طارق النعمان يكتب: في محبة جابر عصفور.. وفي محبة الترجمة

طارق النعمان  يكتب : فى محبة جابر عصفور ..  وفى محبة الترجمة
طارق النعمان يكتب : فى محبة جابر عصفور .. وفى محبة الترجمة

إذا كان يقترن بلقبى اليوم وصف المترجم، وإذا كان لى اليوم حوالى عشرة كتب ما بين ترجمات ومراجعات لترجمات، وعشرات المقالات المترجمة فى مجالات مختلفة، فإن فضلاً أصيلاً يعود فى ذلك إلى جابر عصفور، ليس فقط فى سياق تأسيسه للمشروع القومى للترجمة، أو المركز القومى للترجمة الذى أتاح لى ولسواى نشر العديد من الكتب، ولكن هذا الفضل يرتد بالنسبة إليَّ أنا إلى أبعد من ذلك بكثير، إلى مطلع الثمانينيات من القرن الماضى حين كان يُدرِّس لى ولزملائى فى قسم اللغة العربية عصفور مادة الترجمة من الإنجليزية إلى العربية؛ وما كان يغرسه فى عقولنا ونفوسنا من تأكيد وتشديد على دور وأهمية الترجمة فى نهوض الأمم والثقافات. حين ذاك كنتُ أرى مدى حماس عصفور للترجمة، ومدى شغفه ومحبته لها. 

كان هذا هو الفرق بين عصفور، وسواه من أساتذة آخرين درَّسوا لنا المادة ذاتها فى سنوات أخرى، أساتذة لم يتعدَ دورهم نقل وتحويل النص الإنجليزى إلى النص العربى بشكل آلى تمامًا وأحيانًا بما لا يخلو من أخطاء حتى فى الترجمة. أمَّا عصفور فقد كان يعلمنا إلى جانب الترجمة وأساليب وطرائق الترجمة مسئولية الترجمة أو الترجمة بوصفها مسئولية على أكتاف الدارسين والمثقفين والعلماء من أبناء الأمة.

ودور الترجمة فى تقدم الأمم والحضارات؛ معه عرفنا المأمون و«بيت الحكمة»، وعرفنا رفاعة ومدرسة الألسن، وسمعنا عن «لجنة التأليف والترجمة والنشر» وأحمد أمين وطه حسين وسواهما وما لعبته هذه اللجنة من أدوار فى تنشيط وعى الأمة.

ودور الترجمة وقيمة وأهمية معرفة اللغات الأجنبية الأخرى ومعرفة الآخر. ومنذ ذلك الحين استقر فى ضميرى ووجدانى وأنا ابن المدارس الحكومية، وليس مدارس اللغات، أنه لا بد لى، ولو بعد حين من أن أغدو مترجمًا، وظل يراودنى هذا الهاجس، وهذا الطيف وظللتُ أعمل من أجل نقله من مستوى الوجود بالقوة إلى مستوى الحضور بالفعل.

أقول هذا لأكشف عن وجه من وجوه عصفور الجميلة ومرآة من مرايا عصفور الصقيلة اللامعة، وهى الترجمة، وأنه سواء المشروع القومى للترجمة، أو المركز القومى للترجمة، لم يكن وليد اللحظة التى نشأ أو تأسَّس فيها، وإنما يمثل طيفًا قديمًا كان يتلبس عصفور ويُطارِده قبل أن يقيم هذه المشاريع بزمن بعيد، وأنه لم يكن مجرد مترجم مثل مئات وآلاف المترجمين فى عالمنا العربى.

 

وإنما كان داعيةً، ومُبشِّرًا ونبيًا من أنبياء الترجمة القلائل فى هذا العالم، فهو حفيد المأمون، وحفيد رفاعة الطهطاوى، وحفيد طه حُسَين وأحمد أمين. الترجمة إذًا بالنسبة لجابر عصفور رسالة تستحق وتستأهل ليس فقط ممارساتها؛ وإنما أيضًا الدعوة إليها والتبشير بها، تلك كانت علاقة جابر عصفور بالترجمة كما عرفتُها من خلال تواصلى الطويل معه كتلميذ وصديق.

ومن خلال عشرات الحوارات ما بينى وبينه، ومن خلال مقالاته وكتبه سواء المُترجَمَة أو التى تدور حول الترجمة. إذ فى هذا السياق يمكننا أن نفهم كل تلك المقالات التى كتبها عصفور عن الترجمة.

والتى جمعها فى واحد من كتبه الأخيرة «قاطرة التقدم: الترجمة ومجتمع المعرفة»، والذى كان لى شرف نقاشه فى إحدى الليالى الجميلة فى صحبة عصفور، وكوكبة من الأصدقاء والزملاء بالمركز القومى للترجمة فور صدوره.

إن عنوان هذا الكتاب «قاطرة التقدم: الترجمة ومجتمع المعرفة»، بما هو عتبة نصية، عنوان استعارى بامتياز، وبالغ الدلالة على وضعية المَرْوِى عليهم فى هذا الكتاب، وما تُضمِره وتتضمنه هذه الاستعارة من دلالات وإحالات.

وهى استعارة اِخْتيرتْ صيغتُها فى تقديرى بعناية شديدة؛ فالترجمة ليست قطار التقدم وإنما «قاطرة التقدم»، أى أنها عربة الجر المُلْحَقَة بها والمُتَصِلَة بها عربات الرُّكَاب. وبهذا المعنى فليكى يمكن تحقيق التقدم أو بلوغه لا بد من الحضور الفعَّال للترجمة.

وبهذا المعنى أيضًا تصبح الترجمة شرط إمكان التقدم الذى بدونه لا يمكن للتقدم أن يتحقق. 
الترجمة بهذا المعنى فريضة من فرائض المستقبل، وضرورة من ضرورات البقاء؛ وإلا بقينا فى زمن آخر. قد يتساءل البعض هل كل هذا مُضمَّن فى العنوان؟ والجواب هو نعم، بل وأكثر من هذا أيضًا، إذا ما قرأنا العنوان فى ظل ما يحتويه الكتاب من مقالات. إذ يتضح حجم المأساة حين يحيلنا المؤلف على عينة من نسبة الترجمة فى علاقتها بعدد السكان فى العالم العربى مقارنة بها مع بعض البلدان الغربية الأخرى والتى هى كتاب لكل مليون مواطن فى مقابل 250 كتابًا لكل مليون مواطن؛ إذ ندرك حينئذٍ، مدى ضعف القاطرة التى تجرنا كركاب نحو التقدم وهل يمكنها أن تبلغ بنا حتى أولى محطات التقدم؟ 


السؤال بالتأكيد مُوجِعٌ وقد يكون مُؤْسِيًا ومُؤْسِفًا ومُفْزِعًا أيضًا، ولعل هذا الإدراك تحديدًا هو ما يقف وراء المطالبات والنداءات العديدة التى تزخر بها مقالات الكتاب على ما بينها من مسافات زمنية من أجل أن يكون هناك العديد من المراكز القومية للترجمة، لكي تقوى وتقدر هذه القاطرة على سحب وجر عربات القطار العربى الثقيلة جدًا نحو آفاق التقدم. 


هكذا تبدو الترجمة فى وعى جابر عصفور طيفًا مُؤرِّقًا ومُراوِدًا وهاجِسًا مُلِحًا ومُطارِدًا، لا يكاد يدعه أو يغادره حتى يعاود الزيارة، على نحو ما ينعكس فى تواريخ المقالات الممتدة على مدار هذا المدى من السنوات الذى يجاوز عقدين من الزمان، فيزيد اشتياقه كلما مر الزمان أن يرى هذه الأطياف وقد تحولت حقائق ووقائع، على نحو ما تحقق حلم المركز القومى للترجمة الذى، على حد بيت عزيز أباظة.


 كان حُلْمًا فَخَاطِرًا فاحْتِمَـــــــالا ثُمَّ أضْحَى حقيقةً لا خَيَــــــالا»
فتصبح هناك عشرات، إن لم نقل، مئات المراكز المتخصصة للترجمة على امتداد العالم العربى من أقصاه إلى أقصاه. 
وإذا ما انتقلنا خطوة أخرى مع تداعيات هذا العنوان فى إطار علاقته بمحتوى الكتاب يتضح لنا أن الترجمة بالنسبة لمثقف مثل جابر عصفور ليست مجرد فعل ثقافى تواصلى، وإنما هى فى ظل واقعنا التاريخى الذى يعى أبعاده وتعقيداته وإشكالياته جيدًا فعل سياسى بامتياز.

وأنها بالأساس فعل من أفعال المواجهة والمقاومة بكل معنى الكلمة: مقاومة العدو المباشر (الكيان الصهيوني)، الماثل فى دولة إسرائيل الذى لم تنتهِ جولاتنا معه، والذى تمثل الترجمة إحدى وسائلنا الضرورية والواجبة من أجل فهمه والقدرة على مواجهته على كافة الأصعدة.

وهو ما ينعكس بجلاء فى مقال «حكاية الترجمة عن العبرية» كما أنها أيضًا فعل من أفعال مقاومة هيمنة المركزية الأوربية على الثقافة العربية والإنسانية بعامة. مثلما أن الحرص على تعددية اللغات والثقافات المُتَرْجَم عنها يمثل شكلاً من أشكال مقاومة التبعية للغات وثقافات بعينها على نحو ما يتجلى صراحة فى مقاليه «الترجمة ومقاومة التبعية»، و’’الترجمة بين التحرر والتبعية»؛

ومن ثم فإنها وسيط من وسائط خلق التوازن الثقافى على المستوى العالمى، والسماح لأصوات اللغات والثقافات المختلفة أن تتفاعل وتتحاور مع بعضها البعض. وإذا كانت الترجمة تمثل شكلاً من أشكال مواجهة ومقاومة العدو الخارجى، فإنها أيضًا لا غنى عنها فى مواجهة العدو الداخلى المتمثل فى أولئك الظلاميين الداعين إلى التقوقع والانغلاق على الذات.

وهو ما يعنى أن السياسة حاضرة دومًا ومُباطِنة لأفعال الترجمة، وخصوصًا فى عالمنا العربى.
ولذا، وانطلاقًا من هذه الرؤية السياسية للترجمة نجد عصفور يؤكد على ضرورة «الاعتماد المتبادل» فيما بين الأقطار العربية إذ لن تستطيع قاطِرةُ قُطْرٍ واحد على جر كل هؤلاء الركاب فى عرباتها. ومن ثم نجده ينتقد الانغلاق القُطرى.

ويدعو إلى ضرورة التواصل والتعاون والتنسيق فيما بين مراكز ومُؤسَّسات الترجمة فى العالم العربى وتبادل الخبرات فيما بينها؛ بما «يُؤكِّد قومية الهدف ويجسد قومية العمل والإسهام» (قاطرة التقدم، ص 37). وهو ما يعكس، ضمنيًا، مدى الحاجة إلى العمل المشترك، انطلاقًا من مفهوم الأمة الواحدة التى تجمعها هموم واحدة وآفاق مستقبلية مشتركة. 


وفى مقال الترجمة والنهضة نجد استمرارًا وامتدادًا لاستعارة الترجمة بما هى سلاح وشكل من أشكال المواجهة ولكن هذه المرة المواجهة تكون للذات فى مرايا الآخر وعبر هذى المرايا، إننا مع الاستعارة ذاتها ولكن من زاوية أخرى أكثر تعقيدًا، إذ لا تقتصر الترجمة هنا على معرفة الآخر ومواجهته فحسب، وإنما تتسع وتمتد لتتضمن، إن جاز لنا التلاعب قليلاً بتشبيه ذى الرمة، معرفة الذات ومواجهتها، من خلال «مرآة الغريبة» التى قد تكشف لها فى سياقات النهضة والحاجة إلى النهوض ما لا يمكن أن تكشفه لها مراياها الخاصة والذاتية، سواء كان هذا فى أزمنة النهضة الماضية أو الحديثة.

ومن ثم حاجتنا إلى استخدام مرآة الغريبة لنجتلى فيها ذاتنا، وصور الآخر وصورنا.
كما يرى عصفور أيضًا أن الترجمة فعل من أفعال تفكيك احتكار المعرفة واحتكار أسرار التقدم. بعبارة أخرى الترجمة هنا تصبح نوعًا من أنواع الكشف والنشر والإفشاء وإعادة توزيع المعرفة بما يتيح تحقيق نوع ما من أنواع العدالة المعرفية، ويبتعد بالمعرفة عن ألعاب الكهنوتية والإقصاء. 


كما نجدنا مع استعارة أخرى من استعارات الترجمة الأثيرة والشهيرة وهى الترجمة بما هى جسر يصل الأزمنة والأمكنة واللغات، بما يتيح التواصل. 


وفى ظل علاقة عصفور الحميمة بالتراث وخصوصًا التراث الفلسفى العربى تمثل مقولة الكندى الشهيرة والأثيرة لدى عصفورعن «تتميم النوع الإنسانى» مُحفِّزًا ومِفتاحًا ومُحرِّكًا لكل آلات التقدم التى تأتى فى مقدمتها الترجمة؛ ومن ثم نجده ينطلق من هذه المقولة ليكشف عن استحالة إنجاز ما تنطوى عليه هذه المقولة من قيم دون تواصل وتفاعل جماعات وأفراد هذا النوع الإنسانى وأنه لا سبيل إلى تحقيق هذا بعيدًا عن أفعال الترجمة. هكذا تبدو الترجمة أيضًا فريضة إنسانية تكتمل وتتحقق بها إنسانية الإنسان؛ لأنه لا تحقق لمعنى الإنسانية دون تواصل مع الآخر


وهكذا يمكن القول إن الترجمة فى منظور عصفور هى ممارسة متعددة الأوجه ومتعددة المرايا؛ إذ عبر مراياها يمكن معرفة الآخر ومعرفة الذات، ويمكن مقاومة استبداد الآخر ومقاومة تخلف الذات، كما يمكن عبر مراياها وعطاياها أيضًا التواصل والتبادل مع الآخر.

ومن ثم الارتقاء بالوجود الإنسانى، أو على حد عبارة الكندى المدارية فى خطاب عصفور الثقافى والنقدى «تتميم النوع الإنساني» الذى يمكن القول إن محطة تمامه هى دومًا محطة مُرْجَأة ومُؤجَّلة وأن فعل هذا التتميم ليس سوى رحلة متواصلة بلا نهاية. 


وفى ظل ولع عصفور الدائم بالتأصيل، نجده كما يعود للكندى ليُحفِّز ويحض ويُحرِّض على قيمة الترجمة فى التراث العربى يُعرِّج أيضًا على هذا الكاتب الموسوعى إبى عمرو بن بحر الجاحظ ليُبرز مدى وعيه بقيمة الترجمة ودورها فى تطوير الثقافة وإثرائها. 


مثلما نجده يستقى أيضًا بعض دروس حركة الترجمة القديمة وكيف ينبغى لنا أن نفيد منها وكيف أنها كانت على هذه الدرجة من الوعى والانفتاح والاتساع الذى يعى قيمة تنوع جنسيات وأعراق المُترجِمين، بما يؤكد الحضور الكوزموبوليتانى فى عمليات الترجمة القديمة.


كما نجد ملمحًا آخر فى الكتاب وهو هذا الحرص على محاولة التأريخ لنشأة مؤسسات ومراكز الترجمة كما هو فى المقال الافتتاحى وفى مقاله عن المنظمة العربية للترجمة والمؤتمر السابق لإنشائها، وهو ما يفيد، بالإضافة إلى ما يتضمنه من قيمة تاريخية مُهمة بحد ذاتها، فى إنارة الطريق لأى مشاريع مستقبلية قادمة. 


وبقدر احتفاء عصفور بالجوانب الإيجابية فى حركة الترجمة بقدر انتباهه ويقظته للجوانب السلبية على نحو ما يتجلى فى مقال «سلبيات حركة الترجمة المعاصرة» أو تحديد المُعوِّقات من أجل العمل على إزاحتها. وهنا نجد عصفور على امتداد المقالات يؤكد على أهمية مَأْسَسَة الترجمة وتعدد مؤسساتها.

وأن الجهود الفردية مع كل التقدير لها لن تكفى، وأنه لا بد من جهود مُؤسَّساتية مُتضافِرة ومُتآزِرة. (انظر قاطرة التقدم، ص 57) ومن هذه السلبيات:
التشرذم والعشوائية، كصدور أكثر من ترجمة لكتاب واحد، ( أربع ترجمات لسوسير). (قاطرة التقدم، ص 58)، وكيف يتولد عن التشرذم والعشوائية فوضى المصطلح. 


كما يتعرض عصفور لبعض الترجمات المُشوَّهة سواء على مستوى المصطلح أو على مستوى عمليات الحذف والاختصار. وما يدخل فى نطاق الترجمات التِّجَارية. 


كما نجده، بقدر ما يُشِيد ببعض الجهود التى تقوم بها بعض الدول العربية، يُوجِّه أيضًا سهام النقد للدول العربية فى عدم دعمها الكافى للترجمة. فى مقاله عن الترجمة والدولة، أو فى رقابتها على الترجمة والمنع والقمع على نحو ما يتجلى فى مقال «الترجمة والحرية» الذى تتجاوز فيه إشاراته إلى ما يمكن أن يُوجَد من تواطؤ من قبل الدولة مع التيارات الدينية المتطرفة حدود الإيماء أو الإيحاء والتلميح إلى ما يُشارِف التصريح؛ بما يعنى مسئولية الدولة المُباشِرة عن تنامى هذا التيار الذى تُؤدِّى استجابة الدولة له إلى قمع المُترجِمين وتنشيط أجهزة الرقابة الداخلية لديهم بالضرورة سواء فى عمليات الاختيار أو فى عمليات الترجمة ذاتها وما يمكن أن يُصاحِب هذا من استبعاد كتب بعينها أو حذف أو تحريف.

أو عدم صدور، أو على الأقل تأجيل صدور، أعمال تمت ترجمتها بالفعل على نحو ما حدث مع ترجمة عبد العزيز الأهوانى لدون كيشوت، وترجمة عصفور نفسه لعصر البنيوية.

وسوى ذلك من الحالات. هكذا يكشف عصفور فى مقاليه «الترجمة والحرية» و«ازدواج» مأزق المترجم مع الدولة ومع جماعات الضغط المتطرفة ومع المُؤسَّسات الأكاديمية التى هيمنت عليها أيديولوجيات هذه الجماعات، وتلك التواطؤات البائسة مع قوى التخلف فى مجتمعاتنا السعيدة.


 كما نجده يُعاوِد الكَرَّة ليُؤكِّد هذه الدلالات المرة بعد الأخرى فى مقالات مثل «الترجمة والمدار المُغْلَق» الذى يرصد فيه بعض صور النفور العدائى من الآخر والتقوقع فى مقابل الانفتاح على الآخر فى تاريخنا الثقافى.  

وفى مقال «حرية الترجمة» أيضًا يُشخِّص عصفور مشكلات الترجمة ومآزقها فى العالم العربى فى إطار السياق الأوسع لمشكلات ومآزق حرية الفكر والإبداع والأدوار الرديئة التى يلعبها حراس البوابات الثقافية فى مجتمعاتنا، مِمَّن تدفع بهم القوى الظلامية لمحاصرة الاستتنارة والإبداع. كما يُسجِّل بعض هجمات التيارات المتطرفة على الترجمة على نحو ما كانت تقوم به جريدة الشعب الناطقة باسم حزب العمل.

وحملاتها التكفيرية لناشرى ومترجمى الكتب التى لا تتوافق مع أيديولوجيتها المتطرفة عبر نوع من المُمَاثلة التخييلية المغلوطة بين مؤلفى هذه الكتب ومترجميها والناشر.

وهنا يبدو هذا الرصد شديد الأهمية لذاكرة حركة الترجمة؛ إذ ينبغى لنا عمل أرشيف للمنع والحظر والتكفير وعمليات إرهاب المترجمين والمترجمات نكتب ونسجِّل فيه تواريخ الحظر والمنع والتكفير الطويلة والممتدة فى عالمنا لكيما ندرك أى عالم نواجه، ولكيما يمكننا أن نستبين الأرض التى نقف عليها وننطلق منها. 


كما نجد أن عصفور ليس منشغلاً فقط بالترجمة من اللغات الأخرى إلى العربية بل إنه أيضًا مشغول بالترجمة من العربية إلى غيرها من اللغات على نحو ما يتجلى فى مقاله «من العربية إلى الفرنسية» الذى يستعرض فيه الثبت البيبلوجرافى للكتب المترجمة من العربية إلى الفرنسية لكاميليا صبحى. كما يرصد مشكلات الترجمة من العربية إلى الألمانية وبعض الأعمال التى تمت ترجمتها، راصدًا الدور الذى قام به هارتموت فندريش من الثمانينيات وحتى تاريخ نشر المقال فى 2004 فى التعريف بالأدب العربى وترجمته إلى الألمانية، كما يرصد نسب هذه الترجمات من العربية إلى الألمانية فى توزيعها على الأقطار العربية.

وهو ما يعكس مدى يقظة الكاتب وانشغاله بأمور الترجمة حتى فى دلالالتها الإحصائية. ناهينا بالطبع عن اهتمامه بالترجمة من العربية إلى الانجليزية.


وبقدر ما ينشغل عصفور بالتوزيعات الإحصائية للترجمات عن العربية، فهو ينشغل بالقضايا والتأثيرات النوعية للترجمة قديمًا وحديثًا بداية من ترجمة التراث الإدارى والعلمى منذ الأمويين ومرورًا بترجمة الفلسفة وتأسيس المأمون لـ «بيت الحكمة»، ومرورًا برفاعة والنهضة وتأثيرات الترجمة على نشأة الرواية العربية، وصولاً إلى ترجمات إليوت والمشروع القومى للترجمة.

 
كما يرصد عصفور أيضًا انقطاعات مشاريع الترجمة العربية التى لا تكاد تبدأ حتى تتوقف، وما أن تنطلق حتى تتقهقر، وكأنه يخشى أن يحدث هذا مُجدَّدًا، ولا شك أننا نخشى معه الآن هذا.

بل إن تتبع عصفور لمسارات العديد من مؤسسات الترجمة العربية يكشف مدى قلق عصفور على مستقبل حركة الترجمة ومدى خشيته من تكرار الانقطاعات. بل إن المُتأمِّل لما يرصده يشعر أن هذه الانقطاعات لا يمكن أن تكون من قبيل الصدفة.

ولعل تفسير عصفور لهذه الانقطاعات بأنها وليدة اختلال علاقة الثقافى بالسياسى فى واقعنا لا يعدو أن يكون تلطيفًا يحوى فى ثناياه ما هو أبعد من هذا. ولعل فى هذا الخوف من الانقطاع ما يُفسِّر ما يوجد من بعض التكرار والإلحاح على بعض التيمات والقيم فى مقالات الكِتَاب. 


كما تعكس المقالات أيضًا حرص عصفور على إحياء وإبراز جهود مترجمى النهضة كالطهطاوى والبُسْتَانى وسواهم لكيما يُؤصِّل ويُؤكِّد قيمة الترجمة بالنسبة للمستقبل، كما تعكس حرصه على توسيع نطاق حركة الترجمة بدعوة المترجمين العرب للمشاركة.

فهو حريص على استخدام رموز النهضة فى تحفيز هذا الواقع الخامل والمُتناوِم والمستجيب لإرهاب جماعات التطرف على نحو ما ينجلى فى مقال الترجمة وتفاعل الثقافات الذى يُلقى فيه الضوء على المؤتمر الذى عقده المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة بهذا العنوان ما بين مايو ويونيه 2004 تحت أمانته للمجلس آنذاك، بقدر ما هو حريص على توسيع نطاق المشاركة العربية. وهو بمقالاته عن بعض مؤتمرات الترجمة ينعش أيضًا ذاكرة التأريخ لحركة الترجمة.


كما يكشف لنا فى مقاله عن قضايا الترجمة المعاصرة إلى أى مدى تنطوى الترجمة عن لغات وسيطة على صور عدة من تلوين وتشويه ثقافات وأيديولوجيات هذه اللغات الوسيطة للنصوص المُترجَمة، مُسْتَشْهِدًا بنماذج شديدة الدلالة على هذا كما هو فى حالة الترجمات السوفيتية للماركسية مثلاً التى كانت تُروِّج تفسيرات مُحدَّدة تتوافق والأيديولوجيا السوفيتية، وكذلك الأدوار التى لعبتها وتلعبها المخابرات الأمريكية فى عمليات الترجمة على نحو ما تكشف كتب مثل «الحرب الثقافية الباردة».

و’’من يدفع للزَّمَّار»، أو ما لعبته مؤسسة فرانكلين من أدوار فى الترويج المُسْتَتِر لأيديولوجيا الرأسمالية الغربية ومناهضة نزعات وحركات التحرر الوطنية. ومن هنا يؤكد على قيمة الترجمة عن اللغات الأصلية. 


كما نجده فى مقاله عن «الترجمة بين الاتباع والإبداع» يرصد ردود فعل غالبية المُشاركين فى مؤتمر الترجمة وتفاعل الثقافات على ورقة حسن حنفى ودعواه المُغالِطة التى تقرن الترجمة بالنقل ومن ثم بالاتباع وأنه لكيما نجاوز الاتباع إلى الإبداع علينا أن نكف عن النقل أى نكف عن الترجمة باسم الإبداع. وعلى الرغم من تَهَافُت مثل هذا الطرح نجد عصفور مهتما بتفنيده والرد عليه لئلا يتم القضاء على أحد وسائط الإبداع، وهى الترجمة، باسم الإبداع ولئلا تنطلى حُجته المُتهافِتة على قليلى الخبرة أو السُّذج والمُدَّعين مِمن يرفضون الآخر ويروجون لهذا الرفض باسم الإبداع، خصوصًا فى ظل هذا المفهوم الساذج الذى يقدمه للترجمة بوصفها مجرد نقل.

وتغافله عن كون الترجمة عملاً إبداعيًا أصيلاً بكل معنى الكلمة؛ من حيث تحديها للغة المُتَرْجَم إليها وما ينطوى عليه هذا التحدى من تفجير لإمكانيات تلك اللغة من أجل أن تتسع لاستيعاب اختلاف الآخر، واختلاف ثقافته، من خلال ألعاب النحت والاشتقاق وابتداع كلمات وصيغ جديدة؛ مما يثرى اللغة ويُطوِّرها بشكل دائم لمواكبة العصر، ولعل هذا البعد الإبداعى تحديدًا هو ما حدا بمفكر لغوى مثل ابن جنى لابتداع استعارته البديعة فى الخصائص عن «شجاعة العربية‘‘. 


إن الكتاب بمقالاته البالغة اثنتين وثلاثين مقالة يعكس توتر وقلق مُثقَّف مُؤرَّق بالمستقبل، ومَمْسُوسٌ ومَسْكُونٌ بهموم واقع مُجْهَد ومُنْهَك ومأزوم، وبمستقبل سيظل مجهول الآفاق ما لم يتزود الواقع بالآلات والآليات المُلائِمة لبلوغه؛ ومن ثم لا يفتأ ولا يكف عن مُناشدة قومه أن يعدوا العُدَّة اللازمة لتغيير هذا الحاضر الذى لا يتيح لهم أن يبلغوا آفاق التقدم. إنه أشبه بالرائد الذى يَصْدُقُ أهلَهُ، والذى لا يكفيه أن ينتبه بعضهم فقط دون البعض بل يريد لهم جميعًا أن يفيقوا وينتبهوا؛ ومن ثم فإنه لا يفتأ يُكرِّر النداء بعد النداء، والصيحة بعد الأخرى ليُوقِظ قومه من سباتهم، وكأنه جميل وقد فاض به الوجد: «ألا أيها النوام ويحكم هبوا» .... 


وهكذا، فإن ما سمح لجابر عصفور أن يُنشئ المركز القومى للترجمة، هو أنه نموذج من هذه النماذج القليلة جدًا من المُثقَّفين المُؤسِّسين الذين يمتازون بمجموعة من المزايا الخاصة والاستثنائية، التى قلَّما تتوافر فى مجتمعاتنا، والتى تتمثل في: أنه صاحب خيال، وصاحب إرادة وصاحب رسالة وصاحب مبادرة وصاحب إنتاج معرفى، وأنه حقًا وفعلاً مثقف من أولئك المثقفين القلائل من «أولى العزم» والهِمَّة. ومن ثم فإنه قد استطاع أن يكون مُثقفًا عضويًا بكل معنى الكلمة على الرغم من مؤسسته العريقة، وهذه إحدى مفارقات جابر عصفور التى يمتاز بها عمَّن سواه من المُوسَّسين.


وأخيرًا، وتجاوبًا مع نداءات عصفور، ومُسَاهَمَةً منى فى دعم تلك القاطرة وتزويدها بآلات جر إضافية، فإننى أتقدم بهذا الاقتراح إلى المجلس الأعلى للجامعات فى مصر وإلى كل الجامعات العربية.

وقد سبق لى أن طرحتُه فى المركز القومى للترجمة ليلة نقاشنا أنا والأستاذ الدكتور محمد عنانى، والأستاذ الدكتور أنور مغيث، والأستاذ محمد الخولى، والأستاذ الدكتور خيرى دومة والأستاذ الدكتور جابر نفسه وقد لقى استحسانهم جميعًا. وهو اقتراح متولد عن تأمل تاريخ حركة الترجمة فى العصر الحديث وأهم القائمين عليها والفاعلين فيها، والتى تكشف للمفارقة أن أغلب المساهمات فى مجال الترجمة لم تأتِ من دارسى اللغات الأجنبية والمتخصصين فيها وإنما أتت، منذ رفاعة وما بعد، مِمَّن ينتمون إلى مجالات الثقافة التقليدية واللغة العربية والفلسفة والاجتماع والقانون وعلم النفس، وأن مساهمات المُتخصِّصِين فى اللغات الأجنبية لم تبدأ فى الظهور بشكل لافت ومؤثر، وفيما عدا استثناءات محدودة جدًا.

إلا مع ظهور المشروع القومى للترجمة، ثم المركز القومى للترجمة ومن خلال ضغوط بدأها جابر عصفور؛ إذ لولا مبادراته تلك لظل الحال على ما هو عليه من ضعف هذه المشاركات. لذا فإننى أقترح أن يُضاف إلى جانب المتطلبات الاعتيادية للحصول على الدرجات العلمية فى الجامعات العربية من ماجستير ودكتوراة ودرجة أستاذ مساعد، ودرجة أستاذ كِتَابٌ مُتَرْجَمٌ فى مجال تخصص كل عضو هيئة تدريس من درجة مدرس مساعد إلى درجة أستاذ، وهو ما يعنى أن يقوم كل عضو هيئة تدريس عبر مساره ووصوله إلى درجة أستاذ بترجمة أربعة كتب تزداد درجات صعوبتها وحجمها تبعًا لتدرج تلك الدرجات العلمية. ودعونا نتخيل عدد أقسام اللغات لدينا على مستوى الجامعات العربية، وعدد من فيها من أعضاء هيئات التدريس، وضربها فى أربعة كتب، لندرك ما يمكن أن يتوفر لدينا من ذخيرة معرفية تُثرى اللغة العربية وثقافتنا فى مجالاتها المختلفة والمتنوعة. وتتيح لنا متابعة التطورات فى العديد من المجالات المعرفية الحديثة والمعاصرة؛ إذ لا يُعقَل ألا تفيد اللغة العربية والثقافة العربية من كل هذه الأعداد الضخمة من المتخصصين والمتخصصات فى اللغات الأجنبية وأن تُتْرَك المسألة للهوى الشخصى والصدفة.

بل إنها تحتاج تدخلا ً مُؤسَّسيًا مباشرًا على مستوى المجالس العليا للجامعات فى العالم العربى ولجان الترقيات، واستصدار قررات مُلزِمة بهذا الصدد.

إذ لم تعد الترجمة فى هذه اللحظة التاريخية وفى ظل الانفجار المعرفى الذى يشهده العالم مجرد فرض كفاية، بل لقد أصبحت فى تقديرى فرض عين على كل من يتقن لغة أجنبية، من أجل أن نساهم فى دفع عجلات التقدم لهذه الأمة وجر عرباتنا الثقيلة.

رحم الله جابر عصفور هذا المعلم الكبير والبنَّاء العظيم، وأمد فى عمر مشاريعه ورؤاه الثقافية لمصر وأمته العربية.

 

اقرأ ايضا | وليد الخشاب يكتب: «اختراع» التنوير العربي