وليد الخشاب يكتب: «اختراع» التنوير العربي

وليد الخشاب يكتب :  «اختراع» التنوير العربى
وليد الخشاب يكتب : «اختراع» التنوير العربى

التقيت المرحوم الدكتور جابر عصفور مرات عديدة، وغمرنى أنا وأسرتى بكرمه أكثر من مرة. لكنى أذكر أن أول لقاء بيننا كان «علاقة نصوص» ، وهو تعبير سمعته من المرحوم الدكتور غالى شكري، فى سياق آخر. أدين بالفضل للصديق الدكتور حسين حمودة فى تقديمى للدكتور جابر، حين رشحنى الدكتور حسين لأن أنشر أول دراساتى المحكمة فى العدد الأول لمجلة «فصول”، فى إصدارها وإحيائها على يد الدكتور جابر عصفور فى مطلع التسعينات، حيث كان يعاونه وقتها فى سكرتارية التحرير مجموعة من تلاميذه ومن أهم الباحثين فى تخصصات الأدب العربى الحديث، ومنهم الدكتور حسين حمودة. ومنذ عطف الدكتور جابر على دراستى «مسرح العبث المصرى بين القهر المحلى والقهر المستورد» -وهى بقلم باحث لم يكن قد بلغ الثلاثين من العمر، ولم يكن قد التقى الدكتور جابر شخصياً- والعلاقة متصلة، والعرفان بفضله يزيد.

إعادة تأسيس «التنوير»
بمعنى ما، «اخترع» الدكتور جابر عصفور مصطلح «التنوير» فى مطلع تسعينات القرن العشرين، ونشر عشرات المقالات فى الصحف السيارة والدوريات الثقافية والعلمية مكرساً هذا المفهوم. ثم جمع مقالاته ودراساته فى عدة كتب تحمل فى عنوانها مصطلح التنوير أو الأنوار. ولعل من أهمها كتابه «هوامش على دفتر التنوير» الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة فى 1994.

وتلقفت وزارة الثقافة المصطلحَ، الذى صار عَلَماً على سياسات الوزير الفنان السيد فاروق حسني. ومنذ ذلك الحين، عرف مصطلح التنوير طريقه إلى لغة الخطاب اليومى بين المثقفين والمتعلمين، فى الصحف ووسائل الإعلام، وعلى منصات التواصل الاجتماعي، وفى الحياة اليومية.
قبل أن يعيد جابر عصفور تأسيس مصطلح التنوير ويعيد صياغته بوصفه مفهوماً عربياً، كان لفظ «التنوير» محصوراً فى كونه الترجمة العربية لظاهرة تاريخية فكرية اجتماعية تعبر عن لحظة قصوى فى مرحلة هامة من بدايات الحداثة الأوروبية.

والمقصود هو لحظة اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789 ، والتى اصطلح مؤرخو تلك الحداثة على اعتبارها لحظة تتويج لمرحلة تاريخية وظاهرة فكرية تُشَكِلُ ملامح القرن الأولمن عمر الحداثة الغربية.

ينظر كثير من المؤرخين والمنظرين إلى الثورة الفرنسية باعتبارها ذروة سياسية لقرن كامل -القرن الثامن عشر- من الكتابة والتأمل حول دور العقل وأولويته فى تنظيم المجتمع، وتحديثه على أسس من الديمقراطية والمساواة بين البشر من كافة الطبقات والطوائف.

فالتنوير هو تلك الفترة من القرن الثامن عشر الأوروبي، وذلك الجهد الفكرى والاجتماعى والسياسى الذى تبلور خلالها.

ولفظ «التنوير» هو الترجمة العربية للمصطلح بالإنجليزية، بينما ترجمته عن الفرنسية هى «الأنوار». وليس من قبيل المصادفة أن للدكتور جابر كتابين عن التنوير العربي، واحد منهما يستخدم مصطلح «التنوير» بالإحالة للإنجليزية (كتاب «هوامش على دفتر التنوير»)، والآخر يستخدم مصطلح «الأنوار» بالإشارة إلى الفرنسية (كتاب «أنوار العقل»).


على المستوى المفاهيمي، أبدع الدكتور جابر عصفور باجتباء المصطلح الأوروبى واستيعابه بحيث يصير مصطلحاً محورياً ومفهوماً جوهرياً فى التفكير فى تاريخ الحداثة العربية بدءًا من القرن التاسع عشر.

أما على المستوى المعرفي، فإن إنجاز الدكتور جابر يرقى إلى مرتبة «اختراع» المصطلح، لا مجرد اقتباسه ليلائم الثقافة العربية. لم يكتف جابر عصفور باستبدال مصطلح التنوير بمصطلح النهضة، والذى استقرت أدبيات القرنين التاسع عشر والعشرين على استخدامه كإشارة للجانب الثقافى والفكرى للحداثة العربية منذ القرن التاسع عشر.

بل أعاد المنَظر الكبير صوغ المظاهر الأساسية لحركة النهضة العربية باعتبارها تماثل فى تاريخنا الثقافى حركة التنوير الأوروبية، وتشكل لحظة ثرية وفارقة فى تاريخ المنطقة العربية وتحولات الفكر فيها وتشكلات الوعى فى مجتمعاتها.


النهضة والتنوير
كان منظرو الحداثة العربية يتصورون حركتهم عند منعطف القرن العشرين بوصفها نهضةً تماثل عصر النهضة الأوروبي، واعتمدوا مصطلح «النهضة» بما يشبه الإجماع. ما يضمره هذا الاختيار البلاغى هو أن العرب المحدثين يبنون جسوراً مع تراث قديم، مثلما كان الأوروبيون فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر-فيما عُرِف بعصر النهضة-يعيدون اكتشاف التراث الإغريقى واللاتينى القديم.

ويجتبون هذين المنجزين الثقافيين ومحاورهما القيمية والأخلاقية التى تُعلى من شأن الإنسان فى العالم، ليستخدموهما كإطار فكرى محدث يدعم إنتاجهم الثقافي.

وربما كان الأدق استخدام تعبير «البعث والإحياء» لترجمة مفهوم النهضة فى أوروبا. يُكْتَب اللفظ المعبر عن النهضة بالفرنسية «الرينيسانس”، وهى كلمة تعنى حرفياً:«الميلاد الجديد».

 
اعتمد منظرو ومفكرو الحداثة العرب منذ القرن التاسع عشر تجديدَ اللغة العربية، بما يوازى تأسيس وتكريس استخدام اللغات الأوروبية بديلاً عن اللاتينية فى عصر النهضة الأوروبية، أى ميلاداً جديداً للغة.

لكن تشعبت توجهاتهم فى موقفهم من التراث، فبعض المنتجات الفكرية للحداثة العربية كانت تشتبك مع التراث الإغريقى اللاتينى القديم مثلما كان يفعل الأوروبيون فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر (مثلما فعل طه حسين)؛ وبعض منتجات تلك الحداثة كانت تتحاور مع المنجز الفكرى لعصر التنوير الأوروبى فى القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر بوصفه التراث التى ترتكز عليه (مثلما فعل الطهطاوى وسلامة موسى)؛ وبعض المنتجات الفكرية للحداثة العربية كانت تعتمد الموروث العربى المسلم منذ ظهور الإسلام أو قبله قليلاً بوصفه التراث الذى تستند إليه (مثلما فعل محمد عبده وأحمد أمين).


فى «هوامش على دفتر التنوير»،لا يلتفت جابر عصفور إلى هذا التقسيم الثلاثى لتصورات رجال النهضة/التنوير فى العالم العربى عن التراث. بل ينظر فقط لموقفهم من المنتجات الثقافية للغرب المعاصر لهم باعتبارها «الآخر» الذى يستفيدون منه ثقافياً وفكرياً. كما يميز موقفاً مكملاً يتخذه رجال النهضة/التنوير العرب من التراث العربى المسلم، إذ يستخلصون من تراث «الأنا» هذا الجوانب العقلانية وحدها.

من حيث تدعم وتؤكد الفائدة الفكرية للحداثة القادمة من الغرب. يكتب الدكتور جابر فى «هوامش»: «وكما كان «تخليص الإبريز» استخلاصا لعناصر الفائدة فى الدولة المدنية للآخر، بكل لوازمها الثقافية ومصاحباتها الفكرية، فإن عملية «التخليص» نفسها ابتعثت من التراث العقلانى ما أكدها ودعم حركتها، فأحيت التقاليد الإنسانية فى هذا التراث.

وصاغت منها وبها مفهوما جديدا لنزعة إنسانية محدثة (...) (ص 198-199)». يبدو الدكتور جابروكأنه يعلى من شأن موقفين يقدمهما على أنهما متجاوران متلازمان: النقل/الاستفادة من الغرب، لاسيما منظومة الدولة المدنية الحديثة؛ وابتعاث التراث العقلانى العربى ليمنح شرعية «أهلية» لهذا النقل عن الغرب.
هنا تكمن أهمية استخدام جابر عصفور لمصطلح التنوير بدلاً من مصطلح النهضة. فحركة المُنَظِر الكبير وكتاباته تتشكل معرفياً فى مطلع التسعينات، أى فى لحظة تاريخية هددت فيها جماعات اليمين المتطرف كيان المجتمع الحديث والدولة المدنية بسلسلة من الاغتيالات والأعمال الإرهابية التخريبية، استهدفت مثقفين وسياسيين وسياحا ومنشئات ذات رمزية ثقافية عالية.

واستندت هذه الأعمال الحركية إلى قاعدة فكرية سلفية جهادية تنطلق من تراث «ظلامي» تم تحديثه ليناسب فكر اليمين المتطرف المعاصر، بحيث تنتقل منظومة العلاقة التراثية بين الأنا المسلم والآخر الإفرنجى إلى القرن العشرين، فتصير علاقة بين الأنا الذى يحتكر تصوراً ظلامياً عن الإسلام فى مواجهة الآخر الذى هو كل من لا يسلم بتَسَيُد هذا التصور الظلامى.


فى مقابل «الظلامية» الفكرية، ظهر جهد جابر عصفور كحركة فكرية مضادة، تعتمد التنوير لتبدد ظلمات التعصب الدينى وفكر اليمين المتطرفالشمولى.

وظهر التنوير بوصفه السلاح الفكرى الفعال لمجابهة هجمة اليمين الظلامي، والإطار الثقافى البديل للرجعية الدينية،الذى اكتسب -بفعل تحليلات الدكتور جابر- عمقاً تاريخياً تؤكده جذور تعود إلى ما لا يقل عن مائة وخمسين عاماً -هى عمر النهضة/التنوير فى العالم العربى - قبل التهديدات المسلحةالتى واجهت الدولة فى التسعينات.


التراث كعنصر حداثى
رغم بروز جهد جابر عصفور كسلاح فكرى فى لحظة مواجهة مسلحة بين الدولة الحديثة وجماعات اليمين المتطرف، إلا إن جذرية جهده المعرفى لم تتطرف. فهو لا يدعو لقطيعة مع التراث لتخلو الساحة الفكرية للتنوير وحده.

وأصوله الغربية فقط. يكتب فى «هوامش»: «ولكننا نستطيع أن (...) نبقى على التراث فى حضوره الخاص الذى لا ينسخه حضورنا، ونؤكد وضعه التاريخى الذى لا يتأكد إلا بالوعى بوضعنا نحن، هنا، والآن، فى التاريخ. وعندئذ يمكن أن نفيد منه دون أن نخسر وجودنا، ونتقبله بعضاً من وعينا التاريخى دون أن نلغى وعينا (...)» (ص. 22).


التنوير كما يتصوره الدكتور جابر لا يكتفى باستيراد الحداثة الغربية، بل هو هيكل فكرى يضم مساحة خاصة للتراث العربى المسلم، بوصفه جزءًا من الوعى التاريخى للمجتمعات العربية حالياً.

وهو تنوير لا يعتمد التراث بوصفه قدراً، بل بوصفه مصدر فائدة للعرب المحدثين. يفصل جابر عصفور فى ثنايا الكتاب أمثلة على هذه الفائدة أبسطها هو إضفاء الشرعية التراثية على الحداثة المستوردة من الغرب، وأعقدها هو الانطلاق من هذا التراث لابتعاث نزعة إنسانية معاصرة تعتمد على جذور متضمنة فيه.


أستاذ الدراسات العربية، جامعة يورك، كندا

اقرأ ايضا | «أيقونات قبطية» بمتحف محمود سعيد