حديث الأسبوع

إجبارية التلقيح والديمقراطية والسياسة وأشياء أخرى

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

مؤشرات كثيرة ومتعددة ترجح استمرار انشغال المجتمع الدولى بالانتشار المتجدد لفيروس كورونا الذى استطاب المقام بين ظهرانى البشرية..

كما تواصل الانشغال العالمى بإصرار هذا الفيروس اللعين عبر ردود الفعل التى أبدتها مختلف حكومات العالم تجاه التطورات المرتبطة باستمرار الوباء فى التجدد وإبداع المتغيرات الجديدة، حيث وأمام عجز العلوم والمختبرات عن القضاء النهائى على الفيروس، اضطرت حكومات الدول فى العالم إلى الاحتماء فى تدابير احترازية، تحاول من خلالها محاصرة انتشار بقع الزيت فى مساحات الشك والريبة والقلق التى تسببت فيها تداعيات الجائحة إلى اليوم.


وفى ضوء كل ذلك كان، وسيبقى، من الطبيعى احتدام النقاش داخل الدول فى مختلف أرجاء المعمور بين حكومات تعتبر نفسها مسئولة على أمن وسلامة شعوبها، ويقودها ذلك إلى اتخاذ إجراءات وتدابير حمائية متشددة، وبين فاعلين حقوقيين وسياسيين وشعبيين، رافضين لما يعتبرونه تضييقا على حريات الاختيار والتنقل والتجول والحق فى الولوج إلى جميع المرافق والفضاءات العمومية، دون أى شروط أو تقييد يحد من هذه الحريات والحقوق فى دول كرست دساتيرها وتجاربها السياسية هذه الحريات والحقوق.


هذا الاحتدام فى الخلاف والتجاذب وصل أوجه فى كثير من الدول الأوربية التى انتقلت حكوماتها إلى مرحلة جد متقدمة فى التدابير الاحترازية المتشددة بأن أعلنت فى البداية إجبارية التلقيح، الذى لم يعد فى هذه الدول مسألة اختيارية يحق للأشخاص ممارسة حقهم المشروع فى الاختيار. .

فالحكومات الغربية تبرر هذه الخطوة المتشددة بأنها لا تقبل أن تتسبب الأقلية من الأشخاص التى رفضت التطعيم ضد الوباء فى تهديد سلامة وأمن الأغلبية من المواطنين الذين تلقوا الجرعات الكاملة .


وبغض النظر عن موقف منظمة الصحة العالمية التى اختارت الاحتماء فى المنطقة الرمادية، فيما يتعلق بالموقف النهائى والواضح من إشكالية إجبارية التلقيح، بحيث اعتبرت بأن آخر الدواء هو الكى، بأن أوصت بعدم الالتجاء إلى الاجبارية إلا بعد استنفاد جميع الجهود والمحاولات، فإن هناك دولا غربية وضعت أكثر من خطوة فى مسار فرض هذه الإجبارية، بعدما تأكد أن دول القارة الأوربية لاتزال بعيدة عن تحقيق المناعة الجماعية بعدما لم تتجاوز نسبة التلقيح فى دول القارة العجوز 66 بالمائة من مجموع المستحقين للتلقيح.

والأكيد أن احتدام الخلاف حول اتخاذ التدابير الاحترازية المتشددة بصفة عامة فى القارة العجوز بالتحديد، لا يعود إلى مرجعية علمية ولا أخلاقية حتى، بل يطرح كإشكالية بحسابات سياسية صرفة بين الفاعلين السياسيين. ويبدو أن العالم المتخصص الذى سئل عن الموعد المحتمل لنهاية فيروس كوفيد وعودة الحياة البشرية إلى طبيعتها، رد بالقول إن هذا السؤال يجيب عنه السياسى وليس العالم المتخصص.

وباستطلاع أولى لمواقف المكونات السياسية فى دول القارة الأوربية تتضح الحسابات السياسية. وأن مواقف الأحزاب السياسية الأوروبية تتخذ على أساس خلفيات سياسية صرفة.

وهكذا نلاحظ أن أحزاب اليمين فى ألمانيا وفى النمسا أعلنت معارضتها الشديدة والحاسمة لإجبارية التلقيح، وقادت حركات احتجاج وتمرد ضد القرار، بيد أن أحزاب نفس اليمين فى رومانيا واليونان وبولونيا ليست ضد هذه الإجبارية، بل إن الحزب اليمينى المتطرف فى رومانيا يدافع عنها بكل ما أوتى من قوة.

وما قيل عن اليمين ينطبق تماما على أحزاب اليسار فى دول القارة العجوز، بحيث إذا كانت مكونات اليسار فى ألمانيا وفى النمسا عارضت بقوة إجبارية التلقيح، فإن أحزاب اليسار فى كل من اليونان وبولونيا ورومانيا لم تعلن معارضتها لهذه الإجبارية لحد اليوم، بيد أن مكونات الطبقة الحزبية فى مجموع الدول الإسكندنافية وفى دول كإسبانيا والبرتغال تحاشت الغوص فى هذا الوحل، ربما لأن القضية ليست مطروحة بنفس الحدة بالنظر إلى ارتفاع نسب تلقى اللقاحات فى هذه الدول، والتى ناهزت فى دولة السويد مثلا 90 بالمائة، وبالتالى تحققت فيما يقارب مناعة صحية.


هذه المعطيات وغيرها كثير تؤشر عن غياب النسق فى المرجعية السياسية تجاه التعاطى مع قضية بطبيعة علمية صرفة، والافتقاد إلى البعد الإيديولوجى المنسجم مع إشكالية عمقها علمى وتقنى صرف.

وقد نغامر بالقول إن السياسة تفعل فعلها فى مواجهة تحديات خطيرة جدا ترتبت على أزمة صحية طارئة.
< نقيب الصحفيين المغاربة