«الجمعية السرية» التي تحكم الإخوان

الإخوان
الإخوان

عمر فاروق

..في إطار الصراعات القائمة بين جبهتي جماعة الإخوان المتمثل في مجموعة «مكتب لندن»، بقيادة إبراهيم منير، ومجموعة «مكتب تركيا»، بقيادة محمود حسين، يذهب بعض المحللين والمراقبين أن التنظيم إلى زوال، وأن ثمة حقائق ووقائع تدفع به إلى  الهاوية والنهاية معًا.

 

لا يمكن التنبؤ بمصير ومستقبل جماعة الإخوان، إلا في ضوء قراءة الأزمات التي مر بها التنظيم على مدار تاريخه وصراعه مع الأنظمة السياسية، وقدرته ليس فقط، في إعادة بناء كياناته التنظيمية وإعادة هيكلتها بما يتراءى مع المتغيرات والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لكن كذلك في إطار قدرته على تحسين الصورة الذهنية وتجميل ملامحه وغسل سمعته أمام الدوائر المجتمعية العربية والأوروبية.


ثمة مجموعة تدير المشهد الإخواني، في شكل أقرب للجمعية السرية التي تتحكم في مقاليده وآلياته، دون أن تتصدر المشهد التنظيمي أو تصاحبها البروباجندة الإعلامية، تصنع رؤيته وسيناريوهاته الجديدة، وتضع ملامح مشاريعه وخططه الاستراتجية خلال مرحلة حرجة في ظل سقوط مدوي، أملاً في محاولة إعادته للحياة، ووفقًا لأدوات ليست تقليدية، لكنها مختلفة عما سبق وتتفق مع متغيرات العصر الحالي.


تلك الجمعية السرية تكمن مصلحتها بوضوح في إزكاء الصراع الدائر بين جبهتي تركيا ولندن، بما يحقق لها أهدافًا عدة، أهمها تبديل الأجيال والوجوه والرموز، والخلاص من شخصيات ربما انتهى دورها في المشهد فعليًا، مع تكريس فكرة سقوط التنظيم شعبيًا وسياسيًا في محاولة للإلهاء عما تسعى إليه من إنتاج مشروع تنظيمي جديدة مصنوع وفقًا لرؤيتها الحديثة التي تتخذ من الليبرالية غطاءً لإعادة تموضع مشروعها الأصولي وهيكلها التنظيمي الجديد، وبعيدًا عن حالة التهويل من جماعة الإخوان وقوتها وتأثيرها، فالحقيقة التي لا يمكن للباحثين والمراقبين تجاهلها تكمن في خطورة وقدرة هذه الجماعة على التغلغل في قلب وعقل المجتمعات العربية، على مدار أكثر من 90 عامًا، تبدلت فيها الكثير من المعايير والقيم الدينية في ظل تصدير حالة أصولية بعيدة تمامًا عن وسطية الشريعة ومقاصدها، مستخدمة فيها الكثير من الوسائل والآليات والأهداف التي تجعلها متسيدة للمشهد حتى في ظل ضعفها وترهلها الفكري والتنظيمي.


تضم الجمعية السرية التي تحكم جماعة الإخوان المسلمين، شخصيات متأثرة بشدة بالأجندة الغربية ومصالحها، ويغلب عليهم الجنس العربي، من المصريين والعراقيين والسوريين المهاجرين منذ ستينات وخمسينات القرن الماضي، وربما هم في الحقيقة أصحاب الرؤية الجديدة التي تطالب بتحرير الجماعة من قيود التنظيم، والاتجاه به نحو حالة السيولة الفكرية، تأقلمًا مع الأوضاع والمتغيرات التي يشهدها المجتمع العربي.
تمثل الجمعية السرية التي تحكم جماعة الإخوان المسلمين، أطرافًا عدة ذات مصالح عامة وخاصة، ولا تبتعد نهائيًا عن مسارات الأجهزة الاستخباراتية والاستعمارية الكبرى، والتي لن تترك هذه الجماعة تسقط في بئر النسيان والانهيار دون أن تضع لها روشتة الخروج من الأزمة الراهنة، كونها تمثل لهم أحد أهم أدوات الترويج لمشاريع التقسيم، وافتعال الشقاق والاختلاف في عمق المنطقة العربية والشرق الأوسط.


هذه الجمعية السرية هي صاحبة القرار الفعلي داخل الإخوان، رغم تظاهرها بالولاء والتبعية لمكتب الإرشاد بالقاهرة، لكنها في الحقيقة هي مَن كانت تضع الخطط والرؤى والاستراتيجيات التي يتم تعميمها داخل التنظيم، فالجماعة فعليًا كانت تدار من الخارج وليس من الداخل المصري، منذ تسعينات القرن الماضي، وليس كما يظن البعض أن مكتب الإرشاد «صاحب قراره»، فبعض القيادات التاريخية والرئيسية لم تدرِ حقيقة تمرير التعليمات ومصدرها  الفعلي.


مرشدو الإخوان أمثال عمر التلمساني، ومحمد حامد أبو النصر، ومأمون الهضيبي، ومحمد مهدي عاكف، ومحمد بديع، كانوا مجرد برافانات وواجهات تنظيمية، ربما يخرج عن تلك الحسبة في مجملها المرشد الخامس مصطفى مشهور (مؤسس التنظيم الدولي)، لكن  في النهاية ظلت الخيوط الأساسية كانت في أيدي أفراد قلائل جداً، ولم تكن هذه القيادات متصدرة للمشهد، بل هي ذاتها كانت تتلقى التعليمات من الخارج، وربما هذا ما كرس لسيطرتها على الكثير من الملفات الهامة في الداخل المصري (نموذجًا)، ولم تكن في أيدي قيادات أخرى، مع تكرار ذات الإشكالية في المكاتب القطرية للتنظيم أو ما يعرفون بـ«المراقبين الدوليين».


الجمعية السرية التي تحكم جماعة الإخوان المسلمين، تهيمن فعليًا على المسارات المالية التابعة للتنظيم الدولي، وتطرح رجالها وأتباعها في مقدمة الصفوف، بل تمرر أفكارها ورؤيتها وتفرض مشروعها بسلاسة متناهية دون أن تكون في الصورة نهائيًا، لما تمتلكه من سيطرة تامة على مفاتيح كيانات الجماعة بالكامل.


الجمعية السرية التي تحكم الإخوان، تعيد حاليًا هيكلة التنظيم عن طريق ما يعرف بـ «بيوت الخبرة الدولية».، لوضع مشاريع وبرامج تستهدف تحسين الصورة الذهنية والعامة وتسعى للترويج والتسويق الإعلامي للجماعة مرة أخرى، فضلاً عن استخدام برامج التطوير الإداري للهكيل التتظيمي، وبرامج التدريب على فنون القيادة والتأثير، وبرامج إعادة التأهيل الفكري النفسي.


ما نتحدث عنه ليس محض خيال، لا سيما أن تلك المعلومات خارجة من داخل الكيان الإخواني؛ فالجماعة فعليًا استعانت من قبل بـ«بيوت خبرة دولية». في تسويق مشروعها وتحسين صورتها إعلاميًا، وإعادة تطوير هيكلها الإداري، خلال نهاية تسعينات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، مستعينة بالدكتور هشام الطالب، أحد رجالها المخضرمين والمتخصصين في هذا المضمار منذ سنوات طويلة، والذي ولد في العراق عام 1940، وحصل على بكالوريوس في الهندسة الكهربائية من جامعة ليفربول، بالمملكة المتحدة 1962، وتحصل على الدكتوراة في الهندسة الكهربائية من جامعة بردو في انديانا، بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1974.


وقد شغل هشام الطالب عدة مناصب في مختلف المنظمات الإسلامية التابعة للتنظيم الدولي، أهمها مسؤولية قسم التدريب القيادي في رابطة الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة وكندا بين عامي (1975-1977)، وأمين عام الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية (1976)، وقد أشرف على الكثير من الدورات التدريبية والقيادية وعمليات التأهيل الفكري في أمريكا الشمالية وخارجها.


كما تولى هشام الطالب الإشراف على قطاعات المعهد العالمي للفكر الإسلامي (1981) في واشنطن، والذي يعتبر أحد مؤسسيه، كما أنه عضو مؤسس لمؤسسة سار الخيرية (1983-1995)،وكان المعهد العالمي للفكر الإسلامي ضمن 29 كيانًا جاء في الوثيقة الإخوانية المسربة والمعنونة بـ«وثيقة تفسيرية، للهدف الاستراتيجي العام للجماعة في أمريكا الشمالية». والتي تداولتها الصحف والمواقع العالمية عام 2003.


وهي الوثيقة التي ضمت 6 أهداف رئيسية ومباشرة، وشملت:  إيجاد حركة إسلامية فعالة ومستقرة بقيادة الإخوان المسلمين، وتبني قضايا المسلمين محلياً وعالمياً، وتوسيع القاعدة الإسلامية الملتزمة، وتوحيد وتوجيه جهود المسلمين، وطرح الإسلام كبديل حضاري، ودعم إقامة دولة الإسلام العالمية أينما كانت.


وقد وضع هشام الطالب أحد أهم برامج التدرب والتأهيل الإداري لجماعة الإخوان، تحت عنوان «دليل التدريب القيادي».، والذي عرف حينها بمسمى كتاب «التقرير».، موضحًا في مقدمة مشروعه الفكري والإداري، أن أهداف البرنامج الأولية ترتكز في إنتاج جيل من رواد التغيير الاجتماعي الإسلامي النشطين والمؤثرين، الذين أوتوا المعرفة والحكمة، ويدعون إلى الله على بصيرة ووعي، من خلال الإتصال المقنع والحوار الفعال، وأن برنامج  التدريب يسعى في جوهره إلى إعداد جيل يعي أولوياته، كي يصبح جزءًا من الحل بدلاً من أن يفاقم المشاكل، ليحقق أهدافه بأقل جهد، بناءً على آليات ووسائل متطورة (على حد زعمه).


وحول عملية التطوير والتدريب الإداري، صاغ  هشام الطالب عددًا من المفاهيم المرتبطة بعملية القيادة المؤثرة داخل الجماعة، مثل طريقة صناعة القرار، ومراحل عملية انتقاء القيادات داخل التنظيم، وأسس حل المشكلات، ومعوقات القرار والتنفيذ، ومبادءئ التخطيط، وأسس التقويم، وكيفية بناء فريق العمل والإنجاز الجماعي، وفنون إدارة الاجتماعات، منتقلاً عقبها إلى البيئة التي يتم فيها صقل إمكانيات القيادات التنظيمية، لا سيما من خلال المخيمات التأهيلية وأهدافها وتصميم برامجها التربوية والتدريبة، والبرنامج في مجمله يستهدف إعداد قيادات مؤهلة لإدارة المشاريع الفكرية والتنظيمية لجماعة الإخوان.


اعتماد قيادات التنظيم الدولي على فنون التنمية البشرية والتطوير الإداري داخل المنظومة الإخوانية، يدفع إلى تغيير الاستراتيجية الحاكمة للجماعة خلال المرحلة الراهنة في ظل مرورها بحالة من الانحصار السياسي والفكري والاجتماعي، لضمان بقائها واستمراريتها في عمق المنطقة العربية، لا سيما أنها تعتمد على خطط ليست قصيرة ومرحلية فقط، لكنها طويلة النفس والأمد، ومنصبة على تفادي أخطائها المعاصرة، في ظل ارتكاز بنيتها التنظيمية على الأجيال الجديدة ابتداء من الأطفال والمراهقين انتهاء بالكوادر الشبابية.


وقد تحدثنا من قبل عن اجتماعات تمت في منتصف عام 2018، ضمت (58) قيادة بالتنظيم الدولي، ودورها فيما تناولته «وثيقة لندن». المسربة، من محاولات لغلق التنظيم على أعضائه،  وعدم التوسع في ضم نماذج بشرية جديدة مؤقتاً، في ظل مرور الجماعة بنوع من تجفيف منابع الاستقطاب والتجنيد إجباريًا، والإبقاء على بقايا التنظيم تحت مسمى «جمع الشّمل».، مع ضرورة الانفتاح على المجتمعات مع إسقاط الجدار التنظيمي، وصوغ خطاب ينتقل من المحلية إلى العالمية.


وذلك عن طريق تأسيس كيانات تنفذ مسارات «القوة الناعمة».، وصناعة كوادر نخبوية تحمل توجهات الإسلام الليبرالي، بهدف السيطرة على الشريحة العمرية الجديدة دون الدعوة للانتماء أو الاصطفاف التنظيمي، وعدم التركيز على الوسائل التقليدية في تنفيذ سيناريوهات «أسلمة المجتمعات».، إذ أنها لم تعد في حاجة لمزاحمة النظام السياسي الحاكم في السيطرة على مؤسسات الدولة وتطويعها، لا سيما في ظل انفتاح الساحة أمامها في احتلال الفضاء الأزرق بمخلتف تنوعاته (السوشيال ميديا).