«محمود» أسطورة السوبيا والعرقسوس

 عربة العصائر الصغيرة
عربة العصائر الصغيرة

عندما يشتد القيظ وترتفع درجات الحرارة يجف الحلق وتتشقق الشفاه من العطش؛ وقتها تصبح عربة العصائر الصغيرة سفينة نوح، المرفأ الوحيد الذي تهفو إليه القلوب قبل أن تركن إلى جواره الأجساد المنهكة. تبدو العربة صغيرة ولكنها تضم جميع المشروبات الشعبية المعروفة، وتظهر خزائن العصير من بعيد لامعة كنجوم السماء، تتقاطر منها حبات الماء بتمهل شديد وإغراء واضح يجعلك تحتلب ريقك اليابس بحثًا عن نقطة ماء فلا تجد، وقتها لا مفر سوى الارتكان إلى هذا الكائن الأسطوري الوحيد الذي سيروي عطشك.

في كل زاوية من العربة الصغيرة آية قرآنية مكتوبة بالخط العربي وتم اختيارها بعناية لتزيد من إقبال الزبائن، وفي الواجهة: {وسقاهم ربهم شرابا طهورا}، وفي الجانب آية أخرى: {وجعلنا من الماء كل شيء حي}، وعلى الجانب الآخر كلمة: الأسطورة للعصائر والمشروبات

تعمل يدا "محمود" بطريقة آلية في إعداد أكواب "التمر هندي" و"العرقسوس" و"السوبيا" للكبار، وإغلاق الأكياس الصغيرة للأطفال الذين يعطونه الجنيهات القليلة سريعاً وهم يجرون فرحين بأكياس العصير، وعندما لا يدفع أحدهم يبتسم له وهو يقول: "اليوم فقط، وغدًا ستدفع"؛ يركن سائقو التكاتك ليرطبوا على أنفسهم بكوب عصير بارد، وقد يشير إليه أحدهم من بعيد فيجهز له الكيس في ثوانٍ ويناوله له سريعاً، وعندما أندهش لأنه لم يتقاضِ أجرًا، يبتسم ويقول: "الحساب يجمع، كل عدة أيام يدفعون مرة واحدة، فهم زبائني وبيننا عشرة عُمر".

يلبس "محمود" برنيطة إفرنجية كأنه زاهي حواس الصنعة، يضحك ويقول: إنها تحميني من شمس الصيف ومطر الشتاء، كما أنها أصبحت علامة مميزة لي، وأعتقد أنني إذا خلعتها فلن يعرفني أحد!..

اقرأ أيضا| مشروبات العيد.. أسرار الهضم السليم بعد وجبات اللحوم

يناولني كوب العصير المخصوص، ويقطع حديثنا عدة أطفال تركوا أمهاتهم وجروا ناحيته، فبدأ بإعداد أكياس التمر لهم وهو يبتسم ويسأل كل واحد منهم عن الحضانة وما قرأه اليوم فيها، ولكن الأطفال ينشغلون بشرب العصير، بينما ترد الأمهات بشكاوى مكررة عن شقاوة الأطفال.

ينتبه "محمود" إلى أنه قطع حديثنا فيلتفت لي، وهو يقول: لا مؤاخذة يا أستاذنا! كنت تسألني عن دراستي، أنا طالب في الفرقة الرابعة، بكلية دراسات عربية وإسلامية جامعة الأزهر، والحقيقة أنني قضيت بها مدة طويلة وأنوي التخرج هذا العام، دعواتك! فقد خرجت إلى هذه الدنيا لا أعرف غير هذه المهنة التي هي أيضًا مهنة أبي، لدينا أسرة كبيرة وإخوة في المدارس، ولا بد أن أقوم بدوري كما يجب.. أقول له: يبدو أنك المنافس الوحيد في حي العمرانية كله، إذ عرفت أن كبار السن يفضلونه عليك، فما قصة هذا التنافس؟ يضحك "الأسطورة" وهو يقول: "فعلًا، أبي معه عربة مثل هذه تمامًا، ولكل واحد منا زبائنه، ولا شك أنه يملك خبرة كبيرة عني في مجال إعداد العصائر، غير أنني أكثر تفاعلًا مع الشباب والأطفال الذين يحبون الضحك والهزار معي".

يتوقف فجأة، وينزل عليه سهم الله، وكأنه تذكر واقعه المرير حين يقول: " لدينا مصروفات متزايدة بالجامعة، والكتب أصبحت فقط إلكترونية، ولا أحب القراءة بهذه الطريقة، كما أنني أضطر لتفويت عشرات المحاضرات بسبب العمل الذي يمثل لي أولوية قصوى لا غناء عنها؛ كل هذا إضافة إلى ارتفاع أسعار السكر وتأثير ذلك على كمية المبيعات التي قلت مؤخرًا، إذ لا يشتري مني سوى البسطاء والأطفال، فالكيس الصغير بثلاثة جنيهات فقط، والكوب بخمسة جنيهات، وهي أسعار بسيطة لا يأتي منها سوى ربح بسيط جداً، لكنه هو كل دخل أسرتنا".