محمد نور يكتب: حروب القاهرة الصامتة

محمد نور
محمد نور

لا شك أن حروب الاستننزاف والحروب بالوكالة وحروب الإعلام الإستخباراتية هى من تسود حالياً، والطبيعى لكل الدول التى هى مطمع من الآخرين أن تتعرض لواحدة من تلك النوعيات، لكن مصر وحدها هى التى تعرضت لكافة أنواع الحروب وفى وقت واحد.

ففى الوقت التى تواجه فيه الدولة المصرية التهديدات من كافة جبهاتها الاستراتيجية وتخوض تحديات متنوعة اقتصادية كانت أو سياسية أو أمنية، لكنها تقبض على جمر من نار فى سبيل عدم تفجير الأوضاع بشكل يخرج عن السيطرة .

فمثلاً أزمة الحرب على غزة والتى هى من أعقد وأخطر الأزمات فى العقود الأخيرة، تحاول القاهرة أن تحافظ على معادلة غاية فى الصعوبة لا يقدر عليها أحد، تارة تمارس الوساطة والتهدئة وتحاول منع التصعيد وتتفاوض بدبلوماسية بالغة، وتارة تراها تكشر عن أنيابها فى مناورات عسكرية لتشكيلات جيوش الجبهة الشرقية، أو فى بيانات المصادر رفيعة المستوى التى تضع الخطوط الحمراء هنا وهناك، أو فى صلابة الموقف المصرى ووضح رؤية ومحددات الدولة التى أعلنها الرئيس السيسى منذ اليوم الأول للأزمة.

من يستطيع صبراً أن يتحمل كل هذه الضغوط لتحقيق التوازن فى هذه المعادلة المعقدة غير قيادة القاهرة؟!

إن سياسة الدولة المصرية حالياً قائمة على صبر استراتيجى وقوة ردع تلوح بها وتستخدمها فى التوقيت المناسب، فجميع الأطراف تعلم أن صبر مصر الذى يظنه الجاهلون ضعفاً ما هو إلا قوة غاشمة تحاول مصر أن ترشد فى استخدامها، لأن ببساطة شديدة تستطيع مصر أن تغير المعادلة فى دقائق، وتشعل المنطقة بأسرها بخطوة واحدة منها، تستطيع أن تجعل إسرائيل كلها فى ملاجئها فى فزع ورعب لم يروا مثله قط، تستطيع أن تجعل الأمريكى يخسر كل ما حاول جمعه من عناصر للسيطرة والتمكن على مدار عقود من الزمن، تستطيع أن تحدث خللاً فى ميزان القوة الدولى الذى تقوم حروب عالمية عند اختلاله .
لكن مصر أكبر وأرشد وأقوى من أن تسعى للدمار والخراب ولكن… لن تتردد القاهرة لحظة واحدة بدعم شعبى كامل أن تفجر الأرض ومن عليها إذا تم تهديد الأمن القومى المصري.

لذلك تحاول مخابرات القاهرة العامة أن تقوم كعادتها بجهود خارقة من أجل إتمام صفقة الهدنة لكى تنطفئ نيران هذه الحرب، فبين رعب إسرائيل من مشهد النهاية الذى سيودى بقادتها للسجن، وبين تهور الفصائل الفلسطينية التى لا تحتسب لتبعات هذه الحرب .. تقف مصر وحدها ولا بديل أبداً عن دورها الذى حاول العديد أن ينتزعه منها لكنها محاولات بائسة، فالقاهرة هى عنوان الحل دائماً وتملك ما لا يملكه أحد غيرها .

فإسرائيل التى تحاول بيأس شديد أن تبحث عن أى نصر ولو زائف أن تضغط على مصر بملفى معبر رفح ومحور فيلادلفيا حيث تصر القاهرة بتصميم بالغ على أن تنسحب القوات الإسرائـيلية من معبر رفح قبل أن تسمح بإعادة تشغيله مرة أخرى، ولا تعارض مصر أن يكون المعبر من الجانب الفلسطينى تحت إدارة فلسـطينية أممية مشتركة، فيما تعتبر إسرائـيل أن انسحابها من المعبر هو هزيمة كبرى وتفويت فرصة غاية فى الأهمية حيث تطبق إسرائـيل حصارها الكامل على قطاع غـزة عن طريق السيطرة العسكرية على معبر رفح .

إسرائـيل ادعت أنها حققت سيطرة عسكرية ونيرانية كاملة على طول محور فيلادفيا، خلافاً للحقيقة وما تظهره صور الأقمار الصناعية من  أن الجيش الإسرائـيلى لا يرتكز داخل المحور بمعداته الثقيلة أو قوات المشاة، وإنما يستقر ويناور خارج المحور بمسافة لا تقل عن 200 متر، ولكن دخلت القوات الإسرائـيلية بالفعل داخل المحور لثلاث مرات لعدة دقائق التقطت فيها بعض الصور والفيديوهات وأخرها كانت تلك التى حدثت فيها اشتباك نيرانى بين القوات المصرية والإسرائـيلية والتى أسفرت عن مقتل 3 جنود إسرائـيليين وإصابة 7، واستشهاد جندى مصرى واحد فقط .

ورغم ذلك تصر القاهرة على ضرورة عدم القيام بأى نشاط عسكرى إسرائـيلى داخل المحور وإلا سينتج عنه فتح النار من قبل القوات المصرية تجاه مصدر الخطر، وهذه هى الرسائل التى وصلت قولاً وفعلاً إلى الإدارة الأمريكية والتى نشرتها جريدة وول ستريت جورنال قبل عدة أيام وأوضحت أن القاهرة مستعدة للتعامل العسكرى فوراً إذا حدثت اشتباكات داخل محور فيلادفيا عرضت قواتها للخطر .

ستحاول الإدارة الأمريكية فى القاهرة التأكيد على ضرورة عدم تكرار ما حدث من اشتباك مباشر بين الجيش المصرى والإسرائـيلى مرة أخرى لما له من نتائج كارثية على إتفاقية السلام التى تهم الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من أى شئ آخر .. وهنا ستحاول أمريكا الضغط على مصر لغض الطرف عن الأنشطة العسكرية الإسرائـيلية بداعى تواجد عدد من الأنفاق التى تعبر بين سيناء وقطاع غـزة كما تدعى إسرائـيل كـذباً .

ولكن موقف الدولة المصرية واضح ومباشر، حيث تنفى القاهرة تماماً وجود أى أنفاق عاملة بين سيناء وقطاع غــزة حتى لو عثرت إسرائـيل على فتحات للأنفاق من الجانب الفلسطينى فهى أنفاق خارج الخدمة ومن جانب واحد فقط، كما ستتمسك القاهرة بموقفها الرافض لأى أنشطة عسكرية داخل فيلادلفيا يعرض سلامة قواتها للخطر ويخترق بنود الملحقات الأمنية لمعاهدة كامب ديفيد.

ستفرض مصر كلمتها فى النهاية رغماً عن الجميع، ولن يجرؤ أحد على الإقتراب من أمنها القومي، وستظل مصر حامية وحارسة للقضية الفلسطينية وإن أضاعوها أبناءها .