«إنجيل مها» رواية في نظام الحكم ودور رجل القانون

إنجيل مها
إنجيل مها

صبحى موسى

تهدف رواية «إنجيل مها» للكاتب المستشار حسن هند، الصادة مؤخرا عن دار ابن رشد، إلى رصد ما جرى من تطورات فى المجتمع المصرى خلال المائة عام الأخيرة، وتحديدا منذ ثورة 1919 حتى ثورة 25 يناير 2011 وما بعدها.

كما ترصد كيف انتقلت مصر مرتين من الحالة الثورية إلى الحالة السياسية، موضحة أن رجل القانون لعب دورا كبيرا ومؤثرا فى هذا الانتقال، ففى ثورة 1919 كان رجل القانون فى المقدمة، وكل رجالات الدولة كانوا من القانونيين، وفى ثورة يوليو أسس رجل القانون لسلطة جديدة ودولة جديدة حين قال عبدالرازق السنهوتى جملته الشهيرة  «المنحل لا يعود»، فحكم بذلك بعدم عودة النظام البائد بأى شكل من أشكاله إلى الحياة السياسية بعد ثورة يوليو، وفى 25 يناير لعب قانونى آخر دورا جديدا مغايراً تمثل فى استعادة النظام القديم ومنحه قبلة الحياة، حينما قدم «العمري» حسبما اسماه حسن هند فى «إنجيل مها» إعلانه الدستورى فى 19 مارس 2011، هذا الاعلان الذى نقل الثورة من الميادين إلى صناديق الانتخابات عبر الاعتماد على مجموعة من القوانين المختارة من دستور 1971.


وجاءت رواية حسن هند كنوع من التشريح والتأمل لمسار الحياة السياسة والاجتماعية فى مصر عبر قرن كامل من الزمان، قرن انتقلت فيه البلاد من الديمقراطية وتعدد الأحزاب إلى الصوت الواحد والحزب الواحد، ثم الانفتاح الذى أعاد للباشوات القدامى أموالهم، كى تسقط فى يد طبقة جديدة من السماسرة والتجار، هؤلاء الذين تاجروا بالدين من أجل تنمية مصالحهم فى إطار اتفاق غير معلن مع السلطة، حيث يتركون لها الحكم وتترك لهم الشارع وحرية التجارة وتداول الأموال فيه، وكانت النتيجة نوعًا من الزواج شبه الأرثوذكسى ما بين السلطة والإخوان، وكان رجل القانون في كل الحالات مهندس هذا الزواج، حتى قامت ثورة 25 يناير وسقطت كل الاتفاقات والعقود، فكان لابد من اللجوء إلى رجل قانون جديد كى يهندس اتفاقا جديدا يخص الانتقال الجديد.


في هذه الرواية قسم حسن هند مسيرته الزمنية إلى ثلاثة أجزاء، الأول من ثورة 1919 حتى ثورة 23 يوليو، كانت الشخصية الرئيسية فيها هى حلمى باشا السنهوتى، الذي فكر والده في كيفية تعميده داخل السلطة الحاكمة، وبعد تأمل رأى أن رجالات القانون هم الطبقة الحاكمة بعد الثورة التى أتت بسعد زغلول زعيما لها، ومن ثم دفع به للسفر إلى فرنسا كي يدرس القانون وينفتح على قيم المجتمع الأوروبى وثقافته.


أما المرحلة الثانية زمنيا فى «إنجيل مها» فهى مرحلة السبعينات والانفتاح الاقتصادى الذى قلب الأوضاع والأفكار رأسا على عقب، وأتى بطبقة جديدة لتسود الحياة الاجتماعية، وأتى بتيار فكرى كان منبوذا ليكون فى مقدمة الحياة السياسية بفرقه وجماعاته وأفكاره وتمويلاته وتقاطعاته مع السلطة وخروجاته عليها، والتى لم تنته بمقتل السادات لكنها أسست لاتفاق ضمنى بينه وبين سلطة مبارك على أن يتوقفوا عن العنف مقابل توفير الحماية الكاملة لأموالهم وتجارتهم فى الشارع المصرى، مثلت ثريا حلمى السنهوتى دور البطولة فى هذه الحلقة الزمنية، ليس لأنها كانت صاحبة البطولة الحقيقية ولكن لأنها ابنة حلمى السنهوتى ووريثته، هى وشقيقها حسن، فضلا عن زواجها من رجل عجوز كان يمتلك المال الكافى لأن تعيش فى المستوى الذى ترغب وتحلم فيه، وحين استردت هى وشقيقها أموال السنهوتى باشا من إدارة الحراسات لم يكن هناك غيره ليديرها، فأدخلها فى شركاته وأمواله، لتزداد تجارته وتتوسع قدراته المالية، وتفقد هى وشقيقها ما آل إليهما من ثروة، وينتهى الأمر بأن يصبح حسن السنهوتى وكيل علامات تجارية، بينما اكتفت هى بالوقوع فى علاقة حب مع ضابط أمن مكلف برقابتها، ويعمل كعميل مزدوج لصالح السلطة من جانب ولصالح زوجها الاخوانى العجوز واسع الثراء من جانب آخر.

 


تفتتح الرواية صفحاتها بالحديث عن مها التى تحتفل بعيد ميلادها الخامس والعشرين فى ميدان التحرير، فى نفس الليلة التى يعلن فيها مبارك تنحيه عن السلطة، لنعرف فيما بعد أن مها هى ممثل الجيل الثالث لعائلة السنهوتى، فهى حفيدته من ابنته ثريا، ووالدها هو رجل الأعمال الإخوانى الذى يتاجر فى كل شىء ويستخدم كل الناس من حوله لصالح تنمية أمواله، وفى نفس المشهد تظهر لنا شخصية أحمد عطية السلفى الذى عمل فترة فى الخليج وعاد ليدير باسمه بعض من شركات والد مها، ونتعرف على علاقاته النسائية العديدة، وكونه شخصية تتمتع بانتهازية شديدة. وتكاد علاقة مها بأحمد عطية تهيمن على المرحلة الثالثة زمنياً فى الرواية، وهى مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير حتى سقوط الإخوان وخروجهم من الحكم، ولكن أهم اللحظات التراجيدية فى هذه المرحلة هى لحظة الفتوى بالإعلان الدستورى فى 20 مارس 2011، والتى أعطت لدستور 71 قبلة الحياة من جديد، وهى على نقيض فتوى السنهورى قديما عقب ثورة يوليو بأن البرلمان المنحل لا يعود، ومن ثم لم يتم السماح بعودة الوفد إلى الحكم، ولا عودة الحياة الحزبية من جديد، فانتقلت السلطة من الدولة البائدة إلى سلطة الضباط الأحرار.


لا يمكن أن تتضح المرحلة الثالثة، والتى من أجلها كتبت الرواية، إلا بفهم المرحلة الأولى، وهو ما سعى حسن هند إلى التأكيد عليه، عبر تركيزه على دور رجل القانون فى تطور مسار العمل السياسى المصرى من ثورة 19 حتى ثورة 30 يونيو، وكى نتعرف على هذا الدور فكان لابد من البحث فى العقل الباطن للجماعة المصرية منذ ثورة 19 حتى الآن، حيث بدأ رجل القانون فى المرحلة الأولى بوصفه النخبة الحاكمة، ثم أصبح فى مرحلة يوليو وما بعدها المساعد الذى يقدم الحلول الفنية للسلطة، ثم أصبح فى المرحلة الثالثة المثقف الذى يخون ثورته لأجل جماعته وانتمائه، ومن ثم كان من الطبيعى أن يصل الإخوان إلى البرلمان فى نهاية عام الثورة، ويشكلوا لجنة الدستور ويصلوا إلى سدة الحكم فى العام الذى يليه، لكنهم لم يجلسوا على كراسيهم أكثر من عام.


تتعدد شخصيات الرواية وفقا إلى مراحلها الثلاث، ففى المرحلة الأولى، وهى العصر الملكى نجد فيها، القطبين القانونيين وهما السنهوتى باشا وحسن الهضيبى المرشد الثانى لجماعة الاخوان المسلمين، ويخلق الكاتب لكل من أبطال الرواية شخصيات نسائية وقعت فى غرامهم أو العكس، ففى الوقت الذى أغرم فيه الهضيبى بزينب الغزالى، فقد أغرم السنهورى بالأميرة سلوى وهى فنانة تشكيلية وأميرة من الدرجة الثانية فى أسرة محمد على، بينما وقع السنهوتى نفسه فى حب جيهان أبو العلا، سيدة الأعمال وأرملة رئيس حزب وصاحبة صالون ثقافى، متخلياً عن حبه لزوجته كاترين الفرنسية، وربما كانت هذه المرحلة أكثر المراحل غنى فى شخصياتها الفاعلة، وربما كان إيقاع الحكى بهدوئه أكثر ما مميز هذه المرحلة فى وضوح شخصياتها وحضورهم الفنى، فى حين تداخلت شخصيات المرحلة الثانية بشخصيات المرحلة الثالثة، وكثير منها كان شريكاً فى المرحلتين، وغالبها لم تكن شخصيات أساسية ولا فاعلة، مما جعلها تبدو نوعاً من الدلالة وليس الفعل الفنى، فضلاً عن سرعة إيقاع الحكى التى جعلت الرصد يبدو كما لو أنه لوحات سريعة متوالية، فلم تستطع أى من الشخصيات أن تشكل حضورا فاعلا بقوة شخصيات المرحلة الأولى، رغم كثرة الأحداث والتفاصيل التى رصدها المؤلف من خلال كل منهم.


تعد هذه الرواية واحدة من أهم الأعمال الفنية التى رصدت الثورات المصرية خلال القرن الأخير، بل إننا يمكننا الذهاب إلى أنها رصدت تطور الحياة السياسية فى مصر الحديثة، بدءا من مجىء محمد على إلى السلطة، وتغييره لبنية المجتمع المصرى بالقضاء على المماليك والقضاء على نظام الالتزام الذى كان معمولاً به، والتأسيس لنظام جديد يكون محمد على فيه هو الصانع الوحيد والزارع الوحيد والتاجر الوحيد، أى أن الدولة تمارس سلطتها القوية على كل شىء، هذا الوعى الذى وضعه محمد على وظل سائدا طوال المراحل الثلاث، حتى أن الملك فى حكومات ما بعد 1919 كان يمكنه أن يقيل الحكومة ويعيد تشكيلها فى أى وقت وكما يريد، رغم وجود البرلمان والدستور، ومن ثم فقد أكدت الرواية من خلال مراحلها الثلاث على أن خطة محمد على فى نظام الحكم فى مصر كانت ومازالت هى الخطة المعتمدة حتى الآن.