ومضة

مين ميحبش سعد !

صابر سعد
صابر سعد

على عكس الكثيرين، لم أتمنَ تحقيق ما كان يصبو إليه والدي أن أصير أفضل منه.. فقط كنت أحاول أن أصبح على مقربة منه في أخلاقه وصفاته.

 

منذ أيام معدودات أفقدني الموت أبي الحاج سعد، ونشر شريط الذكريات أجنحته محلقا سريعًا أمام عيني التي ذرفت دموعًا لم تنضب بعد.

 

كانت أمي –متعها الله بالصحة- تروي لي أن والدي عندما بُشر بغلام كان يعتزم تسميته «أحمد»، لكنه عدل عن رغبته بعد أن عرضت والدتي الأمر عليه إرضاءً لأرملة قريبة له رزقها الله بـ6 بنات، فجبرًا لخاطرها أطلق أبي على المولود «صابر» وهو نفس اسم زوجها.

 

مرت الأيام والسنون، وأذكر أنني ذات مرة هربت من الكتاب في قريتي الريفية التي أقطن بها، فما كان من أبي -رحمه الله- إلا أن وبخني وضربني وشَدَّ عَضُدي حتى صرت متقنًا لقراءة كتاب الله.

 

لم يدخر شيئًا من صحته وماله ووقته لنفسه، وإنما اختصنا بكل ما يملك، فكان يؤثرنا على نفسه وَلَوْ كَانَ بِهِ خَصَاصَةٌ، حينما كنت صبيًا لم أكن أرَ أبي سوى سويعات معدودات، فكان يكد لسد رمقي وأخي وأمي التي تزوجها في غرفة بالطين اللبن حتى فتح الله عليه وستره وأبدله دارا خيرًا من داره.

 

في ريعان شبابه بالتحديد حينما أتم التاسعة والثلاثين ربيعًا، ساق إليه الطبيب نبأ إصابته بالتهاب الكبد الوبائي «سي»، لكن أبي لم يفقد إيمانه بربه ولم تثبط عزيمته وتحمل اللآلام كي يعبر بنا إلى شط الأمان حارمًا نفسه من مُتع الدنيا ولذاتها حتى الدواء لم يكن ذا جد في جلبه إذا كان لأحدنا مطلب حتى ولو كان ليس له أهمية.


 
على مدار ٣٦ سنة - وهو عمر زيجة أبي من أمي - لم تترك والدتي البيت وتذهب إلى أهلها غضبًا من والدي سوى مرة واحدة فقط، وفيها صمم والدي أن يعيدها لمنزلها في أقل من ٢٤ ساعة.

 

ليس هذا فحسب، فمنذ أن تزوج أمي وحتى وقت قريب، كان أبي يَبْتَاعُ كل ما يلزم البيت ويحضره لوالدتي التي لم أرها تذهب للسوق طوال ٣٠ عامًا، كما كان موسوعيًا في أمور المنزل يصلح أي شيء معطل.


«ما غضب على طعام قطُّ».. ربما لا تزال تلك العبارة محفورًة في ذهني حتى الآن، كما كان عادلا حتى أننا فؤجئنا به -بعد وفاته- يهب شيئًا مما يملك لأمي لتعويضها عن كفاحها معه. 

 

قلبه كان معلقًا بالمساجد، وكان يؤمن إيمانًا راسخًا أن الدين المعاملة، حتى بات القاصي والداني يشهد بسماحته -غير المعهودة للكثيرين- فقد كان لينًا سهلا.


على مدار 22 عامًا، أنهك المرض جسده حتى أضحى نحيلا وَخَرَّ جسده أمام ما لا يقوى عليه، وطوال تلك الفترة لم يشكُ لنا ولم ينطق ببنتِ شَفَةٍ، حتى «آه» لم نسمعها، فكان صبورًا على ما تنوءُ عن حمله الجبال.  

 

سريعًا تدهورت صحته بشكل مفاجئ وتوفي فور دخوله العناية المركزة، لكن ما أثلج صدورنا أن أبي قبل أن تفيض روحه إلى بارئها تلى قوله تعالى: «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ» حتى نهاية سورة البقرة، ثم نطق بالشهادتين.

 

 رحمك الله يا جابر الخواطر وجعلني يا أبي على الدرب الذي أفنيت فيه حياتك.