاته لأنه يعتنق التعاليم الروحية لديننا ويستقى ثقافته من تراثنا، لكننا بحاجة للمنظور الرؤيوى والإبداعى، فالهايكو مصدر إلهام يحفز الخيال ويدغدغ أعماق الروح.


فى النهاية لابد من الجزم بمشروعية محاكاة نهج الهايكو. إن البحث عن أنواع فنية متطورة تعبر عن أزمة الإنسان وعن معاناته ومشاعره فى خضم الأزمات التى يعيشها أمر مشروع بل ومطلوب أيضاً. والشاعر فى بحثه عما يخفف الأزمة، يدرك أن أى فنَّ ليس ملكاُ لشعب، بل للتراث الإنسانى. إن عظمة الفنون تتجلى فى أنها لا تعيش إلا فى فضاءات الحرية. إن الإبداع لا تحده حدود ولا قيود، وأن سمته التواصل، فهو ملك الإنسانية جمعاء خاصة إذا أثرى التجربة الحياتية وأرسى قيما أخلاقية.

اقرأ ايضا | اللون.. هو إنسانية المبدع