المناهج الأزهرية.. بين التحرش الفكري وإفك الاتهام!

عبد الهادي عباس
عبد الهادي عباس

لم تعد الصدامات الفقهية وحدها كافية لمواجهة التفكير المتطرف الداعي إلى النبذ والإقصاء، وإنما باتت الدراسات النفسية العنصر الأهم والذي يحتاج إلى توثيق وتمكين في مجامعنا العلمية إذا أردنا بحق فهم طبيعة الطبقات الأركيولوجية عند مُدعي الدفاع عن العقائد في جميع الأديان، والذين حوَّلوا الدين إلى بؤرة من الأوحال التي ارتكسنا فيها جميعًا.
يرتكز العنصر الأعمق في تشكيل عقلية المتطرف في فكرة انتفاء الوطن المُحدد، بحيث يظن- وكل ظنه إثم- أن الرابطة الدينية أقوى من كل الروابط الحياتية والاجتماعية الأخرى، ومن ثم يُبرر لنفسه أو يُبرر له الآخرون أن أعماله الإرهابية تصب في مصلحة الدين الذي نصَّب نفسه مُدافعًا عن أفكاره تُجاهه، فيصبح خائنًا لوطنه عميلًا لغيره بقصد الحصول على مغانم آسنة، أو بدون قصد عن طريق التشويش الفكري الذي يحشره في تلافيف من متاهات سوء الظن والريبة والتوجس وحق التطهير، وغيرها من الأمراض النفسية المعروفة وتلك التي تحتاج إلى سنوات طويلة لفهم وإدراك ألاعيب النفس البشرية.. كل هذا مع عدم إغفال العوامل الاجتماعية والنفسية التي تُحيط بكل هذه الظروف.
إلقاء التهم على طرف واحد في مُعادلة مُتعددة الأطراف يُلقي الكثير من الأعباء الأزلية عن كواهل الناس الذين يظنون أنهم ليسوا طرفا في المواجهة أو عنصرًا في الخلاف؛ ومن هنا تُلقى الاتهامات جُزافا على المناهج الأزهرية باعتبارها سببًا غير مُباشر عند كثير من المثقفين، أو حتى مُدَّعي الثقافة، دونما دراسة علمية حقيقية تكشف نواحي القصور وتُقدم خطوات الحل، وهو ما يُعد نوعًا من التحرشات الفكرية المكشوفة جدا حتى عند عموم الناس.    
تعليق الجرس في رقبة تطوير المناهج الأزهرية لا ينتهي، رغم أن الواقع يشهد بأنه تم تطويرها بالفعل منذ خمسين عامًا، بل ويتم النظر إليها باستمرار، وهناك كُتب جديدة الآن في المناهج الأزهرية بها قدر كبير من التطور ومواكبة العصر الحديث، وإن كنا نحتاج إلى مزيد من النظر في المناهج ليكون تطويرها متوافقا باستمرار مع الأوضاع الجديدة، وعلى مشايخ الأزهر تكوين آراء جديدة مستمدة من أفكارهم ورؤاهم الخاصة، لا مجرد اجترار للأفكار القديمة والفتاوى التي انتهت صلاحيتها الفكرية. 
المثقفون الذين يُقدمون شواهد من كتب غير موجودة مثل: "الإقناع لأبي شُجاع" وغيرها من الكتب التي انتهت منذ زمان قديم فإنهم يُرددون أقوالًا قديمةً بهدف إثارة البلبلة والتشنيع على الأزهر، بل إن بعضهم يستغل موضوع تجديد الخطاب الديني ويجأر بالمطالبة بإلغاء القرآن والسنة ليُصبح الأمر فوضى، وهؤلاء توجهاتهم معروفة ولا يصح أن نعوّل عليهم في أي فكر؛ وصحيح أن القرآن والسنة لا تجديد في نصوصهما، وإنما التجديد يكون في الفكر الديني، أي في التفسيرات والحواشي التي تُفهم من القرآن والسنة، فالتجديد هنا لفهمنا نحن وليس للخطاب الديني نفسه، وذلك يستدعي استيعاب آراء السابقين، وأن يكون لصاحب الخطاب فهم مختلف ورأي جديد.
الأديان مهمتها الأساسية تسيير العلاقات بين البشر وتأكيد قيم التعاون والتعاضد لأنها وسيلة من وسائل رفعة الإنسان وتحضره، ويتجلى هذا التحضر في مدى قبولية الآخر؛ ولهذا فإن المناهج الأزهرية مطالبة دائمًا بالتواكب مع هذه الأفكار، والتركيز على ما يُعلي شأن الإنسان ويُحدد علاقاته بأفراد المجتمع الذي يعيش فيه.
إن فكرة التأكيد في المناهج في المراحل الأولى على أن ديني هو الأفضل ودين الآخرين هو المُخطئ، ربما تسهم في بناء جدار العزل وإسدال مساحات الاختلاف وتكوين بداية في بناء وتشكيل سمة الاصطفاء وكأن الدين الذي أنتمي إليه هو المختار الذي يملك الحقيقة الواحدة التي لا يملكها الآخرون، ويمكن التغلب على ذلك من خلال إحلال مقررات ترتبط بمناخ إنساني وأخلاقي عام يوضح الحقوق والواجبات على الجميع ويدعم قيم المواطنة وينظر لتحديات الأمن القومي كدولة ذات كيان واحد مرَّت بتاريخ واحد وعاشت تحديات مشتركة، وهذا ما أصبح لافتا في المقررات الأزهرية خلال السنوات الأخيرة، ويجب أن تستمر لتحيط بالأفكار الجديدة خلال الفترات المقبلة.