«Drive My Car» ملحمة وجودية تستحق أن تتوج كأفضل أفلام العام

المخرج الرائع ريسوكى هاماجوتشى يحمل إحدى جوائزه عن «قودى سيارتى»
المخرج الرائع ريسوكى هاماجوتشى يحمل إحدى جوائزه عن «قودى سيارتى»

عن خيبة الأمل، الحزن والوجع من أرواح لا تشبهك لكنك تحبها، الهزيمة أمام الحياة بكل ما فيها، والبحث عن الراحة والسكينة فى رحلة لاكتشاف الذات وسلام ربما لا تلقاه إلا بعد الموت، يأتى الفيلم اليابانى العبقرى «Drive My Car» « قودى سيارتى « ليضعك أمام أسئلة وجودية ربما لا تجد لها إجابة، وإن حاول الفيلم المستلهم من فلسفة كافكا، ومسرحية تشيكوف « العم فانيا « التى تلقى بظلها وحوارها على الأحداث !


ثلاث ساعات دون ملل ولو للحظة واحدة ، يدعوك المخرج المؤلف ريسوكى هاماجوتشى للتأمل بهدوء فى رحلة إنسانية ليوسوكى كافوكو -ربما أراد المخرج الإشارة لدخولك عالم كافكا - المخرج المسرحى المعذب، بعد مأساة فقده لابنته الصغيرة.

 

ثم زوجته أوتو التى رحلت فجأة لتسيطر عليه مشاعر متضاربة ويدخل فى دوامة لا يستطيع الخروج منها ، وينفصل عن العالم إلى حين ، موجها كل طاقته إلى فنه إلا أنه يهيم بروحه مع أوتو التى يعشقها .

رغم أنها لا تشبهه ،امرأة جميلة غريبة الأطوار ، مؤلفة وممثلة تليفزيونية يأتيها الوحى أثناء علاقتها الحميمة مع زوجها التى تبدو تعشقه بشدة ،لكنها تخونه مع ممثل شاب بنفس الشغف ..

فى أحد الأيام يسافر زوجها لكنه يعود فجأة بعدما تلغى رحلته ، يفتح باب بيته ليجدها فى أحضان الممثل ،فيغلق الباب بهدوء ويرحل ،ويعود كأنه لم ير شيئا ، لكن لا شيء يعود كما كان !

 

 


بعد حين تدعوه زوجته لحديث مهم ، لكنه لا يهتم ويعود متأخرا ، ليجدها قد فارقت الحياة متأثرة بنزيف فى المخ ، ليعيش معذبا بها وبذنب يسيطر عليه ، فربما لو استجاب ولم يتأخر عليها كان أنقذها ، لكنه القدر !


يترك المخرج طوكيو ماضيه ويرحل لهيروشيما ليخرج مسرحية « العم فانيا « لتشيكوف ، لفرقة دولية يتحدث أبطالها ثماني لغات غير لغة الإشارة .. يفارق الماضى والمكان ، لكن الماضى والذكريات لا يفارقانه ، يعيش أسيرا لأحزانه وأزمته النفسية مع زوجته التى لا يفارقه صوتها .. على الطريق ،فى سيارته الحمراء وهى أحد أبطال الرواية ، يأتى صوت زوجته تتلو حوار تشيكوف وكأنه معلق على الأحداث والمشاعر .


يروض يوسوكى نفسه فيجبرها على التعامل مع عشيق زوجته الراحلة أوتو لاعتبارات مهنية ،ويتحمل صراحة الممثل العاشق وهو يحسده لأنه عاش مع أوتو كل هذه السنوات فيسند إليه دور العم فانيا !  


يحب يوسوكى سيارته ويستمتع بالقيادة، لكن فى هيروشيما يضطر للتخلى عن ذلك وقبول وجود سائق ليقود السيارة فى رحلته اليومية  الطويلة ذهابا وإيابا ، فيروض نفسه مرة أخرى ،لتدخل حياته الفتاة الشابة ميساكى تقود سيارته، هى أيضا تبدو حزينة بائسة ، صامتة ، مثله منفصلة عن الواقع .

 

تسمع معه كل يوم حوار « العم فانيا « بصوت زوجته المسجل على أشرطة كاسيت ، فى صمت مهيب بليغ ، تعبر ملامحهما عن خيبة وقهر ووجع لا نهائى ، فهى الأخرى تنازعها مشاعر متضاربة تجاه أمها القاسية والتى تخلت عنها ولم تنقذها عمدا لتموت وتستسلم هى لحزن ونفس لوامة تعذبها ..

هكذا جمعه القدر بروح تشبهه رغم اختلافات ظاهرية !


تبدأ العلاقة الجديدة رسمية ،كل فى مكانه الجديد ميساكى السائق ( الطبقة العاملة ) فى مركز القيادة التى تخلى عنها كافوكو ( المخرج الكبير) ،ليجلس فى المقعد الخلفى مضطرا ، منشغلا بعمله والانصات لصوت زوجته ، ولا حوار بينه وميساكى أبدًا ، لكن بعد وقت ورحلات طويلة على طريق يبدو بلا نهاية ، يكشف كل منهما أسراره للآخر .

ويقتحم عالمه ، يتخلى كل منهما عن الصمت والأسرار كأنه ينفض عن كاهله وقلبه ذنوب وخيبة السنين .. تقترب الروحان ، تتحرران ، وحينها فقط ، ينتقل يوسوكى بجوار ميساكى فى المقعد الأمامى بسيارته ، يتنفسان هواء جديدا ، ويتبادلان السجائر والمشاعر ولا تذهب العلاقة لأى منحى آخر، فلم ينزلق المخرج لحسابات تجارية أبدًا ، حتى مشهد علاقة الزوجة بعشيقها كان سريعا خاطفا ، حتى لا يشتت المخرج تركيزك عن رسائله الفلسفية العميقة وتأملاته الوجودية .


يأخذ كل منهما الآخر حيث يحب  يأخذها للمسرح ، و تأخذه لمبنى ضخم لإعادة تدوير القمامة ! ..

يعيدان النظر فى الحياة بكل ما فيها من ألم ، وتهديه السبيل للخروج من أزمته ، بالتسامح ، مع خيانة زوجته ونفسه والحياة .


تبدو هيروشيما بطلا آخر ومهما  للرواية الحزينة ، مأساة إنسانية لا تنسى ،المدينة المنكوبة التى دمرتها قنبلة أمريكا الذرية ، حطمتها تماما ، لكنها تغلبت على دمارها وحطامها وعادت للحياة من جديد .. السر فى التسامح والتصالح مع الماضى والنفس والآخر ، والبحث عن السلام .


سرد مركب ومعقد ، يحتاج لإعادة المشاهدة ، لتكتشف ما يدهشك كل مرة ، وتنحاز للغة السينمائية للمخرج المبدع  ريسوكى هاماجوتشى الذى يأخذك لعالمه ، فى رحلة فلسفية تبحر معه فى مستويات متعددة ، تداخل فيها تكوين الصورة والألوان والمكان ، مع عمق السيناريو ليقدم فى النهاية تحفة سينمائية رائعة تستحق أن تتوج كأفضل أفلام العام ، ليس فقط  كفيلم ناطق بلغة غير إنجليزية وإنما بشكل عام ، لكن لهوليوود والأوسكار حسابات أخرى ، قد تميل إلى « قوة الكلب « فترجح كفته ، وهو المتوقع ولا أتمناه !

إقرأ أيضاً|موجة الدراما التليفزيونية الكورية تكتسح العالم !