نعيد نشر مقال «ريف مصـر.. وقائد استثنائي» للكاتب الصحفي ياسر رزق

الكاتب الكبير الراحل ياسر رزق
الكاتب الكبير الراحل ياسر رزق

إيمانًا من بوابة أخبار اليوم، بقيمة الكاتب الكبير الراحل ياسر رزق، صحفيًا ومهنيًا وإنسانيًا، سوف نعيد نشر مقالات رزق، لمحبي وعشاق قلمه، الذي حتى وإن رحل الجسد؛ سوف يظل نابضًا في قلوبهم.

يقول رزق، في مقال بعنوان «ريف مصـر.. وقائد اسـتثنائي» ونشرته بوابة أخبار اليوم بتاريخ 30 يناير 2021 : المشروع‭ ‬القومى‭ ‬لتطوير‭ ‬كل‭ ‬قرى‭ ‬مصر‭ ‬فى‭ ‬3‭ ‬سنوات،‭ ‬يستهدف‭ ‬أيضًا‭ ‬تشغيل‭ ‬أبناء‭ ‬الريف،‭ ‬والحد‭ ‬من‭ ‬الهجرة‭ ‬للحضر،‭ ‬وتنشيط‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬ولابد‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬للثقافة.

 

ثمة من يتحدثون عن التفكير خارج الصندوق، من زاوية أن مشكلاتنا تحتاج إلى حلول غير مطروقة. كأننا استنفدنا كافة الأفكار التى أنتجها العقل المصرى على مدى عقود طويلة، وصار لزاماً أن نفتش عن غيرها إذا أردنا أن نتجاوز العقبات ونذلل الصعاب ونجد السبل.

بعض الذين يحلو لهم ترديد عبارة "التفكير خارج الصندوق"، ليست لديهم مفاتيح الصندوق ليدركوا الإمكانات الموجودة بداخله، وبعضهم تعوزه ملكة التفكير داخل أبعاده حتى ينطلقوا خارجه إذا ما استعصت عليهم مغاليق الصندوق..!

الحقيقة أن العقلية الجماعية، تستبد بها بين حين وآخر تعبيرات ومصطلحات، تطغى على الحوارات فى المنتديات والمحافل ووسائل الإعلام وحتى بين الأفراد وتلوكها الألسن فى محلها أو فى غير مقامها، حتى تتآكل بفعل عوامل التعرية الذهنية والزمنية، ويأتى غيرها، كصيحة فكرية تحل محلها.

أذكر منها تعبير الحتمية التاريخية الذى يفترض أن فى السياسة مسلمات قدرية، بينما السياسة لا تعرف مسلمات، والأقدار لا تتدخل فى مسارها بقدر فعل البشر بنوازعهم وتقلباتهم.

كذلك ألفاظ الآليات والشفافية وغيرها، التى تبتذل فى غير مواضعها.

عموماً تعبير "التفكير خارج الصندوق" ليس مصرياً، إنما هو مترجم حرفياً عن اللغة الإنجليزية، ولعله اصطك بعدما اختبرت المجتمعات الغربية أفكاراً ورؤى، واستهلكتها فى تجربتها وتنفيذها وتقويم نتائجها.

***

لسنا فى حاجة الآن من أجل حل مشكلاتنا فى مصر إلى تفكير خارج الصندوق. بل نحتاج إلى استدعاء أفكارنا من داخل الصندوق بعدما ظلت حبيسة عقوداً، حتى ران عليها غبار الإهمال والاستهانة، برغم أنها فى معظمها تتعامل مع صلب المشكلات وأم أزمات المجتمع المصرى.

بوضوح.. لم تكن تعوزنا الأفكار إنما كنا نفتقد الرؤية الشاملة، وشجاعة القرار، وهمة التنفيذ، وترتيب الأولويات، وأيضاً حسن تدبير التمويل.

هذا هو ما وجدناه فى القيادة المصرية الحالية. قيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى صاحب الرؤية والقرار والهمة.

***

أنت وأنا، لكل منا زاوية رؤية، ينظر منها للأمور، وللقضايا، وللمشكلات، وللحلول.

تختلف الرؤية حسب موقع كل منا من المشهد. فننشغل بتفاصيل ما نراه فى جزء يسير من المشهد، من ثم نتصور أنها هى كل المشكلة.

القائد يرى الصورة فى مجملها، التى يطل عليها، بحكم موقعه الأعلى من الجميع.

القائد الحقيقى لا تشغله النظرة الشاملة للمشهد بألوانه وظلاله والعلاقات بين عناصره وحركة كل منها داخل المشهد، عن تفاصيل كل زاوية وركن ومشكلاتها.

أما القائد الاستثنائى، فهو الذى لا يكتفى بالنظرة الشاملة، وإنما ينطلق منها إلى رؤية شاملة، تبحث عن حلول شاملة، تعالج الجزئيات المترابطة فى المشكلات القائمة.

النموذج على ما قلت هو المشروع القومى لتطوير القرى المصرية فى خلال 3 سنوات.

فهو مشروع من داخل الصندوق المصرى الزاخر بالأفكار التى تمتنع على غير ذوى القرار والهمة.

هو أيضاً مشروع يفصح عن رؤية قائد استثنائى، وضع أمامه هدفا عصى على غيره، يسعى بكل ما أوتى من فكر وعزم على تحقيقه.

***

منذ 3 أسابيع، كتبت هنا عن مشروع تطوير قرى مصر، تحت عنوان "مشروع مارشال المصرى" هو بالفعل أقرب لمشروع "جورج مارشال" وزير الخارجية الأمريكى الأسبق الذى أعاد بناء أوروبا الغربية بعد الدمار الذى لحق بها فى الحرب العالمية الثانية.

منذ 8 أيام، بالتحديد يوم السبت الماضى، تحدث الرئيس السيسى عن رؤيته لهذا المشروع خلال افتتاحه مشروع الفيروز للاستزراع السمكى فى شرق بورسعيد.

هدف المشروع -كما قال الرئيس- هو تغيير وجه الريف المصرى بشكل متكامل، بدءاً بالقرى الأكثر احتياجاً، لينتهى تطوير جميع القرى وعددها 4500 قرية خلال 3 سنوات بتكلفة إجمالية 500 مليار جنيه.

البداية ستكون خلال هذا العام فى 1500 قرية تقع فى زمام 50 مركزاً فى 22 محافظة.

سيتم فى إطار المشروع تجميع الاعتمادات المخصصة للريف فى مجالات الكهرباء والرى والتعليم والصحة والإسكان، وحشدها لتنفيذ المشروعات لإنهائها مرة واحدة فى كل مرحلة من المراحل الثلاث على مدى 3 سنوات، للارتقاء بالقرى المصرية، لنجد ريفاً مصرياً جديداً فى كل أرجاء مصر، ظل حلما عصى على التحقيق على مدى قرون.

ويوم الأربعاء الماضى، ناقش مجلس الوزراء هذا المشروع الذى تم اعتباره مشروعاً قومياً، لتسهيل الإجراءات الخاصة بالتراخيص والانشاءات، وتوفير الاستثناءات من سداد الرسوم الخاصة بالتصاريح، أى تذليل العقبات البيروقراطية التى يمكن أن تعرقل انطلاقته.

فى الاجتماع، أوضح د.مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء أن المشروع سيسهم فى تغيير وجه الريف المصرى وتحسين مستوى معيشة 58 مليون مصرى هم أبناء القرى، وسيحقق نقلة نوعية فى شكل الدولة.

انطلاقة المرحلة الأولى للمشروع بدأت هذا الشهر من مركز أبوقرقاص فى المنيا، ومركز ساحل سليم فى أسيوط.

***

مشروع تطوير القرى، هو فى جوهره مشروع لتحسين حال 60٪ من أبناء مصر قاطنى الريف، لتوصيل وتحديث مرافق الصرف الصحى التى دخلت أكثر من 40٪ من القرى بعدما كانت النسبة لا تتعدى 15٪ عام 2014، ومد شبكات الطرق والغاز الطبيعى والاتصالات والكهرباء بوصفها عصب الحياة، وكذلك إنشاء المدارس والمعاهد والوحدات الصحية والمستشفيات، وإصلاح المنازل التى يفتقر بعضها إلى أسقف، وهدم البيوت المتهالكة وإنشاء منازل كريمة بديلة لقاطنيها، وتبطين جوانب الترع، فى الدلتا وعلى جانبى النهر فى وادى النيل، لتقليل الفاقد بجانب تطوير نظم الرى.

كل ذلك بجانب إنشاء مجمعات صناعية حسب نشاط كل منطقة لاسيما فى مجالات التصنيع الزراعى والصناعات البيئية.

لكن الحقيقة أن هذا المشروع لا يستهدف فقط تطوير وجه الحياة فى الريف، وإنما فى الحضر أيضاً.

ذلك أن الذين سيقومون بأعمال تطوير المساكن، وتعبيد الطرق وإنشاء محطات المياه والصرف الصحى ومد شبكات الكهرباء والغاز والذين سيعملون فى المصانع الصغيرة لتعبئة وتصنيع المنتجات الزراعية وغيرها، هم من أبناء القرى نفسها.

ومن ثم فإننا مع توفير فرص العمل داخل القرى لسكانها، نتجنب هجرة العمالة إلى الحضر والضغط على مرافق وخدمات المدن، وهذا الهدف ظل لا يفارق منطقة الشعارات إلى نقطة التحقق منذ وعى جيلى والأجيال التالية على الدنيا.

فضلاً عن أن التوسع فى إنشاء المدارس بالقرى يخفف الضغط عن مدارس المراكز، كذلك إنشاء الكليات بالمراكز يحسن من خدمة الدراسة الجامعية بعواصم المحافظات.

***

أمر آخر.. هو أن الإنفاق الضخم على المشروع سيذهب فى غالبيته العظمى إلى المصانع المصرية التى ستتوسع فى انتاجها من مستلزمات البناء لتلبية احتياجات تطوير المساكن وتبطين الترع.

وستضيف إلى طاقاتها الانتاجية توسعات جديدة للوفاء بالاحتياجات المطلوبة من كابلات الكهرباء وخطوط المياه والصرف ومكونات محطاتها وشبكات الغاز وغيرها.

مما يعنى زيادة الانتاج ومن ثم توفير فرص العمل والتشغيل فى هذه المصانع، بما ينعكس على الاقتصاد القومى بمجمله فى هذه الظروف غير المواتية للاقتصادات العالمية فى ظل جائحة كورونا.

نفس الشىء بالنسبة لشركات المقاولات الكبرى والمتوسطة وأيضا الصغرى فى المراكز والقرى التى سيتسع نشاطها ومن ثم قدرتها على التوظيف والتشغيل.

المسألة إذن ليست فقط تحسين ظروف المعيشة فى القرى بصورة مباشرة، وفى المدن بصورة غير مباشرة، وإنما أيضا زيادة دخول الأفراد والأسر فى القرى وكذلك فى المدن والحد من نسبة الإعالة داخل الأسرة الواحدة.

***

أسلوب تنفيذ مشروع "حياة كريمة" لتطوير القرى المصرية، أو مشروع "مارشال المصرى"، يكشف بوضوح عن رؤية استراتيجية للقيادة، وتخطيط متكامل للحكومة.

فالاستراتيجية فى أبسط تعريفاتها، هى حشد كل الموارد والإمكانات فى الدولة لتحقيق أهدافها الشاملة.

ذلك أن القائمين على التنفيذ فى هذا المشروع، معظم وزارات الدولة المعنية، والقوات المسلحة ممثلة فى الهيئة الهندسية، واتحادات الصناعات والغرف التجارية، والجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدنى.

وفى رأيى المتواضع، فإن لوسائل الإعلام والمثقفين المصريين دوراً لا غنى عنه، فى مواكبة مراحل تنفيذ هذا المشروع الذى أعتبره الأهم فى هذا القرن، ونقل صورته أولاً بأول إلى الرأى العام عبر المحطات والصحف والبوابات الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعى، كذلك فى التعبير عنه من خلال الأغنية والمسلسل والفيلم والمسرحية، لحشد الطاقات وشحذ الهمم، وأيضاً كمخزون فنى تتوارثه الأجيال وهى تتحدث عن مجد مصر الجديد.

***

لست أظن أن المكون الثقافى فى مشروع تطوير القرى غائب عن رؤية القائد، ولا عن تخطيط حكومة الدكتور مصطفى مدبولى الذى أعتبره رجل إنجاز مثلما هو معروف عنه كخبير من الطراز الأول فى التخطيط العمرانى.

مع ذلك أسمح لنفسى بأن أقترح أن يشمل المشروع إنشاء قصر ثقافة فى كل قرية كبرى وبيت للثقافة فى كل قرية صغرى، وفق نماذج موحدة تراعى التكامل بين كل المكونات الثقافية من مكتبة عامة، ومسرح بسيط، وقاعة لوسائط الإعلام المتعدد، وفرق للموسيقى والفنون الشعبية والغناء.

لست متخصصاً فى تخصيص الموازنات، لكنى أفترض أننا لو خصصنا مبلغ 10 مليارات جنيه من الاعتمادات الاجمالية لتطوير القرى وقدرها 500 مليار جنيه، أى بنسبة 2٪ فقط منها للجانب الثقافى، فإن نصيب كل قرية من المكون الثقافى سيبلغ 2 مليون جنيه، وهو مبلغ ضخم يحقق نقلة ثقافية هائلة.

لدينا مناجم بشرية فى قرى مصر، ربما تكشف لنا قصور وبيوت ثقافة القرى عن مكنونها، ونجد أنه ليس صحيحاً أن أم كلثوم وسيد درويش وعبدالوهاب والسنباطى ونجيب محفوظ والعقاد وطه حسين والحكيم ويوسف وهبى وزكى طليمات وفاتن حمامة وسميحة أيوب وسناء جميل وعادل إمام وعبدالحليم حافظ ونجاة وشادية وغيرهم من أساطين الفن والأدب، كانوا أبناء لرحم عقر عن الإنجاب.

مسألة أخرى لا يجب إغفالها، ولا أظن أنها ليست فى بؤرة اهتمام القيادة، هى أنه كلما امتد الوعى وانتشرت الثقافة انحسر التطرف والتعصب، فلا يهزم الإرهاب ولا يدحر التخلف، إلا جيوش الوعى والثقافة.

***

لست أستبق الزمن، ولكنى أؤمن وقد شرعنا بالفعل فى تنفيذ هذا المشروع القومى الأهم فى القرن الحادى والعشرين.. إنه لو كان هذا المشروع هو إنجاز الرئيس السيسى الوحيد، لكفاه اعتماداً واستحقاقاً فى تصدر سجلات تاريخ مصر المعاصر، ولست أبالغ إذا قلت إنه المشروع الأكثر تعبيراً عن تطلعات الشعب المصرى فى أحلام شبابه فى ثورة 25 يناير وآمال جموع شعبه فى ثورة 30 يونيو.