"ماذا سيكون تأثير الموت علي وعلى الآخرين؟ ..لا شيء، ستنشر الصحافة نبأ موتي كخبر مثير ليس لأني مت..بل لأن موتي سيقترن بحادثة مثيرة!!".

تلك الكلمات قالها يوسف السباعي في روايته "طائر بين المحيطين"،عام 1971، وكأنه يعلم كيف ستكون النهاية..

فلم يكن " فارس الرومانسية ورائد الأمن الثقافي" ، جبانًا يومًا، وحتى اللحظة الأخيرة له في الحياة لم يخف الموت، وتحد الخوف من القتل بشجاعة ولكن .. قُتل بدم بارد ، وذلك في رحلة هي الأسوأ في تاريخ مصر حيث كان "السباعي" وزير الثقافة المصرية، قادمًا من أمريكا متجهًا إلى العاصمة القبرصية على رأس وفد مصري للمشاركة في مؤتمر "التضامن الأفرو آسيوي السادس"، الذي عُقد لصالح القضية الفلسطينية.
وكان يوسف السباعي أمين عام للمؤتمر، وفي يوم 18 فبراير، نزل السباعي من غرفته بفندق "هيلتون" واتجه نحو قاعة المؤتمرات، وفي طريقه للقاعة توقف أمام منفذ لبيع الكتب والجرائد ولم يكن يعلم أنها المرة الاخيرة التي يرى فيها الكتب والجرائد، فأُطلقت عليه ثلاث رصاصات غادرة استقرت في رأسه وفارق الحياة في لحظة.



لماذا اغتيل السباعي؟

سؤال يدوي في أذهان الكثيرين لماذا قُتل " يوسف السباعي"، هل ذلك يرجع لمواقفه التي لم يُختلف عليها، أم لقربه من الرؤساء، أم مرتبط بزيارة الرئيس الراحل محمد أنور السادات "للكنيست"، التي كان يرافقه بها السباعي.

وكانت إجابة قاتلي السباعي على هذا السؤال واضحة " حيث ادعوا أن السباعي كانت له مواقف معادية للقضية الفلسطينية، مستندين على زيارته والرئيس السادات لإسرائيل، وتناقضت الأنباء، إذ أعلن فى البداية أن القاتلين فلسطينيين، واتضح فيما بعد أن أحدهما فلسطيني والآخر عراقي.


السادات يثأر ... قطع العلاقات مع قبرص

اعتبر الرئيس الراحل محمد أنور السادات أن "قبرص" دولة غير معترف بها، وأمر بقطع العلاقات معها، وذلك لما أثارته التكهنات حول تورط الحكومة القبرصية في جريمة قتل السباعي واختطاف أربع مصريين آخرين.

فبدء الشك يراوغ "السادات" بعدما أمر فريق من الصاعقة بتنفيذ عملية ثأر وتحرير المختطفين، فأرسل في اليوم التالي طائرة تقلّ مجموعة من رجال الصاعقة إلى قبرص بهدف القبض على المجرمين وتحرير الرهائن المحتجزين على متن الطائرة القبرصية، في السادسة مساء طلب قائد الطائرة العسكرية المصرية الإذن بالهبوط في مطار "لارناكا" مدعياً أن على متنها وزيراً مصرياً حضر خصيصاً للتفاوض مع المجرمين، ولكن عندما علم الرئيس القبرصي "سيبروس كابريانو" ، بأن الطائرة تحمل ضباط صاعقة توتر كثيرا ورفض تدخلهم، واعتبر ذلك تعدي على دولته، ولكن قائد الصاعقة لم يهتم لذلك وأمر فرقته بالهجوم على طائرة الخاطفين، ومن ثم تبالوا إطلاق النار، وعلى الفور هاجمت قوات الحرس الوطني القبرصي والميلشيات الحزبية المسلحة قوات الصاعقة المصرية ودارت معركة استمرت حوالى 50 دقيقة، أسفرت عن تدمير الطائرة العسكرية المصرية بالقنابل ومقتل 15 من رجال الصاعقة المصريين وجرح ما يزيد على 80 من الطرفين وألقي القبض على من تبقى من قوات الصاعقة المصرية، فامتلأت أرض المطار بجثث الجنود المصريين بين قتيل وجريح.
مما جعل السادات يعلن أنه سحب الاعتراف بقبرص وبرئيسها، واستدعاء البعثة الديبلوماسية من نيقوسيا، كذلك طالبت الحكومة القبرصية بسحب بعثتها الدبلوماسية من القاهرة.

ويذكر أن السلطات القبرصية ألقت القبض على قاتلي يوسف السباعي، وحُكم عليهم بالإعدام، ولكن تعرضت الحكومة لتهديدات حال إعدام القاتلين مما جعل رئيس قبرص يصدر قرارا بتخفيف العقوبة للسجن.




جنازة السباعي.. هتافات ضد فلسطين
أقيمت جنازة السباعي، في 19 فبراير عام 1978، ولم يحضرها الرئيس السادات وأناب عنه نائب رئيس الجمهورية حينذاك "محمد حسني مبارك"، ووزير الدفاع "محمد عبد الغني الجمصي".
وتحولت جنازة السباعي إلى تظاهرة ثائرة ضد القضية الفلسطينية، ومنددة بما تعرض له الوفد المصري في قبرص، مما جعل الرئيس السادات يقرر حرمان الفلسطينيين من حقوق المواطنة التي كانوا يتمتعون بها في مصر والتي أقرها الرئيس جمال عبد الناصر لهم منذ عام 1954.


حقيقة موقف السباعي من القضية الفلسطينية

لم يترك "رائد الأمن الثقافي"، بابًا لم يدافع فيه عن القضية الفلسطينية، وذلك ما أكده بكتاباته التي تعد خير دليل على دعمه للقضية الفلسطينية، حيث كتب عشرات المقالات دفاعًا عن قضيتهم، كما أن روايته " طريق العودة" تتحدث عن القضية الفلسطينية بشكل مباشر، وتشير إلى ضرورة عودة اللاجئين الفلسطينيين .


نبذه عن مشوار السباعي
لم يكن السباعي وزيرًا للثقافة فقط، ولكنه كان قائدا وأديبا وصحفيا ومفكرا سياسيا، ولد في 10 يونيو ١٩١٧ بالسيدة زينب، وقد تخرج من الكلية الحربية عام ١٩٣٧، وعمل مدرسًا بها، ثم عمل مديرًا للمتحف الحربي عام ١٩٥٢، وتم ترقيته إلى رتبة العميد وكان لعلاقته القوية الأثر في دعمه للأدب حيث كان وسيطا لعرض فكرة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية ، على الرئيس جمال عبد الناصر، الذي وافق عليها وأمر بتعيينه سكرتيرا عاما للمجلس، ثم توالت إنجازاته في مجال الأدب من إنشاء "نادي القصة"، ومن ثم تعيينه وزيرًا للثقافة، وظل يشغل منصبه إلى أن اغتيل في قبرص في ١٨ فبراير ١٩٧٨
.
قدم السباعي ٢٢ مجموعة قصصية وأصدر ١٦ رواية، وله مسرحية بعنوان "أم رتيبة" ونال جائزة الدولة التقديرية عام ١٩٧٣وعددًا كبيرًا من الأوسمة، ورأس تحرير عدد من المجلات والصحف منها الرسالة الجديدة وآخر ساعة والمصور والأهرام.