جاهين ونجم وإبراهيم ناجي.. ثلاثة شعراء بعيون الزوجة والابنة والحفيدة

نوارة ونجم
نوارة ونجم

جرجس شكرى

ثلاثة كتب صدرت فى عام 2023 «صورة شخصية لزوجة شاعر» و«أنت السبب يابا» و «زيارة حميمة تأخرت كثيرًا» الأول كتبته منى قطان الزوجة الثانية لصلاح جاهين بعين العاشقة، والثانى مشاعر فياضة من الابنة نوارة نجم نحو الوالد أحمد فؤاد نجم، والثالث رحلة قامت بها الحفيدة سامية محرز إلى حياة الجد إبراهيم ناجى.

ثلاثة كتب بعيون الزوجة والابنة والحفيدة حول ثلاثة شعراء من أجيال مختلفة واتجاهات متباينة، ولد ناجى عام 1898 ومات مقهوراً  1953، وصلاح جاهين الذى ولد عام 1930 فى ديسمبر نفس الشهر الذى ولد فيه ناجى وفارق الحياة منتحراً عام 1987 كلاهما مات ولم يكمل العقد السادس، أما نجم الذى ولد قبل جاهين بعام  1929 عاش حياة صاخبة ورحل شبعانا من الأيام وفقا لوصف التوراة لمن عمّروا طويلاً، ليس فقط شبعان من الأيام، بل ومن الأشعار والمعارك والكلام والمحبة.

كتاب «صورة شخصية لزوجة شاعر» الذى جاء فى قسمين وخاتمة أقرب إلى جملة طويلة سريعة الإيقاع لا تتوقف رغم تداخل الأزمنة والأمكنة تمتد ما يقرب من سبعة عقود، تبدأ من النكبة فى فلسطين 1948 وتمتد حتى صدور الكتاب 2023 للمؤلفة، الطفلة التى نزحت مع أهلها من حيفا بعد النكبة وعمرها أربع سنوات لتستقر فى القاهرة وتتنقل بين العديد من الدول الأجنبية والعربية مثل القاهرة، لندن، زيورخ، روما، الخرطوم.



فى البنية العميقة للكتاب الذى يجمع بين الحكى الأقرب إلى السيرة الذاتية والبناء الروائى ممثلاً فى بناء الشخصيات وملامحها المتقنة وسرد الأحداث بضمير الغائب «هى وشاعرها» يشاهد القارئ التحولات الاجتماعية والسياسية التى مرت بها مصر فى تلك الحقبة، وأيضا تحولات القضية الفلسطينية وذلك من خلال الشخصيات الثرية والمثيرة التى تطرحها الكاتبة مثل الأم «جاكلين خوري» الصحفية فى جريدة «الأهرام» القادمة من حيفا، والتى انتهى بها المطاف إلى مصحة للأمراض العقلية ثم الانتحار، والأب صاحب الأطوارالغريبة المغرم بالعشيقات الذى انفصل عن الأم، واصطحب الطفلة قبل أن تعود لأمها فى سويسرا والسودان! وشخصيات أخرى عديدة جعلت هذا الكتاب أقرب إلى رواية توثيقية، بالإضافة إلى الشخصية التى من المفترض أنها الأساس وهو صلاح جاهين الذى لم يرد اسمه ولو لمرة واحدة، تشير إليه بـ «شاعرها» وهكذا مع الشخصيات الأخرى التى حضرت من خلال صفاتها وأفعالها دون أسماء.

يبدو صلاح جاهين كطيف فى زحام الأحداث السياسية والاجتماعية والشخصية للكاتبة ولكن بلغة المسرح هو القوة الفاعلة التى تحرّك الأحداث، فى كتاب لا تنقصه الجرأة الشديدة وكتابة اعتمدت على البوح بخفايا النفس دون عوائق أو رقابة فلا شيء يقف فى وجه الحقيقة، حتى وإن حذفت الأسماء، وبين الحين والحين يظهر صلاح جاهين، حين تسرد الكاتبة تفاصيل العلاقة بينها وبين الشاعر أو «شاعرها» كما تسميه سواء فى اللقاءات الأولى، أو تفاصيل الحياة بينهما والتى يشاهد القارئ من خلالها صورة حية ومجسدة لهذا الشاعر وصولاً إلى ليلة رحيله التى أكدت أنه كان انتحاراً «وشاعرها – لماذا تركها هو أيضا إثر جرعة دوائية زائدة؟ ألم تكن صحبتهما تحميه؟ فمنذ خمسة أيام استيقظت فوجدته فى مقعده الوثير بحجرة مكتبه، يبدو مستغرقا فى نوم عميق حاولت أن توقظه دون جدوى، بدأت تهزه وتدلك جبهته وأنفه بالكولونيا. لاحظت شريط دواء فارغا فى سلة المهملات» .

 

وعلى الرغم من أنه كان يكبرها بأربعة عشرة عاما، جعلته فلسفته كولد فى سن المدرسة يلهو بالكلمات، يبنى ويعيد الكلمات والمعانى كما يفعل طفل بمكعباته الملونة ليخلق منها أشكالاً شتى حتى يفرغ من لعبته متجها إلى أخرى بحثا عن المزيد من التحدى والجدة والتشويق، وظنى أنه أدق توصيف لصلاح جاهين الشاعر والرسام وكاتب السيناريو، فيلسوف البسطاء!

هذه الفتاة التى عاشت حياة قاسية ليس فقط بدءاً من معاصرة النكبة مروار بالتنقل بين عدة مدن وانفصال الأب والأم وصولاً إلى الأب الذى كان يرفض أن تناديه بابا أمام الفتيات الجميلات! لقد ولدت منى قطان الزوجة الثانية لصلاح جاهين ضمن الطائفة الكاثوليكية فى حيفا وكانت جدتها أرثوذكسية وتحوّل والدها لدين الإسلام لأسباب تعود إلى قوانين الزواج والطلاق كما ذكرت فى الكتاب.. وعاشت فى مصر سنوات التكوين فى ستينات القرن الماضى حين كان للاشتراكية الكلمة العليا ونظرياتها حديث المثقفين. تحكى منى قطان فى هذا الكتاب عن نفسها هذا ما يبدو من خلال البنية السطحية، ولكن فى البنية العميقة  يطل صلاح جاهين من بين السطور الشاعر العاشق والطفل الذى يشعر بمرارة الهزيمة.

وأنت السبب يابا – أنا والفاجومي
ربما يصلح هذا العنوان «نجم واليسار المصرى بعيون الطفلة نوارة» للكتاب أو على الأقل لجزء كبير منه، فلم يكن الكتاب بعيون الطفلة تماما ولكن تدخلت نوارة بعقلية المرأة التى خاضت تجارب عديدة وعاركت الحياة السياسية سنوات طويلة من خلال تجربة ثرية وقاسية حافلة بالمشاركة فى المظاهرات والاحتجاج منذ أن كانت طالبة فى الجامعة وتم القبض عليها فى معرض الصناعة احتجاجا على مشاركة إسرائيل، ولم تتوقف بعدها عن المعارضة.

عيون الطفلة تبدو حاضرة فى الفصول الأولى للكتاب الذى يلقى الضوء على حقبة الستينيات من خلال زواج وانفصال نجم والناقدة صافى ناز كاظم، وسنوات السجن لكليهما الأب والأم، وسفر الأم والطفلة إلى العراق وزواجها من د.عبد الأمير الورد وهى تعمل فى جامعة بغداد، لمدة ثلاث سنوات ثم عودتها إلى مصر، لنقرأ من خلال تلك الفترة العلاقة السيئة بين السادات والمثقفين ومعاناة هؤلاء من استبداد تلك الفترة.  

الكتاب حافل بمجموعة من الرموز السياسية لحقبة الستينيات سواء رفقاء نجم، مثل الشيخ إمام ومحمد على ونجيب شهاب الدين وغيرهم وصولاً إلى شباب شاركوا فى ثورة يناير، بالإضافة إلى رفقاء الأم، شاهندة مقلد، وداد متري، أمينة رشيد، منى أنيس ورضوى عاشور، وغيرهن من النساء. هذه الشخصيات جزء من البنية الأساسية رغم أن الشخصية الرئيسية هى نجم، إلا أن الشخصيات الأخرى مؤثرة وفاعلة وأقرب إلى مجموعة من الخطوط الدرامية الثانوية، ورغم الأحداث العامة والشخصيات العديدة، إلا أن الكتاب يحمل طابعا خاصاً أقرب إلى الذكريات التى تبدأ من الطفولة وتستمر ما يقرب من أربعة عقود، فثمة مساحة كبيرة لشخصية نوارة وحياتها بدءاً من طفولتها فى العراق مع زوج الأم وزيارتها لنجم فى المعتقل، ثم مغامراتها فى اللقاء معه فى عالمه الغرائبى  ومروراً بالمدرسة والأصدقاء وعلاقتها بالأم وارتداء الحجاب.  

نجم قدم نفسه من خلال «الفاجومي» وحياته كتاب مفتوح وظنى أن المهمة كانت صعبة لكن دون شك لدى الابنة ما لا يعرفه سواها، عن حياة الأب والأم عن المشاعر والتفاصيل، نعم حياة نجم معروفة، لكن فى هذا الكتاب ثمة تفاصيل بين الأب والام ليست خاصة بقدر ما تكشف جزءا من قضايا الواقع المصري. 

لقد كتبت الابنة بالفطرة دون حواجز، دون ترتيب أو قواعد، كتابة تشبه حياة الفاجومى، كتبت ما تشعر به، كتابة حرة لها مذاقها الخاص أثناء القراءة، طبيعية بدون مواد حافظة، بدون مكسبات للطعم، وكما كان لهذا الأسلوب جمالياته، تسبب أيضا فى جعل هذه الكتابة حالة خاصة جدا رغم أنها عن شخصيات وأحداث عامة، فالشخصيات والأحداث بعين نوارة فقط، من خلال طابع ساخر يناسب نجم فى الكتابة، الابنة تبدو صورة مصغرة، خليط من الأب والأم، تقول عن نجم: «هذا طفل يتيم انتمى فى يوم إلى أكبر عائلات الشرقية. ذات التاريخ القديم جداً والأملاك الشاسعة الواسعة، لا تجد أمه ابنة العمدة ما يكفى قوت أبنائها فترسل به إلى الملجأ ليقضى تسع سنوات عجافا مع عبد الحليم حافظ، طفل ذكى لم ينل حظه من التعليم، شاب موهوب لم يجد فرصته للتفتيش عن مواهبه إلا فى السجن بعد أن قبض عليه فى جنحة، إنسان حر عبر عن رأيه بالكلمة فقضى أجمل سنوات شبابه وكهولته فى السجن، فقير ومحروم، على الرغم من السخرية المستمرة قضى عمره على مائدة اللئام! 

هذه صورة نجم بعيون الابنة فى كتاب يتراوح بين حكايات طبيعية كالماء والهواء وبين التعليق عليها، بين الخاص جدا والعام والمزج بينهما، الكاتبة تعلم أن لديها مادة أقرب إلى الكنز وهى الحياة الغريبة والثرية لأحمد فؤاد نجم ورفاقه وعصره، وأيضا الناقدة المتميزة صافى ناز كاظم. وظنى أنها اكتفت بطبيعة هذه الحكايات وطزاجتها وكانت تقصد هذا، أى أن تقدم حكايات أو قل صورة شخصية لنجم من قريب بعين الأبنة، صورة طبيعية تنتمى إلى المذهب الطبيعى الذى يصورالشخصيات والأحداث تصويراً فوتوغرافياً لا تعمق فيه ولا صنعة ولا حبكة، أقرب إلى حياة نجم المثيرة والطبيعية والتى تخلو من كل ما هو زائف ومصطنع.  
 
عملية تفكيك وإعادة تركيب إبراهيم ناجى 
لم تقدم سامية محرز مجرد أوراق نادرة ومثيرة لإبراهيم ناجى من واقع يومياته ورسائله، ولم تكتف باقتفاء أثر الجد فى سنوات حياته وسيرته بعد الرحيل، بل من مادة  السيرة والأوراق وحديث العائلة والأصدقاء قدمت بحثاً استقصائياً حول حياة إبراهيم ناجى وشعره، كان بمثابة تفكيك هذه الشخصية وإعادة بنائها مرة أخرى، وأقصد تفكيك الصورة النمطية التى نعرفها عن شاعرالأطلال وفقا لما كتبه بعض المعاصرين واللاحقين عنه، بعضهم من واقع أوراقه وأشعاره، وأيضاً من واقع المجايلة مثل صالح جودت وآخرين. 

لكن الحفيدة الأكاديمية والناقدة لم تتوقف فقط أمام الخبيئة التى عثرت عليها ممثلة فى أوراق إبراهيم ناجي، من خلال مفكرته التى دون فيها بعض اليوميات وبعض الرسائل، بالإضافة إلى مسودة ترجمة سونتات شكسبير وإن كانت غير مكتملة، والتى احتفظت بها خالتها ضوحية ابنة إبراهيم ناجى وحملتها معها من مصر إلى أمريكا، وحاولت إعدادها للنشر فى خطوة لم تكتمل، بل وعكفت الحفيدة على دراسة أوراق الجد وأعماله وما كُتب عنه، وقامت بدور المحقق مع ما تبقى من أفراد العائلة والأصدقاء، وحتى من الأجيال التالية التى توفر لها معلومات وحكايات عنه.

الحفيدة تعرّفت على جدها من خلال قصيدة «العودة» التى كانت مقررة فى كتاب النصوص ولم تحبها «لأنها جعلتنى مدعاة لسخرية زميلاتى وزملائى حديثى السن» مات إبراهيم ناجى قبل عامين من ميلاد الحفيدة «كنت لم أطأ الدنيا بعد عندما رحل فى عامه السادس والخمسين فإذ بى اليوم أكبره سناً وتيقنت فى الفترة الأخيرة أن الوقت قد حان لأشن حملة تفتيش فى أوراقه الشخصية ومسودات أشعاره وذكريات كثيرة فاجأتنى بحضورها بعدما كنت نسيتها أو لم أفهم معناها فأثرت أن أبحث عن أشياء تجمعنا «جدى وأنا» وتقريبا هذا ما حدث فى فصول الكتاب، لتبدأ من فضاء الحكاية ليلعب المكان دوره كحاضنة للأحداث والحكايات، من شبرا مقر العيادة إلى مصر الجديدة فى شارع النواوي، إلى أماكن أخرى، لكن هذين الفضاءين لعبا دوراً كبيراً فى تجسيد الأحداث أو فى حملة التفتيش التى شنتها الباحثة عن شخصية جدها فى أوراقه ومسودات أشعاره. حيث انتقل ناجى وزوجته من الإقامة فى بيت الجد أحمد ناجى بشبرا إلى مصر الجديدة.
 
كانت حريصة على وصف مفردات المكان مثل مخرج مسرحى يبنى ديكور المشهد حتى يحقق التواصل بين الكلمة والصورة، حجرة النوم، غرفة المعيشة، مكتب الجد، الجيران، موقع البناية، وكانت أولى المفاجآت بالنسبة لى اختفاء مكتبة ناجى بعد وفاته المكتبة التى وصفها «هذه هى الرحلة، رحلة العمر. من يريد أن يؤرخنى – إن كان لهذا التاريخ أهمية – يلقى نظرة على المكتبة يقرأ تواريخها، يقرأ الهوامش والتعليقات يقرأ على صفحتها الأولى أين وكيف ولماذا اشتريت؟ لقد عشت أقرأ، وقد أسقط فى الميدان والكتاب فى يدي» لكن لم يحقق له القدر هذه الأمنية، حيث مات الشاعر حين سقط فوق صدر أحد مرضاه!

 وانتشر الخبر فى شبرا قبل أن تعرف الأسرة، مات الدكتور ناجى فجأة وكانت المفاجأة أن المكتبة بيعت لرابطة الأدب الحديث بموجب عقد بين الزوجة سامية سامى والأخ محمد ناجى الذى خلف الشاعر فى رئاسة الرابطة بحضور المحامي، وتم البيع بمبلغ 70 جنيها تم إيداعها فى المحكمة تسديدا لديون صدرت فيها أحكام نهائية ضد شاعر الأطلال! وتم استثناء الأوراق المخطوطة التى كلفت وزارة الثقافة لجنة بمراجعتها وإعدادها للنشر مكونة من صالح جودت وأحمد رامى ومحمد ناجي.

واحتفظت ضوحية بالمذكرات والأشعار غير الموزونة موضوع هذا الكتاب والتى ظلت تتنقل معها بين مدن عديدة حتى وصلت إلى سامية محرز التى تساءلت  سؤالا سوف يكون له تأثير كبير فى تناول الأوراق وقراءة حياة ناجى وملامح شخصيته «نحن إزاء تساؤل أخلاقى مقلق: هل تراجعت خالتى عن النشر حفاظا على أسرار جدى الذى لم تكن له أسرار فى الواقع، أم حفاظاً على الصورة المثالية التى صنعتها هى واختاها لجدى؟ وما حدث أن أستاذة الأدب العربى لم تضع أى محاذير فى قراءة الأوراق بل وبحثت جيدا حتى تكشف عما وراء هذه المخطوطات عن طريق الاستقصاء والتحقيق من خلال الأهل والأصدقاء وما كُتب عنه، وتساءلت لصالح من نمارس تلك الرقابة ونحذف التاريخ السرى ليظهر صاحب الأوراق مسخاً مشوهاً معصوماً من الخطأ والخوف.. فهل لى أن أعيد إنتاج جدى وأبقى عليه فأبقى على الجفاء وأهجر الكتابة؟ وتجيب على سؤالها قائلة: أهم سمة فى المذكرات الفضح والفضيحة على كل المستويات وهنا تكمن شعبية المذكرات.

ولم تتخل محرز فى كل صفحات الكتاب عن هذه الفكرة التى تسعى من خلالها لقراءة وتقديم المسكوت عنه فى حياة الجد.  

لقد وضعت القارئ فى عالم إبراهيم ناجى ومنحته فكرة جيدة عن المخطوطات وصاحبها، بل ودخل معها إلى فضاء الحكاية، إذ بدأت فى تقديم الرسائل بين إبراهيم وسامية «هومه وسومة» ولم تقدم عرضا للرسائل بقدر ما قدمت نقدا لها، لتبدأ بالسر الأكبر فى حياته «ع . م» التى ظلت حباً مستحيلا ً «جرح غائر ظل يلازمه طيلة حياته» قبل أن يرتبط بجدتها سامية سامى صاحبة هذه الرسائل، وسوف تتبع بشغف وفضول أثر «ع. م» حتى نصل إلى حقيقتها، وها نحن الآن فى المنصورة التى يعمل بها الطبيب إبراهيم ناجى بعد زواجه مع «28 خطاباً مؤرخة بين عامى 1928 و1929» كُتبت للزوجة على ورق الروشتات وورق مراسلات القسم الطبى بسكك حديد مصر.

 وأول ملاحظة أن الجدة لم تكن ترد أو تكتب إلى ناجي! وتلاحظ أن أهمية الخطابات تكمن فى كونها وثائق فى التأريخ الإجتماعى لتلك الفترة، بالإضافة لكونها نموذجا مثيراً لعلاقة الشاعربهذا الجنس الأدبى. 

الرسائل جاءت بالفرنسية والعربية وحاولت الكاتبة أن تقرأها فى سياقات العلاقات العائلية فى تلك الطبقة الإجتماعية، وتداول الحكايات وفضح الأسرارفى إطار بنية اجتماعية تؤثر السرية كواجهة من واجهات الاحترام. وهذا ما أعلنته فى البداية، فالرسائل الحافلة بعبارات الحب والغرام قرأتها الكاتبة فى سياقها الإجتماعى بل وقرأت ما وراء الرسائل من حكايات عرفتها من الأسرة، حكايات تفضح ما هو مستور! 

وهكذا تبدأ رحلة التصالح مع الجد من خلال إزالة الغبار عن الصورة النمطية والجامدة التى رسما لها معاصروه ودارسوه، لتدحض ما كتبه صالح جودت عن «ع . م» الملهمة الأولى وسار فى أثره آخرون وما ترتب على هذه الأكاذيب، ثم تستعرض الحكايات حول هذه العلاقة الشائكة والتى كانت مشاعاً، حاول الجميع البحث عن ملهمة الأطلال والحبيبة المجهولة، تبحث فى عقل إبراهيم ناجى من خلال أوراقه، تقتفى أثر هذه المحبوبة من خلال التفتيش فى كتابته وتبدأ من تقديم كتابه مدينة الأحلام «أما ديكنز فقد حبب لى الأدب على الإطلاق وأما ديفيد كوبرفيلد، فقد خلق منى شاعراً وجعلنى أبحث عن – دورا – أخرى أشرب منها خمر الحياة وأتلقى من شفتيها أسرار الوجود، سامحه الله لقد عذبتنى دورا هذه وشطرت روحى شطرين. أراد أبى شيئا وأراد ديكنز شيئا وأراد القدر شيئا غير هذه !» وسوف تظل المحبوبة المثيرة للجدل شبيهة بدورا التى كتبها ديفيد كوبر فيلد.

تعلم ناجى الفرنسية بطريقة غريبة وبسرعة فائقة لكى يقرأ قصة «التلميذ» لبورجيه إكراما لهذه المحبوبة، تكشف الباحثة ليس فقط حقيقة هذه الرموز «ع. م» بل هى المسئولة عن توجهه الرومانسي، ومن خلال المؤرخ حسين عمر تبدأ فى كشف حقيقة المُلهمة من خلال استقصاء الحكاية واقتفاء الأثر إذ يكشف لها عن حقيقة العلاقة المجهولة والسر الذى تكتّمه ناجى طيلة حياته وترك العنان لمخيلة العديد من الناس لتخيل هذه العلاقة، حيث تقدم  لخطبة علية محمود الطوير، وليس عنايات اختها بطلة القصة الملفقة لصالح جودت وقوبل طلب ناجى بالرفض وكان ذلك ما بين عامى 1921 و1922، وتزوجت علية بعد عام من محمود سبع، ويؤكد الراوى حسين أن علية أصيبت بإكتئاب بعد تقدمها فى العمر، وهى المثقفة التى تعلّم ناجى بسبها الفرنسية.

 تتبعت الحفيدة هذه الحكاية مع أميرة ابنة علية المقيمة فى كندا، ليكون لها رأى آخر وتؤكد أن ناجى لم يطلب يد علية وحكت أن والدتها كانت تساعد ناجى فى الصغر لتعلم الفرنسية وأن صداقة أدبية جمعتهما فى سن مبكرة، ومن حديث سامية مع السيدة أميرة سبع ابنة المٌلهمة علية تنفى أى علاقة عاطفية بين ناجى وأمها! وتبرر الزيارات بصلة القرابة بينهما، وتصف العلاقة بالرومانسية! تتساءل الحفيدة ماذا كان يقولان فى تلك الزيارات، هل كانا يتحدثان عن الأدب فقط.. هل كان يتباكيان على أقدارهما؟ لم تكن سرابا ولا عطفا. وأنا أنحاز لهذا الرأى فقد كانت العلاقة حقيقية يؤكدها كما عرضت الحفيدة ليومياته  بتاريخ 10-12-1946 «وتحدثنا خلسة فى الطريق، وأدعت أن الذنب ذنبى فى تركها» هذه السيدة التى كانت فى أعوامها الأخيرة تجول طرقات البيت تؤكد لنساء العائلة أن قصيدة الأطلال كٌتبت لها!

بعد أن عاشت سامية محرز مع أوراق جدها وتغلغلت وتوغلت فى أعماق حياته تقمصت شخصيته، حلت روحه فيها، فكتبت كما كان يحب، تماهت معه كما يبدو فى صورة غلاف الكتاب فكتبت عنه كما كان يعيش وكما كان يحب أن تكون الكتابة فى زيارة وإن تأخرت لكن كان عنوانها الحميمية، رأت خلالها من قريب، ورغم بعد المسافة الزمنية، التفاصيل اليومية لحياة إبراهيم ناجى فى النصف الأول من القرن العشرين.